قضية الحريري
وعلاقتها بمخطط القضاء على الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا بمعرفة العلم، وسهل أخلاقنا بالحلم، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وارزقنا اللهم الإخلاص لوجهك في كل من القول والعمل.
وبعد: فهذا هو الدرس الحادي والستون بعد المئة التاسعة في سلسلة دروس رياض الصالحين، ولكني أخبرتكم في يوم الاثنين الماضي أنني سأتوقف في هذا اليوم عن متابعة دروسنا في رياض الصالحين، وأننا سنتحدث عن موضوع الساعة من الجانب الإسلامي، من الجانب الذي يحملنا مسؤوليتنا تجاه مولانا وخالقنا جل جلاله.
ووفاء بما وعدتكم به سنتحدث اليوم بهذا الموضوع، سائلاً الله عز وجل أن يلهمني الرشد، وسائلاً الله عز وجل أن يجعل عملي وأعمالكم خالصة لوجهه.
أولاً بين يدي حديثي هذا - أيها الإخوة - ينبغي أن ألفت أنظاركم إلى أنني لا أبتغي فيما سأقوله الآن استرضاء أيّ من الناس، ولا إسخاط أي من الناس، وإنما أبتغي من حديثي هذا أن نؤدي واجباً كلفنا الله عز وجل به، مهمةً أناطها ا لله عز وجل بأعناقنا عندما خلقنا عبيداً له، وحملنا مسؤولية عمارة الأرض على النحو الذي طلب، هذا هو المطلوب.
لذا فلسوف يكون حديثي أولاً عن تصوير المشكلة التي تحيط بنا، والتي يراد فرضها علينا، وبيان أبعادها، لا أقول السياسية، فلست معنياً بهذا الجانب، وإنما سأبين أبعادها الإسلامية، ثم نستبين الواجب الذي يكلفنا الله عز وجل به لدرء هذا الخطر. هذا هو حجم الموضوع الذي سنتناوله إن شاء الله تعالى.
النقطة الأولى في حديثي هي أنه مما لا شك فيه ولا خلاف فيه في أحكام الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز قتل نفس بدون حق، بدون موجب قتل، ومما لا ريب فيه أن أعظم جرم بعد جرم الإلحاد في ذات الله هو قتل نفس بغير حق، وكلكم يقرأ كلام الله عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا عَلَى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 5/32].
ولاشك أن الحريري واحد ممن ينتظم في قائمة من ارتكب مرتكبون الإجرام في حقه، فهو واحد - مما لاريب فيه - واحد ممن حاق به هذا الأجرام الشنيع والكبير في كتاب الله سبحانه وتعالى. وأقول: واحد ممن تنتظمه قائمة هذا الإجرام. أي هو ليس واحداً فقط، وشيئاً عجيباً وغريباً وقع يلفت نظر العالم. لا، هو واحد من كثيرين أزهقت أرواحهم ظلماً، وقضي عليهم بدون موجب، فكانوا ممن قال الله عز وجل عنهم: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 5/32].
لكن السؤال الذي لابدَّ للعاقل أياً كان أن يواجهه وأن يستبين جواباً عنه، هو:
هل كان لهذا الإنسان - رحمه الله تعالى - رفيق الحريري، هل كانت له خصوصية علاقة عاطفية من دون أمثاله من الناس جميعاً في ميزان الولايات المتحدة؟ هل كان هذا الإنسان الذي ذهب ضحية إجرام شنيع، هل كان بدعاً من الآخرين بحيث أن عاطفة الولايات المتحدة تأججت والتهبت بسبب الجناية التي حاقت به؛ دون أن تشعر بجرائم مماثلة أخرى؟ لابدَّ للعاقل أن يتساءل.
والجواب معروف: الولايات المتحدة لا توزع عواطف في العالم بين الناس، وإنما تبحث عن مصالحها. هل كانت الجريمة المستنكرة فعلاً، ويكفي في استنكارها كلام الله: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً} يكفي هذا، هل كانت هذه الجريمة في ميزان الولايات المتحدة جريمة فريدة من نوعها؟ يعني: كل الجرائم المماثلة الأخرى كانت دونها في الأهمية؟ ودونها في الخطورة؟ من ذلك لم تشأ أن تقيم الدنيا ولا أن تقعدها إلا من أجل هذه الجريمة؟ نحن نعلم أنها جريمة فعلاً، وأنها جناية، وأي جناية وحسبنا أن نصفها بما وصفها به ربنا سبحانه وتعالى، قلت بالأمس القريب في مجلس فيه مسؤولون: بالأمس قتل الرئيس الفلسطيني بالسم، أزهقت حياته بالسم، لماذا لم تفتح الولايات المتحدة محضراً للتحقيق فيمن قتله بهذه ا لطريقة القذرة؟ لماذا؟
قبل ذلك - وما ينبغي أن ننسى - قتل الملك فيصل، الملك فيصل معروف، ملك المملكة العربية السعودية، في ظروف كلكم يعرفها، لماذا لم يفتح ملف، محضر، للتحقيق في القاتل أو الجهة التي قتلته ولإنزال العقوبة الرادعة بهذه الجهة؟
بالأمس القريب أو البعيد قتل مفتي الجمهورية اللبنانية حسن خالد في ظروف لعلكم جميعاً تعرفونها، ومفتي الجمهورية العربية اللبنانية من الأهمية بمكان، مركزه يلي مركز رئاسة الوزراء، يمثل المسلمين في الجمهورية اللبنانية. لماذا لم تهتم الولايات المتحدة ولم تفتح محضر تحقيق في القاتل وفي البحث عنه من أجل إنزال العقوبة الرادعة؟
هل يمكن أن نتصور أن الشعور الإنساني استيقظ أخيراً عند الأمريكان بعد أن كان راقداً، بل ميتاً؟ هل يمكن أن نتصور أن الشعور بالغيرة على العدالة الإنسانية استيقظ لدى البيت الأبيض أخيراً بعد أن كان ميتاً، أو نائماً؟ الآن استيقظ؟ إذا كان هذا ممكناً فالواقع هي بشارة كبيرة. لأن هذه الإشارة تضعنا أمام حقيقة وهي أن أمريكا ستحاكم نفسها اليوم، ولسوف تقضي على نفسها بالعقاب الصارم بسبب هذه الجرائم الإنسانية الكثيرة التي تمارسها. عندما نتصور أن الرئيس الأمريكي قد استيقظت - اليوم عند مقتل الحريري رحمه الله تعالى - استيقظت مشاعره الإنسانية، ومشاعر الغيرة على العدالة بين جوانحه اليوم، فإنها لبشارة، بل إنها لبشارة كبيرة، لأننا سنعلم أن الرئيس الأمريكي سيحاكم نفسه، ولسوف يقاضي نفسه، ولسوف يخضع نفسه للعقاب الصارم بسبب سلسلة الجرائم التي يرتكبها ضد البرآء، ضد الأمنين لكن هل هذا هو الواقع؟
كلكم يعلم الجواب عن هذا السؤال: أمريكا لم تكن يوماً ما لتوزع عواطف، أمريكا لم تكن لتبادل لا الرؤوساء ولا الزعماء مشاعر الحب إطلاقاً في يوم من الأيام. أمريكا كانت ولا تزال تنظر إلى العالم كله من منظار واحد هو مصالحها. وإذا أتيح لها أن تعتصر مصالح الكون كله في كأس وتشربه لتسكر به لا تقصر إطلاقاً.
إذن: لماذا هاجت هذا الهياج الكبير عند مقتل هذا الزعيم الذي نعترف - ربما قبل كثير من الناس - بمكانته، وبقيمته الإنسانية، وبتاريخه؟ لماذا اهتاجت فجأة لهذه الجريمة، وهي التي حرت على جنايات وجرائم كثيرة ولم تكترث بها؟ آخرها مقتل ياسر عرفات بالسم. لماذا؟
الجواب، وهذا هو لب حديثنا، هذا هو لب الحديث الذي يفرض عليّ إسلامي ويفرض عليكم إسلامكم أن تصغوا إليه:
هنالك هدف بعيد، هذا الهدف البعيد هو السبب في هذا الهياج الذي تمثله أمريكا في هذا الحب العجيب الرومانسي للحريري رحمه الله تعالى، وهي التي - أمريكا القيادة لا الشعب - كانت مضرب المثل بالقسوة والفظاظة والغلظة والتضحية بالبرآء في سبيل مصالحها ومصالح ربيبتها.
إذن الذي هيجها لتبرز هذه الغيرة وهذا الاهتمام بالبحث عن قتلة هذا الإنسان من أجل إنزال العقوبة الرادعة بهم، الهدف شيء واحد، هدف بعيد، وهنالك دهاليز لابدَّ منها لإيصالها إلى الهدف البعيد.
الهدف البعيد ما هو؟
أيها الإخوة! أرجو أن تكونوا على يقين أنني لا أبالغ، وأنني لا آتي بكلام أتخيله من عندي. هي عبارة عن وثائق أضعها بين أيديكم.
الهدف البعيد هو: القضاء على البقية الباقية لفاعلية الإسلام في العالم العربي أولاً، والعالم الإسلامي ثانياً، ومن ثم القضاء على الحضارة الإسلامية التي يقول الغرب إنها تهدد الحضارة الغربية.
هذا هو الهدف البعيد.
لكن ما علاقة هذا الهدف البعيد بهذا الذي تفور وتصول وتجول أمريكا به الآن؟
ما علاقة هذا الهدف البعيد بالبحث عن قتلة الحريري؟
الجواب أيها الإخوة:
قلت لكم: هذا الهدف البعيد لابدَّ من الوصول إليه من اجتياز دهليزين:
الدهليز الأول: يتمثل في تعبيد الطريق والقضاء على التضاريس والعقبات التي تتمثل في سياسة سورية.
هنا، بين قوسين، نحن مضطرون أن نتكلم دقائق عن السياسة: الآن وضع سورية وهي - فيما تزعم أمريكا وكثير من حلفائها - تحتضن المقاومة الفلسطينية ولا تحارب، هي تقدم العون الأدبي أو المادي لحزب الله، هي تنشط المقاومة الفلسطينية في لبنان وتتهم أنها تصدر إليها الأسلحة وما إلى ذلك.
إذن هنالك تضاريس، هنالك عقبات، تتمثل في الدهليز الأول، ولابد من كسحها حتى يتعبد الطريق، قسم من الطريق.
يجب على سورية أن تقلع عن هذه السياسية، يجب على سورية أن تعلن تأييدها للاحتلال، الاحتلال الأمريكي للعراق. نعم، هذا شيء معروف. يجب على سورية أن تطرد الفلسطينيين الذين يدافعون عن حقوقهم بحق، يجب أن تطردهم. يجب أن تسعى سعيها مع الآخرين لإخلاء اللبنان من أي مقاومة فلسطينية ومن أي أسلحة بين يدي المقاومة الفلسطينية. لماذا؟ من أجل أن تصبح اللبنان ساحة مهيأة لإسرائيل لكي تقفز قفزتها الثانية.
سورية لا تفعل هذا، إذن لابد من وسيلة إلى ذلك: مقتل الحريري وإثارة موضوع التحقيق وما إلى ذلك بالطريقة الأمريكية المطلوبة هي التي ستضمن في تصورهم المرور في هذا الدهليز، يعني القضاء على هذه العقبات.
الدهليز الثاني: هذه الخطة، الخطة مرسومة، انتهت بتصورهم وأركعت سورية، لم يعد في العالم العربي غيرها، هي التي تثير المشاكل وتوجع رأس الصهيونية العالمية وأمريكا.
الدهليز الثاني الذي ستتجاوزه دهليز بسيط هو: هيمنة إسرائيل مع أمريكا على العالم العربي أجمع، هذه الهيمنة لم يبقَ لتنفيذها إلا اجتياز دهليز واحد؛ هذا الذي ذكرته لكم - ومن ثَم تتم هيمنة هذا الثنائي الأمريكي الصهيوني على المنطقة كلها.
تمت هذه الهيمنة.. ما النتيجة التي ينبغي الوصول إليها؟ ما الثمرة التي سوف تقطفها الثنائية الأمريكية ثم الصهيونية؟ هي اجتثاث الإسلام من جذوره، القضاء على فاعلية الإسلام، ووضع الحضارة الغربية ثقافةً، اجتماعياً، فكراً، اقتصاداً - هذا المراد بكلمة العولمة - في مكانها.
هذا هو الهدف البعيد.
ما الذي ألجأني إلى أن أوقف درس رياض الصالحين وأتحدث في هذا؟ السبب هو التالي:
السياسيون - مع الأسف - لا يعزفون على هذا الوتر عندما يتكلمون، وربما كان لهم الحق، لسببين: يعزفون فقط على الوتر السياسي، يعني يقفون عند الدهليز الأول والدهليز الثاني، يقفون عند هذا الحد. من الذي سيتكلم عن الهدف الأكبر والأخطر؟ نحن، لابد أن نتكلم. وربما كانت الأدوار لابدَّ أن تتوازعها الأمة.
الواقع هناك أناس يقولون دائماً: أنتم عندما تذكرون سياسة الغرب رأساً تربطون سياسة الغرب بالقضاء على الإسلام، وربما جاء من يتهمنا بأننا نتخيل، وأننا نفترض أموراً غير حقيقية، لا، أنا لا أفترض أموراً غير حقيقة، أنا لا أتكلم إلا عن برهان.