(9)
* الطريق الطويـــل*
..........................................

كانت فرحة "شفيق" مقطوعة الذراع، لم تطُلْ، فهذا الصباح كمْ ترقَّب مجيئه، وكم كان يود أن يكون جميلاً، ولكنه جاء ـ ويا للأسف ـ وشمسُه غائبة خلف أسراب من الغيوم التي تزاحمت في الأفق البعيد.
وبحنين ولوعة ضمّ "شفيق" العددين اللذين ابتاعهما من الجريدة إلى صدره وفي قلبه حسرة، والطريق أمامه طويل .. طويل .. لا يعرف أين ينتهي، بل لعله لم يبصر بدايته بعد!
إلى أين يذهب؟ أيذهب إلى دار الجريدة؟ ولو ذهب! ماذا يقول لسيادة الناقد الكبير الدكتور مُحرر الملحق الأدبي الذي أتحفه بالأمس القريب بكلامه المعسول، وقال له: أنت واحدٌ من أفضل كتاب القصة القصيرة الآن؟!
قال لنفسه: فلتسكت، وليقدر الله ما شاء، فسيادة الدكتور مثلك الأعلى، ولربما جاءت عفواً، وسيتداركها في قابل الأيام، ولا تكسب عداوة أحد وأنت في أول الطريق!
التقى "شفيق" بمثله الأعلى (سيادة الدكتور: الناقد دائماً، القاص أحياناً)، في مكتبه بالجريدة، وبعد أن أخبره شفيق بتحليق الملحق، ونشره لروايات وإبداعات متميزة لجيل الرواد بلع ريقه، وأخبر الدكتور أنه يكتب القصة القصيرة، وأن له فيها بعض التجارب. ثم تشجع وقال: وفد أحضرت لك قصة تتحدث عن تجربة غريبة .. تجربة لقاء حبيبين بعد افتراقٍ طال عشرين عاما.
كان "شفيق" يتحدث بصدق، فهو لا يعرف النفاق، ولابد أن حرارة كلماته وصلت إلى شِغاف قلب الكاتب الكبير (المحرر الأدبي للجريدة، والأستاذ بالجامعة، والقاص أحياناً) فطلب كوب شاي لشفيق، وطلب منه أن يقرأ قصته.
وقرأ "شفيق" القصة وهو يرجو أن تكون مولوده الأول على صفحات الجريدة.
ابتسم الناقد الكبير وهو يقول لشفيق:
ـ بداية رائعة، فيها صدق في المُعالجة، وممتازة حقا، لابد أن تنشر في العدد الأسبوعي المقبل يوم الثلاثاء، فتشجيع الموهوبين من أمثالك مهمتنا، واكتشاف أديب متميز لا يقل عن اكتشاف بئر بترول!
وبلع الناقد الكبير ريقه، وهو يقول في مودة حقيقية:
ـ بداية رائعة يا شفيق!
قال شفيق في تواضع جم:
ـ إنها ليست بداية يا أستاذي؛ فأنا أُعالج كتابة القصة منذ وقت طويل، ولكن الظروف حجبت إنتاجي عن النشر! لعل أهمها بُعدي عن العاصمة!
وأخبر الأستاذَ أنه كان يفوزُ بالجائزة الأولى لمسابقة القصة القصيرة على مستوى جامعة القاهرة أيام أن كان طالباً في كلية الهندسة، ولكنه لم يحاول أن يتصل ـ من قبل ـ بأية صحيفة أو مجلة أدبية.
ومرت اللحظات بعد ذلك سريعة، تكلما فيها عن كُتب الأستاذ التي قرأها شفيق من قبل، وناقش قضاياها مع مؤلفها، فقد كان يريد أن يختلف معه حول مفهومه عن الفن للفن، وكان شفيق يرى أن الفنان الحقيقي لابد أن يكون ملتزماً.
خرج شفيق مسروراً، فغداً تنشر القصة في عدد الجريدة الأسبوعي الذي يوزع مئات الآلاف، ويكون اسمه مكتوباً بالبنط الأسود الكبير تحت "قصة العدد": اللقاء الأخير: شفيق مصباح! يالها من فرحة، ويالها من شُهرة كبيرة تهبط عليك يا شفيق فجأة وأنت في السابعة والثلاثين!
أين كنت يا حظي العاثر الذي ألقيتني مهندساً صغيراً في مجلس مدينة الزقازيق؟ فلتبتسم في وجهي مرة واحدة، ثم لتظل باسِماً إلى الأبد! فعندما تُنشر القصة الأولى في أكبر جريدة ستعجب الكتاب الكبار، وستصبح حديث المحافل الأدبية في القاهرة العجوز ـ التي يحسنُ كتابها الدعاية ولا يُحسنون الإبداع! ـ لأسابيع طويلة. فالناقد الكبير أعجب بها! هل سمعته وهو يقول إنها ممتازة، وستنشر في العدد التالي؟. سيكتب النقاد عنها بالطبع، وسأبلغ القمة، وذلك الناقد الثرثار الذي يتكلم في الصحف كثيراً عن موت القصة القصيرة سيتراجع عن دعواه لأن قصتي ستخرج لسانها له قائلة: القصة القصيرة لم تمُتْ يا أستاذ!، فيُعيد كاتبا شهادة ميلاد لهذا الفن المراوغ عل يديّ. ستحتل صورتي مكانها ـ الذي ينبغي أن تكون فيه ـ في الصفحات الأدبية، وسوف يستدعيني رئيس التحرير طالبًا مني قصصي الأُخرى، وستمنحني الجريدة مكافأة لا تقل عن عشرين جنيهاً أي أكبر من نصف مرتبي الذي آخذه عن شهر كامل من الخطط والرسوم والاجتماعات والصراخ والفكاهات الماسخة من رئيس مجلس المدينة، وحل الكلمات المتقاطعة.
ربما تعجب قصتي أحد المخرجين فيُحولها إلى مسلسل في هذا الساحر الجديد (التليفزيون)، يشاهدُه الملايين.أو ربما تتحول إلى (فيلم) يعطوني آلاف الجنيهات ثمناً لقصته، وليت مُعد السيناريو والحوار يلتزم بالقصة ففيها كل عوامل النجاح.
على أي حال لا مجال للعودة إلى منطقة الظل التي عشت فيها سبعةًً وثلاثين عاماً!، ولن يسخر مني زملائي المهندسون في مجلس المدينة حين أقول لهم: إني كاتبٌ للقصة، وسيقبلون نقدي الذي أمحضهم إياه ـ لوجه الله ـ عن مسلسلات التليفزيون التافهة! ولن يسخروا من مقدرتي النقدية حين أقول لهم: يجب على كتاب المسلسلات عدم المبالغة في الأحداث، والتزام الواقعية في رسم الأشخاص.
لا أيها الزملاء إن قصصي ليست على مستوى النشر فحسب، ولكنها ممتازة. هكذا قال لي الدكتور محرر صحة الأدب في أكثر الجرائد شعبية وانتشاراً.
وعاد شفيق، وهو يمني نفسه بأحلى الأمنيات، ويقول لزوجته التي تهوى القصص التافهة لكتاب غير مشهورين يعتمدون على صفحات الأحداث في الصحف، ليكتبوا قصصهم الفاجعة في تلك المجلة النسائية العجوز التي تكاد تحفظ ما يُنشر فيها من قصص، ولا تلتفت لأقاصيصه التي تملأ ثلاثة كشاكيل ضخمة!:
ـ غداً ستقرأين قصتي، ومع نشرها ينتهي اتهامك لي بعدم القدرة على كتابة القصة الناجحة.
وقال في نفسه: فلينتهِ هذا اليوم الذي أضع فيه حدًّا لعزلتي، وليجئ الغد، ومع مجيئه .. يسطع نجمي، وتُلعلع أفراحي وشهرتي إلى الأبد!
نام ليلةً جميلة مليئة بالأحلام، قام قبل الفجر، ربما لأول مرة يُصلي الفجر جماعة ويشعر بنشوةٍ غريبة لم يألفها من قبل! وكان عليه أن يتجه "لعم مصطفى" الذي يبيع الصحف أمام محطة القطار. لم يجد أحداً غير بعض الجنود الذين تبدو على محيَّاهم اللهفة والانتظار. لعلهم في انتظار سيارات الأجرة للتوجُّه إلى القاهرة.
كان عليه أن ينتظر بضع دقائق ثقيلة الخطى، قبل أن يصيبه اليأس من مجيء "عم مصطفى"، عليه إذن أن يتجه لبائع صحف نشِط، ليشتري عددين من الجريدة التي ستحمل ابنته الأولى إلى القرّاء.
ابتاع عددين.
فتح الصفحة، وانفرجت أساريره.
يا لشهرتك التي ستملأ الآفاق يا شفيق. ها هي قصتك. ها هي قصتك، ها هو عنوانها "اللقاء الأخير"، … وفجأة ..
وكأنما صُبَّ عليه "طست ماء بارد في زمهرير طوبة"! لقد بحث عن الاسم فلم يجده؟ كيف حدث هذا؟ .. قصتي بدون اسمي .. ابنتي لقيطة؟ ماذا سيقول لزوجته؟ ماذا سيقول لأصدقائه الذين أخبرهم بأن الجريدة ستنشر له قصة في نفس المكان الذي تنشر فيه لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ؟ لماذا رفض أن يقرأ لهم القصة وآثر أن يقرأوها هم صباح الثلاثاء؟
أيقول لهم إنها قصته؟ وهل سيُصدقونه؟ هل يقول لهم : انتظروا الأسبوع المقبل حتى تستدرك الجريدة سهوها، وتنشر تحت "سقط سهوا": كانت قصة "اللقاء الأخير" المنشورة في عدد الثلاثاء الماضي للقاص شفيق مصباح".
أيقول لهم إنها قصته؟ وكيف يُصدقونه اليوم؟!
من الأفضل ألا يذهب لمجلس المدينة اليوم، يأخذ إجازة عارضة! هل من الممكن أن يعتذر عن الاجتماع الشهري لرؤساء القطاعات؟
هاهو رئيس مجلس المدينة يرفض الاعتذار، ويتخلى عن صوته الودود، ويكاد يصرخ في الهاتف:
ـ يا رجل، أمن أجل وعكة صحية بسيطة تعتذر عن حضور اجتماع يُشرِّفُنا فيه السيد الوزير المُحافظ؟
لا .. لن أذهب، ستلسع النكات أُذنيَّ من جديد: فها هو الطبل الأجوف، لم تُنشر قصًّتُه.
ومسح دمعته، مغلقا باب شقته، الحمد لله .. مازالت زوجه نائمة، ونزل الدرج يبحث عن معالم الطريق الذي لا تبدو له بداية!

المساء ـ 20/4/1970م.