*التحليق بلا أجنحة*
.............................

اقتحمه شعور بالغربة ..
لم يعد يدرى لماذا هو فى هذه المدينة ؟ وإلى أين تمضى الشوارع ؟ وإلى أين يتجه ؟
هذه ليست أولى رحلاته إلى الخارج ، لكنها أولى رحلاته إلى لندن ..
حين استقل الطائرة ، كانت المدينة ـ فى مخيلته ـ مجرد تصورات . لا قسمات محددة : بنايات وساحات وميادين وشوارع وأسواق وجسور وتماثيل وأبراج كنائس وحدائق .
أدرك أنه يعرف شوارعها ، وإن عانى الغربة . انطبعت ملامحها فى ذهنه من أحاديث مرجريت وقراءات الصحف ومشاهد التليفزيون . اعتاد أسماء الوست إند وبيج بن وكوفنت جاردن والمتحف البريطانى وهايد بارك وقصر باكينجهام ..
تأمل مبنى المطار . صالة هائلة يتفرع منها العديد من الأروقة والردهات والسلالم المتحركة ، وإعلانات النيون تعلو الجدران ، وصفوف الكراسى ، وكاونترات الجوازات وشركات الطيران ، وعربات نقل الأمتعة ، ووجوه المسافرين .
أزمع أن يقضى ليلته فى فندق . ينتظر طلوع النهار ، ثم يبدأ البحث ..
***
أحس ـ وهو يغادر الفندق فى غبشة الصباح الباكر ، أن اليوم كله أمامه .
ترك حقيبته فى الحجرة ، حقيبة واحدة ، متوسطة . استعان بخريطة سياحية ، تعرف فيها على الأماكن المهمة . نقاط ينطلق منها إلى الميادين والشوارع وضفتى التايمز . يستطيع أن يتنقل فى أحياء المدينة الواسعة ، يبحث عن الشقة فى أكثر من عنوان ، فى أكثر من حى .
تلاشى الحنين الذى كان يناوشه إلى المطارات والفنادق والمدن والأسواق والبشر الذين لم يلتق بهم من قبل . همه أن يرى الولد أمامه ..
شرد فى صورة مرجريت . فرضت عليه ـ فى هذه اللحظة ـ نفسها : السحنة ، والتصرفات ، وطريقة الكلام ..
قال :
ـ تربية الطفل مسئولية أبيه وأمه ..
قالت :
ـ هذا صحيح .. لكنها مسئولية الأم أولاً ..
ـ دعينا من الأولويات . إنها مسئولية الوالدين ..
تخبطت علاقتهما . بدا الانفصال نهاية مؤكدة . ما حدث ليس شرخاً فيسهل التئامه . إذا تكسر الشيء ، تحطم ، يصعب أن يعود إلى ما كان عليه . وجد فى الإرجاء ما قد يأتى بالحل . تغاضى عن إصرارها على مضايقته . أهمل المعايرة ، والتلميز ، والعبارات المفعمة بالتورية ..
التقيا ـ للمرة الأولى ـ فى رحلة للأقصر . رافقها فى زيارتها لمعابد الكرنك ، ومعبد الأقصر فى البر الشرقي ، والمعابد الجنائزية ، ومقابر وادى الملوك والملكات ، ومقابر الأشراف فى البر الغربى ..
بدت مسحورة وهى تجيل النظر فى ما حولها . هذه مدينة المدائن الأثرية . لو أتيح لى الاستقرار فيها . لو تحولت إلى نخلة تطل على طريق الكباش ..
قبل أن تبدأ فى إعداد حقائبها ، همس :
ـ هل تتزوجيننى ؟
حدس ـ من دائرة السحر التى تعيش فيها ـ أنها ستوافق . لكن المفاجأة أخذته لموافقتها . لم تناقش الأمر ، ولا تحدثت عن ظروف من أى نوع ..
لم يعد يتردد على الشقة إلا لتغيير ملابسه ..
حاول ـ بكل طاقته ـ أن تظل الأمور على تماسكها . تفادى الرياح والنوات والزلازل والأعاصير ..
أذهله قرارها ..
قال :
ـ لن تخرجى !
علا صوته بما لم يعهده فى نفسه . شعر أنه لابد أن يكون سيد نفسه للمرة الأولى . يناقش ، ويقبل ، ويرفض ..
دفعته بيد غاضبة ، وخرجت . اكتفى ـ فى ذهوله ـ بمتابعتها ، وهى تقفز فى نزولها على السلم ..
حين ضغط على الجرس ، ترامى الصمت من الداخل . خبط على الباب بقبضة غاضبة ..
ظل الصمت سادراً ..
أدار المفتاح فى الباب .
كان دولاب حجرة النوم مفتوحاً ، وخالياً من ملابسها . بدا السرير خالياً ، ومرتباً . لا آثار نوم فوق الوسادة ، أو فى الفراش . حتى طيات الأغطية ظلت فى موضعها ..
عرف أنها تركت البيت .
أجهده البحث . تنقل بين أحياء القاهرة . يسأل من كانت تعرفهم ، ومن عرفهم بها . حتى من لم يجاوز تعرفها إليهم حفل الزفاف ، سألهم عنها . طالعه هز الرأس ، مط الشفتين ، القول من خلال الدهشة المتسائلة : لا أعرف . لا يشعر بالتعب إلا حين يسلم جسده إلى الفراش .
تعددت الشوارع التى سار فيها ، والسلالم التى رقاها ، والأبواب التى طرقها ، والسحن التى طالعته . هزة الرأس دلالة النفى تغنى عن القول : لا أعرف . لا أحد يعرف البيت ، أو مرجريت . حاول ـ برسم الكلمات ـ تقريب الصورة فتنشط الذاكرة ، وتتجسد الملامح . لكن نظرة النفى جدار يصد ما يفعل ..
تكرر النفى ، ففرضت التوقعات القاسية نفسها . شعر أنه غير قادر على مواجهة الموقف . تنامت فى داخله هواجس خمن بواعثها . فقد الرغبة فى الحياة . لم يعد لها أى معنى ..
لم يعد أمامه سوى احتمال أن تكون قد صحبت الولد خارج مصر . لا يدرى كيف ولا متى أعدت أوراقها وأوراق الولد ، ولا من الذى ساعدها حتى طارت به . سيطرت عليه فكرة السفر إلى لندن . بدا السفر وسيلة وحيدة لرؤية الولد . يعرف العنوان من مراسلاتها لأمها ، لكنه لا يعرف موضعه إن كان فى قلب المدينة ، أم فى ضاحية لها ، أم فى مدينة إقليمية ..
سار دون أن يعرف جيداً موضع الشارع الذى يقصده .
الفجوة واسعة بين ما كان يتصوره وما يراه . حدثته عن الشقة فى شارع أوكسفورد . قالت إنه يمتلئ بالعرب . الملامح العربية كثيرة . يذهبون للتسوق فى الشارع . الشقة فى الطابق الثالث من بيت تتوسطه . تحدثت عن المقهى فى أسفل البيت ، تضطر للسير بين الكراسى المشغولة حتى تصل إلى الباب الخارجي . خطر له أن يسأل رجل على ناصية الطريق . عانى التردد ، ثم واصل السير .
حدّس أنه يدور فى دوائر . ينتهى إلى النقطة التى بدأ منها . يدرك أنه سبق له رؤية المكان ، فلا معنى للبدء من جديد ..
مضى نحو مكان لا يعرفه .
المدينة الهائلة غابة من البنايات والشوارع والميادين والبشر واللافتات وإعلانات النيون والحدائق والتماثيل والأبراج .
تجول بلا هدف ، لا يدرى إلى أين يتجه ، ولا المكان الذى يريده . ثمة هاتف ـ لا يدرى كنهه ـ يجتذبه إلى مكان ما . يطيل الوقفة ـ دون تأمل حقيقى ـ أمام واجهات المحال ، يغسل وجهه فى نافورة تتوسط ميداناً ، على ناصيته لافتة باسم ميدان " ترافالكار " ، يجلس فوق مقعد خشبى بحديقة عامة . يستعيد يوم صحب الولد إلى خارج البيت ـ لأول مرة ـ ليرى الشمس ، لحظة بصق طعم البن من ثدى أمه ليفطم ، أخذه إلى الحلاق ليصفف شعره بعد أيام من ولادته . يدفعه الشوق لرؤيته ، يراه ، يحتضنه . إذا لم يعثر على الولد ، فلن يكون لديه شىء يصنعه . لو أن عناء البحث ـ باليأس ـ انتهى ، ستصبح الحياة بلا معنى ..
مال إلى شارع إيدجوير الواسع . طالعته اللافتة الزرقاء على ناصية الشارع . هو بالقرب من شارع أكسفورد . الشارعان ، المنطقة كلها ، تمتلئ بالعرب : المطاعم اللبنانية والشرقية . الشاورما والطعمية والحلويات الشرقية واللافتات المكتوبة بالعربية ..
حدّس أنها هنا . ستطالعه فى لحظة ما قد لا يتوقعها ، لكنها موجودة فى شقة ما ، فى هذه البنايات المتلاصقة التى تفصلها الشوارع والحدائق والميادين ..
لندن مدينة كبيرة ، متشعبة ، هى واحدة من الملايين التى تسكن فيها . لا يعرف أين على وجه التحديد ، لكنه يثق من وجودها ، ويثق أن الولد يعيش معها . هى فى بيت من هذه البيوت المتلاصقة أمامه ، من حولها حدائق ، تعلوها أسقف القرميد المائلة ..
أدرك أنه من الصعب أن يمضى فى قلب المدينة ، دون أن يركب سيارة عامة ، تصل إلى أماكن محددة ، يعرف أنها تصل إلى المكان الذى يقصده ..
هذا هو الحى كما وصفته . نسى اسم الشارع ، ورقم البيت . لكن ذاكرته احتفظت باسم الحى ، ربما لسهولته . يتأمل ملامح النساء . يطيل تأمل من يجتذبه الشبه بينها وبين مرجريت . خطواته لا تتبعها ، لكنها تبحث عن الولد ..
صرخ لاختطاف الحقيبة الجلدية الصغيرة من يده . جرى وراء الشاب الزنجى بآخر قوته . سبقه . وضع قدمه فى طريقه ، فسقط الشاب من طوله ..
رد له الشاب الحقيبة . قال وهو ينفض نفسه :
ـ أخف الحقيبة . لن تجرى وراء كل من سيخطفها !
***
توالت أيامه فى المدينة ، دون أن يفقد الأمل . طرد الخاطر بأنه لن يستطيع لقاءها فى هذه المدينة الواسعة ، الغامضة ، الغريبة .
كشف باب المقهى المفتوح والنوافذ الزجاجية عن قاعة واسعة ، صفت فيها موائد ، تتقابل حولها الكراسي .
مال ـ بالتعب ـ إلى الداخل ..
النافذة الزجاجية المغلقة ، بامتداد الواجهة ، جلس وراءها ، يتابع حركة المرور ، ويلمح الداخلين والخارجين .
تشاغل بتأمل المكان ..
ثمة رجال ونساء تقابلوا على الموائد ، وامتلأت الكراسى العالية ، أمام الطاولة الرخامية فى الوسط ، من ورائها أرفف فوقها زجاجات متباينة الألوان ، وأغنية بالفرنسية تترامى من مسجل فى موضع قريب .
تنبه إلى رائحة عطر أنثوى .
التفت بتلقائية . لم يلحظ متى جلست المرأة على الكرسى المجاور ، لكنها كانت تتجه ناحيته بنظرة تعد بما استطاع فهمه ..
تملكه شعور أنه التقى بها من قبل . لا يدرى أين ولا متى . رآها فى مكان ما ، ولعله رآها فى حلم . زادت من المساحيق فى وجهها ، فلم يتعرف ـ من النظرة السريعة ـ إلى ملامحها ..
عاود التطلع إليها .
لاحظ العينين الخضراوين ، عمقتا من خلال الرموش الطويلة والكحل ، والأنف الصغير ، والشفتين المصبوغتين بحمرة قانية زادت من غلظتهما ، ووضعت شامة صغيرة ، مستديرة ، على خدها الأيمن . أدرك من صفرة إصبعيها حول السيجارة ، والسواد فى أسنانها ، أنها تكثر من التدخين ..
عاد إلى تشاغله بتأمل المكان : الأضواء الشاحبة ، والنداءات ، والأغنية الفرنسية الكلمات ..
سحب قدمه من ضغطة حذاء متعمدة . بادرته بالحديث بصورة مفاجئة :
ـ هل أنت آسيوى ؟
ثم وهى تزوى ما بين حاجبيها :
ـ هندى .. باكستانى ..
قاطعها :
ـ مصرى .
ـ جئت للسياحة ؟
ـ لا أمتلك رفاهية السائح .
وهز رأسه فى تأثر :
ـ جئت لحل مشكلة !
روى لها الأمر من بداياته .
وضعت متابعتها فى نظرة ثابتة ، اتجهت بها إليه . هو يروى ، يفض ما بنفسه ، يتهدج صوته بالتأثر ، يغمض عينيه لاستعادة ما مضى . هى تهز رأسها .
***
صحا على ضوء الشمس يقتحم عينيه .
انتفض . تلفت حوله ..
الحجرة الخالية تختلف عما يتذكره حين قدم مع المرأة أول الليل . لاحظ تهدج صوتها ، ونظراتها الداعية . هتف فى داخله صوت يشجعه على المغامرة ، الاستجابة إلى التعبيرات والإيماءات المحرضة . تملكه إحساس أنه يفلت فرصة ربما لن تعود . واتته جرأة لم يتوقعها فى نفسه . لامس يدها المسترخية على الطاولة . لم تسحبها . صحبته إلى شارع جانبى . استقلا المصعد إلى الطابق الخامس .
الشقة الواسعة تسبح فى إضاءة خفيفة ، علقت على الجدران أقنعة إفريقية ، وأقواس ، وسهام ، وفرش على الأرض جلود حيوان . على الطاولة ـ وسط الصالة ـ سلة كبيرة مليئة بالفواكه ، وشمعدانان متجاوران ، وفى الأركان أصص الزهور تصاعدت منها نباتات حلزونية .
استأذنت لتبدّل ثيابها ..
عادت ـ بعد دقائق ـ حافية ، ترتدى قميص نوم من الشيفون الأسود ..
ماذا حدث له فى أثناء الليل ؟
يذكر صحوه ، لكنه لا يذكر ما حدث فى النوم ..
هبط إلى الطريق .
استقبلته الشوارع والساحات والميادين والبنايات وتقاطعات الطرق والأشجار وجلسات المقاهى والوجوه التى لا تعرفه . تشاغل بقراءة لافتات الطريق والمحال ، يحاول استعادة المكان . حتى البنايات الهائلة ، لا يتذكر أنه رآها من قبل . اقتحمه شعور أن كل ما رآه ـ فى الليلة السابقة ـ لم يحدث ، وأن المرأة لا وجود لها ..
واصل السير .
لم يعد يدرى مقصده . نسى ما يريده ، ما يبحث عنه ..
أخذته الشوارع . تقاطعت الطرق ، وتفرعت . اختلطت ـ فى عينيه ـ السحن والقامات والأزياء والأصوات . أدرك أنه فى مدينة غريبة ، لم يرها من قبل ..
طالعه فى أفق الطريق ما يشبه الغلالة التى تتخلل المرئيات . بدا المارة ـ من ورائها ـ كأطياف ، أو كأشباح . يتعالى وقع الأقدام على الأرض المنداة ، دون أن يستبين الأجساد ، ولا الوجوه . حتى أضواء الشوارع والمحال ، غلفها الشحوب . تلاحقت الغلالات ، تشابكت ، تحولت إلى موجات من الضباب المتكاثف . تصاعدت موجات الضباب حتى غطت البشر والأبنية وأسفلت الطريق ..
لم يعد يعرف من هو ، ولا فى أية مدينة يعانى التلفت ، لا يعرف شيئاً مما يتحرك حوله ..
لماذا هو فى هذه المدينة ، وإلى أين يتجه ؟
اشتد الضباب ، فغابت الرؤية .