الفيروز آبادي
اللغوي الذي أحبه الملوك والشعوب
بقلم
أ.د: بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو اللجنة العالمية للغة العربية
تفتح معجم ( القاموس المحيط ) ، وتقلب صفحاته ، وتفتش فيه عن معنى كلمة صعبت عليك ، فيروعك ما يقدم لك صاحب القاموس ألواناًً من المعاني ، وأصنافاً من مشتقات هذه الكلمة ، وتقاليبها ، وطرق استعمالها على سبيل الحقيقة أو المجاز .. فلا تملك نفسك من الإعجاب بإنسان استطاع جمع هذه المعاني ، والإتيان بشواهدها الداعمة .
وتتساءل عن أصل هذا العالم ، وثقافته ، والمدارس التي تعلم فيها ، والشهادات التي نالها ، والإجازات التي حصلها .. وتظن أنه نال دكتوراة بعد دكتوراة ، وإجازة بعد إجازة ، ورتبة جامعية بعد رتبة .. ويذهب بك الظن بعيداً ، قياساً على ما تعرفه من زملائك ، أو معاصريك ، أو ما تسمع عنه من أساتذتك ...
ولكنك تفاجأ حين يأتيك الجواب الصادق : إنه غيـر عربي الأصل ، بل إنه من أصل أعجمي ، لم ينتسب إلى مدرسة ، ولا نال شهادة جامعية ، ولا غير جامعية ، وإنما كان واحداً من الشيوخ الذين ملأوا صفحات التاريخ الإسلامي بعلومهم ، التي تلقـوها وقد نُحِتت رُكَبُهُم وهم يتلقون تلك العلوم .
وإذا كنت معجباً بالقاموس المحيط ، فإن لهذا الرجل ما يزيد على خمسين مؤلفاً ، لا تقل جمالاً وروعة عن القاموس المحيط . منها : (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ) ،
و( تنوير المقباس في تفسير ابن عباس ) ، و( عُدّة الحكّام في شرح عمْدة الأحكام) ، و( المغانِم المُطابة في فضائل طابَة) ، و( مُهِيج الغرام إلى البلد الحرام) ، و( أحاسن اللطائف في محاسن الطائف) ، و( نزهة الأذهان في تاريخ أصبهان ) ، و( النُّخَب الطرائف في النُّكَت الشرائف ) ، و( النفحة العنبرية في مولد خير البَرِيَّة ) ..
هذا الرجل اسمه مجد الدين الفيروزآبادي محمد بن يعقوب ، ولـد في مدينــة
( كارِزِين ) الواقعة جنوبي شِيراز ، في إقليم إيــران الفارسـية سنة 729 للهجرة والموافقة لسنة 1329 للميلاد .
لم يذكر التاريخ شيئاً كثيراً عن أسرته ولا عن أبيه ، إلا أن هذا الأب كان من علماء اللغة والأدب في شيراز ، وقد وجه ولده ( مجد الدين ) إلى حفظ القرآن الكريم ، فحفظه وهو ابن سبع سنين ، وكان سريع الحفظ ، واستمر له ذلك طوال حياته ، وكان يقول عن نفسـه : لا أنام حتى أحفظ مائتي سطر .
وقد بدا ميله إلى اللغة في سن مبكرة ، ويذكر السخاوي أن مجد الدين نقـل إذ ذاك كتابين من كتب اللغة ، والظاهر أن هذا من توجيه أبيه . ومنذ هذا الوقت إلى آخر حياته كان متنقلاً من بلد إلى بلد ، ولم يعد إلى كارزين أو شيراز أبداً .
أسفاره لطلب العلم
انتقل مجد الدين وهو في الثامنة من عمره إلى شيراز طلباً للعلم ، فأخذ علوم اللغة والأدب ـ بما في ذلك النحو والصرف وعلوم البلاغة ـ عن القوام عبد الله بن محمود بن النجم ، وأخذ الحديث عن محمد الزَّرَنْدي الحنفي المدني .
ولما بلغ السادسة عشر من عمره انتقل إلى واسط بالعراق ، فتعلم فيها القراءات العشر على الشهاب الديواني ، ثم جاء بغداد ـ عاصمة العلم والحضارة يومذاك ـ وفيها تتلمذ على المحدثّيْنِ الكبيرين في زمانهما : ابن السـبّاك والصاغاني ، وروى عنهما صحيح البخاري ومشارق الأنوار، كما تعرف على قاضي بغداد ابن بَكتاش ، فأدخله معه إلى المدرسة النظامية ، وراح يعلم فيها عدة سنوات . وقد استغرق بقاؤه في بغداد عشر سنوات .
ثم تاقت نفسه إلى أن يعود إلى الطلب والتلمذة ، فجاء دمشق سنة 755 هـ وجلس بين يدي قاضي قضاتها التَّقِيّ السُّبْكي ، ثم ابنِه عبدِ الوهاب ، فأخذ عنهما علوم الحديث ، ونال منهما الإجازات الموَثَّقة ، وكذلك فعل مع المحدث : ابن الخباز المعروف بـ( مُسْنِد دمشق ) .
ومن دمشق ذهب إلى بيت المقدس ، فاجتمع بمحدثها صلاح الدين العلائي في المدرسة الصلاحية ـ نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي ـ وبالأديب والمؤرخ خليل بن أيْبَك المشهور بصلاح الدين الصفَدي صاحب المؤلفات المشهورة .
وطاب للفيروزآبادي المقام في القدس ، فبقي فيها عشر سنوات كاملات ، لم يقطعها سوى بعض الرحلات القصيرة إلى مصر ، حيث اجتمع فيها بابن عقيل شارح ألفية ابن مالك وبابن هشام صاحب مغني اللبيب وشذور الذهب ، ورحلة إلى الحجاز حيث أدى فريضة الحج .
وفي القدس ظهرت أستاذيته ، وطلبت منه المدارس أن يدرس بها ، فاستجاب للطلب ، ولمع اسمه في مختلف بلاد الشام .
استدعاءات الملوك له
شاع صيت مجد الدين الفيروزآبادي وانتشر في مختلف البلاد العربية والإسلامية ، وعرف القاصي والداني أنه العالم اللغوي الفذّ ، والمُحدِّثُ الثقة ، والأديب الأريب .. فاستقدمه الملوك والسلاطين والوجهاء والأعيان ، ولاقى استدعاؤه هوى في نفسه ، ورغبة قوية في التنقل بين البلدان والأقطار ، فوفد على الأشرف شعبان سلطان مصر سنة778هـ ، واستدعاه ملك بغداد محمد بن أويس ، وأرسل إليه كتاباً فيه ثناء عظيم عليه ، ومن جملته قوله في وصف الفيروز آبادي
القائـل القول لَوْ فاهَ الزمان به *** كانت لياليـه أياماً بلا ظـُلَم
والفاعل الفعلةَ الغراء لو مُزجت *** بالنار لم يَكُ ما بالنار من حُمَم
كما كتب على الهدية التي أرسلها إليه :
ولو نطيق لَنُهدي الفرقديْنِ لكم *** والشمسَ والبدرَ والعَيّوقَ والفَلَكا
واستدعته سلاطين الهند ، أمثال السلطان محمد شاه ، وخلفه إسكندر شاه ..
واستدعاه السلطان بايزيد ملك بروسّا في بلاد الأناضول ، وكذلك وفَدَ على تيمورلنك في شيراز ، وكان تيمورلنك مع ظلمه وبطشه يقرب العلماء والأشراف ويعلي منازلهم .
كذلك زار شاه شـجاع بن محمد مظفر اليَزْدِي صاحب عراق العجم الذي يعرف بملك الجبال ، وابن أخيه شاه منصور .. وهكذا .
سراستدعاءات الملوك :
ويخطر في البال سؤال : ما الذي حمل الملوك والسلاطين حتى تيمورلنك ـ القائد العسكري السفاح ـ على أن يستدعوا مجد الدين ، ويكرموه هذا الإكرام الكبير ؟
الحق يقال : كان هؤلاء السلاطين والملوك يحبون اللغة العربية ، ويحترمون من يتكلم بها ، بل من يختص بها ويتعمق ، كاختصاص الفيروزآبادي وتعمقـه ، كما كانت اللغة العربيـة نفسها سيدة لغات العالم في تلك الأزمنة ، وكان الحكام يحرصون على تعلمها ، والمحافظة عليها ..
ونستطيع أن نقول بكل ثقة واطمئنان : إن الناس على دين ملوكهم ، فإذا كان السلطان محباً لهذه اللغة ، غيوراً عليها ، حريصاً على انتشارها وعزتها ، وإكرام حملتها .. فالناس من ورائه يحبون تلك اللغة ، ويحرصون على إتقانها ، ويسعون لتعلمها ، والمحافظة عليها ، وإكرام المتقنين لها ... وإن كان غير مهتم بها ، أو شحيحاً في البذل والإنفاق على علمائها ، فالناس جميعاً لا يهتمون بها ، بل قد يصبحون لها مهملين ، ويغدو علماؤها غير مقدرين وضائعين بين الناس ، وصدقت قولة عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم قال : إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن .
كان الفيروزآبادي عالماً لغوياً ، ليس له مثيل في زمانه ، وكان إضافة إلى علمه باللغة أديباً موسوعياً ، ومتضلعاً بالفنون العربية الأخرى ، من نحو ، وصرف ، وعروض ، وبلاغـة ، وشعر ،إضافـة إلى إتقانه القراءات القرآنيـة، والحديث النبـوي ، والتفسير ، والفقـــه ولا سيما الفقه الشافعي .
وفوق هذا كان يتمتع بحافظة تذكرنا بحافظة أبي العلاء المعري والرواة القدماء أمثال حمّاد الراوية ، وخلف الأحمر ، والأصمعي ، والشيخ عبد الله العلايلي في العصر الحديث .. فهو قادر على أن يسرد في مجلس واحد عشرات القصص والحكايات والروايات ، فيملأ المجلس نشاطاً وسروراً وإعجاباً .
ولما كان الفيروزآبادي من أصل فارسي فهو يتقن اللغة الفارسية والتركية كذلك .. ومعرفته بهذه الألسن مكنت ملوك الهند والفرس والترك من استدعائه والاستفادة منه .
وكان مغرماً باقتناء الكتب .. ويروى أن الناصر أحمد بن إسماعيل قال : سمعت منه يقول : اشتريت بخمسين ألف مثقال ذهباً كتباً . وكان لا يسافر إلا وصحب منها عدة أحمال جِمال ، وكلما نزل في منزل نظر فيها ، ثم يعيدها إذا ارتحل . وهذا يذكرنا بالصاحب بن عباد الذي كان يقول : إنه يحتاج في نقل كتبه إلى أربع مائة جمل .
استقراره في اليمن
ولقد ألقى عصا التسيار عن كاهله في زبيد من أرض اليمن السعيدة ، بناء على استدعاء صاحبها الأشرف إسماعيل بن العباس من آل رسول ، وحين وصل ميناء عدَن قادماً من الهند استقبله عامل عدن بأمر من الأشرف ، وجهزه بأربعة آلاف درهم للقدوم على الأشرف إسماعيل ، وحين التقى الأشرف بالفيروزآبادي وصله بأربعة آلاف درهم أخرى ، وأكرمه غاية الإكرام ، وعينه المدرس الأول بزبيد ، وصار يحضر دروسه .. ثم ولاه منصب قاضي قضاة اليمن ، وتزوج ابنته .
مكافأة الحكام للمؤلفين
ويروى أنه ألف له كتاباً ، وأرسله إليه محمولاً على طبق ، فأخذه الأشرف ، ورد الطبق مملوءاً بالدراهم .
ثم ألف له كتاباً آخر سماه ( الإسعاد ) في ثلاثة مجلدات ، وأرسله محمولاً بأطباق على رؤوس ثلاثة رجال ، وسار أمامهم ، ومعه الفقهاء والقضاة وطلبة العلم ، ووصل الموكب إلى حضرة السلطان ، فقدم مجد الدين إليه الكتاب ، فأجازه بثلاثة آلاف دينار ذهباً .
لم تكن هذه الطريقة في إهداء كتاب لسلطان أو أمير أو شريف بغريبة تلك الأيام ، فقد ألف الجَمَال الرِّيمي قبله كتاب ( التفْقِيه في شرح التنبيه ) في أربعة وعشرين جزءاً ، وحمله المتفقهة على رؤوسهم إلى باب السلطان ، فحباه السلطان بثمانية وأربعين ألف درهم .
ومن قبله قدم أبو الفرج الأصفهاني كتابه ( الأغاني ) إلى سيف الدولة ، فحباه ألف دينار ذهباً ، واعتذر إليه بضائقته المالية يومذاك . واستنسخ الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر الأندلسي كتاب (الأغاني ) فأرسل إلى أبي الفرج ألف دينار .
رغبته بالحج :
واستأذن الفيروزآبادي السلطان بالسفر إلى الحج ، فلم يأذن له ، رغبة في الحرص عليه ، وألا يحرم البلد من علمه وفضله ، وقرر أن يبقى إلى جانبه .
لكنه عاد فكتب إليه ثانية كتاب استعطاف ، ومما جاء فيه : " .. وغير خاف عليك ضَعفُ أقلِّ العبيد ، ورقةُ جسمه ، ودِقةُ بِنْيَتِه ، وعلوُّ سِنِّه ، وقد آل أمرُه إلى أن صار كالمسافر الذي تحزَّم وانتعل ، إذْ وَهَنَ العظمُ ، بل والرأسُ اشتعل ، وتضعضع السِّنّ ، فما هو إلا عظامٌ في جُراب ، وبُنيانٌ مشرِفٌ على خراب ، وقد ناهز العشْر التي تسميها العرب : " دقاقة الرقاب " ... وقد غلب عليه الشوقُ حتى جلَّ عمْرُه عن الطوق ، ومن أقصى أمنيته أن يجدد العهدَ بتلك المعاهد ، ويفوزَ مرة أخرى بتقبيل تلك المشاهد ... "
ولما وصل الكتاب إلى السلطان كتب إليه الرد التالي : " ... إن هذا الشيء لا ينطق به لساني ، ولا يجري به قلمي ، فقد كانتْ اليمنُ عمياءَ فاستنارت ، فكيف أن نتقدمَ بالإذن إليك ، وأنت تعلم أن الله قد أحيا بك ما كان ميتاً من العلم ؟ فباللهِ عليكَ إلا ما وهبتَ لنا بقيةَ هذا العمر .. واللهِ يا مجدَ الدين ! يميناً بارَّة ! ً إني أرى فراقَ الدنيا ولا فراقَك .. أنتَ اليمنُ وأهلُه " .
ويظهر أن السلطان أذن له في الحج سنة 802 للهجرة ، فأقام بمكة زمناً ، وأسس فيها مدرسة باسم الملك الأشرف ، تدرِّس الحديث والفقه الشافعي ، وفعل مثل ذلك في المدينة المنورة .. ثم عاد إلى اليمن ، وكان الأشرف قد مات قبل وصوله ، وتولى السلطنة ابنه السلطان الناصر أحمـد ، ولم يكن مع مجد الدين كأبيه بِـرّاً واحتراماً ، ولم يشأ أن ينفق على مدرستي مكة والمدينة كما كان أبوه ، فأغلقتا . ونقل السخاوي : أنه خرَّبَ بلاد اليمن لكثرة ظلمه وعسفه ، وعدم سياسته ومات الفيروزآبادي سنة 817هـ الموافقة لسنة 1415 للميلاد . ودفن بمقبرة الشيخ إسماعيل الجبرتي في زبيد .
كلمة خاتمة لا بد منها :
فهذا رجل واحد من أبناء القرن التاسع الهجري الموافق للخامس عشر الميلادي .. والذي تذكره كتب كثيرة ، منها ما هو مقرر على طلبة المدارس في معظم البلاد العربية ، ومنها غير مقرر .. تصف هذا العصر كله بالانحطاط ، وتذهب في شتمه من أوله إلى آخره بشتائم شتى ، وحجتها في ذلك : أن بعض شعرائه ومؤلفيه أكثروا من الجناس والطباق والسجع وأشباه هذه الفنون ، وعموا عن الروائع التي تذهب بالألباب ، والموسوعات التي لم يستطع القرن العشرون ولا الذي بعده أن يأتوا بمثلها ، ولا بنقاء الأساليب التي صيغت بها .
وكم نتمنى أن نجد في أي بلد من بلادنا العربية من يضارع ، أو يقارب هؤلاء العمالقة الذين عبروا تلك القرون السابقة ، وتركوا لنا ما نرفع به رأسنا ونعتز بعربيتنا وأمجادنا وتاريخنا .
7/11/1427هـ
27/11/2006م
بكري شيخ أمين