دخل الأستاذ نبيل غرفة المدرسين وصخب ازدحام المواصلات الصباحي ما زال يزمجر في أذنيه وجلس ليرتاح بضع دقائق قبل بدء الحصة الدرسية الأولى. وسرعان ما وقعت عيناه على مسجل صغير، تأمله لبرهة ثم خطرت له فكرة جعلته يقفز فرحاً. اقترب من المسجل وتفحصه وابتسم، فكما توقع كان المسجل يحتوي على مذياع. قام بتشغيله وبحث بين الإذاعات المختلفة حتى وجد إذاعة تبث أغاني فيروز. جلس قرب المذياع وأغمض عينيه مترنماً على صوت فيروز محاولاً أن ينسى كل ما حوله.
وبعد دقيقة بالضبط وقبل أن تكمل فيروز أغنيتها، دخل الأستاذ توفيق أستاذ اللغة العربية. كان الأستاذ توفيق معروفاً بميوله الإلحادية، عدا عن أنه كان مدعوماً من السلطات العليا بسبب صلة قربى تربطه بأحد كبار المسؤولين، ولذلك كان معظم المدرسين يتحاشون الخوض في أي نقاش معه. هرع الأستاذ توفيق إلى المذياع فجأة ثم رفع الصوت إلى أعلى درجاته، وكأنه ينتقم من شيء ما أو شخص ما. غضب الأستاذ نبيل من هذه الحركة، وأزعجه الصوت العالي للمذياع خاصة وأنه يجلس بجانبه تماماً. وبدل أن "يطرب" لصوت فيروز بدأ "يطرش" منه، ولكن لأنه رجل مسالم كما تقول عنه زوجته لم يقل أو يفعل شيئاً سوى أن نهض وانصرف.
في الصباح التالي، وصل الأستاذ نبيل مبكراً كعادته، وتفاجأ بوجود المسجل في مكانه في غرفة المدرسين. فسار إليه وشغله وجلس بجانبه مغمض العينين يسبح الخالق وهو يسمع صوت فيروز الملائكي. وبعد برهة دخل الأستاذ حسون مدرس التربية الإسلامية، وقبل أن يرمي السلام على أحد هرع إلى المذياع واقتلع الفيش من مكانه بعنف وكأنه ينتقم من شيء ما أو شخص ما. فتح الأستاذ نبيل عينيه وكأن أحدهم أيقظه من حلم جميل، وغضب من هذه الحركة، ولكن لأنه رجل مسالم كما تقول عنه زوجته لم يقل أو يفعل شيئاً سوى أن نهض وانصرف.
وفي الصباح التالي، وصل الأستاذ نبيل مبكراً جداً. نظر إلى جدول دوام المدرسين وفرح عندما رأى أن الأستاذ توفيق والأستاذ حسون غير موجودين اليوم. هرع إلى المذياع وشغله ووضعه في حضنه هذه المرة وسحب شهيقاً عميقاً وهو مغمض العينين. وبعد دقائق دخل الموجه إلى الغرفة، وما أن وقعت عيناه على المسجل حتى هرع إليه وأخذه من الأستاذ نبيل. ثم أعطاه بدلاً عنه محاضرة في عدم التصرف بأموال الطلاب للمصلحة الشخصية، فهذا المسجل تم شراؤه من صندوق التعاون الطلابي وهو للطلاب ولا يجوز من معلم "محترم" (على حد تعبير الموجه) أن يستغله لأغراض شخصية، ونسي الموجه أو تناسى في غمرة الشعارات التي كان يرددها على مسمع الأستاذ نبيل الولائم التي يقيمها مدير المدرسة لأقاربه أيام العطل في المدرسة والتي يصرف عليها من أموال الطلاب. غضب الأستاذ نبيل غضباً شديداً من هذا النفاق، ولكن ولأنه رجل مسالم كما تقول عنه زوجته لم يقل أو يفعل شيئاً سوى أن نهض وانصرف.
وضاعت فيروز بين الأربعة!