بسم الله ولاحول ولاقوة إلا بالله
أما بعد:في كل مجتمع مسلم لقاء بين زائروَمزورلقاء يتجدّد كلَّ عام، تحفّه الخيرات والمكارم والإنعام، أمّا المَزور فكل مسلم رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبخيرالأنام محمد نبيًا ورسولاً وكل مؤمن يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، أما الزائر فضيف عزيزكريم يحل علينا كل عام يحمل معه المكارم والبشائرويفيض على الأمة من سحائب الجودالإلهي والكرم الرباني يحل علينا كل عام، فتستقبله الأمة بالوجوه الباسمة والنفوس السامية والهمم العالية، لكن في هذا العام قد زارناونعم الزائرهوفاستقبلته الوجوه البائسة والهمم الباردة.
خاطب الضيف العزيز مضيفه فتكلم وافد المسلمين قائلاً:
مرحبا أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيبًا زارنا في كـل عـام
عذركم شهرنا عما تـرى إنّ أرض المسلمين اليوم تضام
أيها الشهر المعظم، عذرًا فنحن والله لا نعرف أفضالك ولا ندرك جلالك ولا نستشعر نفحاتك ولا نستقي من بركاتك. عذرًا أيها الشهر المعظم، قد حللت علينا هذا العام ونحن نصارع طوفانًا من الفتن هائجًا وموجًا من الهموم عاتيًاتحل علينا هذا العام وأمة الإسلام قد رمتها أمم الكفر عن قوس وتكالب عليناالأعداء يهوديُّهم ونصرانيُّهم شيوعيُّهم وهندوسيُّهم، بوذيُّهم ورافضيُّهم منافقُهم وعلمانيُّهم، وأمة الإسلام ما بين مظلوم تُداس كرامته ويهجَّر من بلده ويُحال بينه وبين شريعة ربه، وما بين متخاذل خذل إخوانه في موقف أهينت فيه كرامته، وانتقص فيه عرضه، وما بين ضعيف لا يملك حولاً ولا طولاً ولا قوة.يا شهر الله المعظم، نحن المسلمين قد أوذينا في ديننا وعقيدتنا ودمائنا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. يا شهر الله المعظم، تحل علينا هذا العام وقد أطلت الفتن بأعناقها وأصبح الحليم حيرانًاتذبذبٌ في الآراء والمواقف،نكوصٌ على الأعقاب انهزامية نفسية
عذرًا على الجفاء وضعف الاحتفاء فأنت تحل علينا ضيفًا عزيزًا في زمن ظهرت فيه خفافيش الظلام وهم المنافقون الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وبرز فيه أصحاب الشهوات الذين يريدون أن تميل الأمة ميلاً عظيمًا، ظهروا في زمن انشغلت فيه الأمة بمصائبها، وهكذا هم لا يظهرون إلا في الأزمات، يظهرون ليبثوا سمومهم ولينشروا أفكارهم العفنة ودعواتهم المنحرفة والتي تهدف إلى إفساد أخلاق المجتمع ونبذ الأحكام الشرعية التي تكفل قيام مجتمع محافظ تسود فيه الفضيلة
يا أيها الشهر الكريم، لقد استعدت لك الأمة وتهيأت لاستقبالك، فالإعلانات التجارية والزحام في الأسواق ينبئك عن حال فئة من الناس لا ترى فيك إلا موسمًا لملء البطون والتنافس في كثرة الصحون، ووسائل الإعلام جعلت منك موسمًا للهو والترفيه غير البريء، عبر الفوازير والمسلسلات الساقطة مما طاش به عقل الحليم، وما طاش إلا لما فيها من السفه والسقوط الوخيم.ياأيها الشهر المعظم،
حينما تحلّ علينا يغدو إلى المساجد أناس تعرف منهم وتنكر، ما هم بجن ولا ملائكة، كل ما نعرفه عنهم أنهم مسلمون، ويسمعون نداء الله يجلجل في بيوتهم طوال العام، لكنهم لا يعرفون طريقًا إلى بيت الله إلا حينما تحلّ علينا، وحتى حينما تحلّ علينا فهم يَكثُرون عند المغرب والفجر، وينامون عن الصلاة في الظهر والعصر، فبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
يا شهر الله العظيم، هذه بعض حالنا، وهذا خبر ما عندنا، وهذا هو عذرنا حينما استقبلناك بالفتور وضعف العزيمة، فيا ترى ما خبر ما عندك؟
أجاب الزائر الكريم شهر رمضان المعظَّم بلسان الحال فقال: قد تسمّعتُ ـ يا وافد المسلمين ـ إلى مقالك وتألّمت لحالك، وآلمني أن تكونوا آيسين قَنِطين، أوَما علمتم أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟لِمَ اليأس ووعد الله لن يُخلَف وكلمته لا تتبدل وسنته في الأمم لا تتغير؟! وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ [الروم]إن أوذيتم في دينكم وعقيدتكم فـعَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف]وإن تسلط المنافقون فأظهروا كيدَهم ومكرهم وتَبَينَ مسارعتهم خلف العدو فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَاأَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَدِمِينَ [المائدة]
أماما تشكوه من حال فئة من الناس لايرون في الحياة الدنياإلا فرصة للمآكل والمشارب والملاهي والملاعب فتلكم حال أهل الهمم الضعيفة الذين لا يرون في الحياة إلاأنهالهوولعب وزينة وتفاخرونسواأنه في الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان فكما أنّ في الناس من يريد الدنيا فمنهم من يريد الآخرة، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ [الفتح] تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة]فهؤلاء وأولئك سيلقي كل منهم ما عمل، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:يا وافد المسلمين، إن من ذكرتهم بأنهم لا يعرفون بيت الله إلا في رمضان وكأنهم يستكثرون على الله زيارة بيته والنيل من فضله ثم هم يهجرون المساجد ويتركون الصلاة بعد رمضان، هؤلاء يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. بلِّغ هؤلاء أن الله غني عن عبادتهم، وأن دين الله وأحكامه لا يقبل التلاعب والمخادعة، وأن الأمر بالعبادة لا يحدّ بزمان أو مكان، وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ [الحجر](اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها)قل لأولئك: فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ [التوبة] فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ٱللَّهِ [القصص]يا وافد المسلمين، اسمع مني وبلغ مَنْ وراءك: إني شهر شرّفه الله وعظّمه، فيّ تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران، وإني ميدان للتنافس والمسارعة إلى الخيرات، فتزوّدوا مني، فإني إذا مضيت لا أعود.يا وافد المسلمين، بلغ مَن وراءك أني أحلّ عليكم وأنتم تنعمون بأمن في الوطن وصحة في البدن ورغد في العيش وسعة في الرزق، وإنني أفد على آخرين وهم يقضون أيامي في حالة لا يعلمها إلا الله جل جلاله؛ خوف وجوع ومسغبة وبرد قارس، لا مأوى ولا سكن ولا أمن في الوطن يقضون أيامه تحت أزيز الطائرات المهاجمة وزئير الدبابات وأصوات الطلقات،قد حيل بين الأب وأبنائه والزوجة وزوجهاأقدم على قوم على الأسرَّة البيضاء يتمنّون أن يصوموا مع الصائمين ويقوموا مع القائمين، بلّغوا من وراءكم أنكم قد بلغتموني وأدركتموني، بينما اخترم الموت أناسًا كانوا مثلكم، لهم من الآمال ما لكم، وعندهم من القوة ومن الغنى ما عندكم، لكنهم اليوم في بطون الألحاد صرعى، ويتمنون لله ركعة أو سجدة أو صياماولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون. فهؤلاء وأولئك سيلقى كل منهم ما عمل، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.ياوافد المسلمين، بلغ من وراءك أن الجنة حفت بالمكاره، وأن سلعة الله الجنة غالية،لا تنال بالتشهي ولا بالتمني،وأن رحمة الله التي يعلّق عليه البطّالون آمالهم دون عمل لا يستحقها إلا أهلها، وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف]ومغفرة الله لا ينالها إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى.ياوافد المسلمين،بلغ مَنْ وراءك في شهري المعارك الحاسمة والانتصارات الرائعة،وأن من نصررسوله على المشركين في بدر سينصرهم على الصليبيين اليوم، وأن من فتح مكة لرسوله سيفتح على المسلمين اليوم فتحًا مبينًا، وأن من أذل التتار في عين جالوت سيذل أحزاب الكفروإياكم والقنوط،إنكم قوم تستعجلون.يا وافد المسلمين،أنا شهر قبول الدعوات وإغاثة اللهفات وكشف الكربات،فبلغ مَنْ وراءك أن للصائم دعوة لا ترد،وله عند السحر والفطر دعوة مستجابة، فادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين.وصلوا وسلموا على خير المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين..