أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام
(الجزء الثاني)
ثم إن من عادة الإنسان أن يؤجل كثيرا من الأعمال والمبادرات التي تجول بخلده، على الرغم من الأهمية البالغة التي تنطوي عليها في كثير من الأحيان، حتى بحث المرء عن ذاته والوقوف على حقيقتها، وكذا محاولة العثور عن إجابة الكثير من الأسئلة المصيرية يتم تأجيلها مع مرور أيام الحياة الدنيوية القصيرة؛ بل حتى التوبة إلى الله عز وجل مؤجلة، وكأن الذات الإنسانية تستشعر عجزها عن مقاومة هذا التأجيل في حاضر وجودها، ولا تترقب تجاوزه إلا في المستقبل، فهل هذا دليل على إن نزوع الإنسان إلى التأجيل هو جزء من حياته اليومية؟
إن العناء كل العناء في أن يفقد المرء كل معنى لحياته، ويستسلم للقلق والشك، والأوهام والهواجس التي تعبث بنفسه وعقله، وتحجب عنه الغاية من وجوده بين الأحياء؛ فالإنسان غالبا ما ينتصر للجانب المادي من الحياة، ويتخذ المادة هدفا ومطلبا له دون الجانب الروحي، فيخيل إليه أن الدين عامل معاكس يقيد نشاطه، ويحد من حركته، ويحول بينه وبين السعادة المنشودة.
ولا شك أن شقاء الإنسان ومعاناته تتضاعفان كلما أمعن في الاستعلاء بالعقل على صوت الفطرة، اعتقادا منه بأن الكائن العاقل مؤهل دون باقي المخلوقات للإحاطة بعالم الغيب، لكن لما تعذر عليه نيل وتحصيل المعرفة الغيبية، فإنه نفى وجودها، ولم يقر ويعترف إلا بما هو محسوس مادي، ثم استبعد الشك في قصور وعجز عقله، وزج بنفسه في غمرة الإلحاد، ونحى بها وجهة شاذة لا تطيق المضي فيها.
إن الجدل والعناد من طبائع البشر، إذ الإنسان يسرف كثيرا في الثقة بنفسه والاعتداد بعقله، ويسرف أكثر في إطلاق الأحكام والانتصار لها بغير علم، في حين يجهل الوظيفة الحقيقية والطبيعية للعقل، ولا يعي جيدا الحدود الأصلية التي تنشط فيها هذه الملكة وهذه الطاقة الحيوية التي أودعها الله عز وجل فيه، حتى إذا سقط في أسر أناه المتضخمة، وخدعته جاذبية ذاته، لم يتبين الغاية من حياته الفكرية، والهدف من ممارسة التفكير، والنظر، والتأمل.
وأول ما يغيب عن المرء سهوا أو تجاهلا منه، هو أن أصل ماهيته مشترك بين المادة والروح، فيفضي به هذا الجهل المركب إلى تأليف قناعات واهية حول الحياة، والكون، والإنسان، وباقي الكائنات الحية، ثم الاحتفال بالمحسوس من الموضوعات دون المجرد منها، مع الإغراق في جدال عقيم في شأن وجود الله تعالى، ومدى قدرة الإنسان العقلية وقوته الذهنية، ثم إن صوت الفطرة السليمة لم يضعف في أي زمن من الأزمان أمام نداء العقل، لأن الفطرة والعقل صوت واحد، ونداء موحد نابع من مشكاة واحدة، يهتدي به الإنسان في حياته الدنيا من أجل بلوغ الحياة الأخرى بسلام.
أما الإحساس بالاختلاف أو التناقض بينهما فهو من قبيل الوهم البشري، لأن كلا من العقل والفطرة هما مجرد وسيلة مسخرة ليخلص الإنسان إلى حقيقة ونهاية واحدة، وهي الإيمان بوجود الله وتوحيده، ثم الاعتقاد في الإسلام الذي ارتضاه الخالق تعالى لعباده جميعا.
إنه الاعتراف بالإيمان والاعتقاد في الله عز وجل، القائم على ثلاثة مستويات، هي: الوراثة، والشعور، والتفكير؛ إنه إيمان راسخ عن طريق التقليد والمحاكاة، والقلب، والعقل، وهذه ثلاثة مصادر تستقي منها الذات الإنسانية استواء إيمانها، ثم إن الإيمان المقصود في هذا السياق، يبدو للوهلة الأولى مركبا من مصادر متكاملة، أدناها الوراثة أو التقليد، وأعلاها التفكير أو العقل، بينما هو في واقع الأمر ليس كذلك، لأننا أمام ثلاثة ضروب من الإيمان، كل منها قائم بذاته ومستقل بطبيعته، لكنها مصادر إيمان لا ينفي بعضها بعضا، وإن كان الإيمان بالوراثة هو غير الإيمان بالقلب أو العقل.
إن الإيمان بالله عز وجل، الذي يستند إلى الفطرة والعقل معا، هو الذروة في الاعتقاد والعبادة، لأن الخالق تعالى لا يعبد بالجهل، وكذلك الإسلام لا يتخذ دينا بكيفية اعتباطية، أو حسب أهواء المخلوق؛ بل إن الاعتقاد في الله عز وجل وفي الإسلام يقوم على العلم و يرسخ به.
ب ـ الذات الغربية و الإسلام
إن اللقاء الذي يجمع بين الذات الإنسانية والعقيدة في فضاء أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يزداد إثارة وقوة عندما يتم بين الأنا الغربية وغير العربية عموما والإسلام، لأنه لقاء بين كائن مضطرب حائر وعقيدة ثابتة ومعتدلة، تقوم على توازن تام وانسجام متكامل، ثم إنه لقاء بين إنسان ضائع لا يستقر على حال ونظام تغمره الحياة.
ولا شك أن الذات الغربية هي أفضل من يقر للإنسان العربي المسلم بتفرد حياته، ويعترف بامتياز عقيدته، وذلك بناء على تجليات ملموسة بسند علمي، والأمثلة متعددة في هذا الباب، نكتفي منها بذكر ما خلص إليه جاك بيرك (JAQUES BERQUE)، وهو أحد أعلام الاستشراق الغربيين، الذي رأى في علاقة الغرب بالشرق، أو عما أسماه الخطيئة الأولى، سببا رئيسا في الصراع الكبير الذي نشأ داخل المجتمع العربي، وفي قلب الذهنية العربية أيضا.
لقد ذهب جاك بيرك (JAQUES BERQUE) إلى الاعتقاد في كون الدافع الذي كان من وراء اعتناق عدد من الغربيين الإسلام، قد تمثل في ضيقهم الشديد بالحضارة الغربية المستعبدة من طرف المادة والآلة، وشعورهم بأن الحقيقة الأزلية كامنة في البلاد الشرقية، حيث السلوك العربي الإسلامي يتمثل في التكامل والانسجام مع الطبيعة، بعيدا عن عوامل وأسباب القلق، والشك، والتمزق، التي تمثل جوهر الصراع الدائم في عمق الذات الغربية.
ولا شك أن قوة الجذب التي تعد من العناصر الأساسية التي تميز الإسلام كان لها عظيم الأثر على طائفة من الشعوب الغربية، التي رأت في هذا الدين تتمة للنصرانية، ومن ثم لم تجد نفسها غريبة داخل الوسط الإسلامي، فكانت تجربة الدخول في الإسلام فريدة من نوعها، ونتيجة للحظة اكتشاف ويقظة في وسط اجتماعي ينكر وجود الله عز وجل، ويتخذ المادة إلها معبودا، والتقدم المادي دينا، وداخل محيط فاسد مختل تلسع الإنسان فيه عزلة رهيبة.
إن الشك العقدي الذي قاد إلى الثورة على الدين في العالم الغربي، بقدر ما كان نتيجة للصورة المشوهة التي أعطتها الكنيسة الأوربية للعقيدة المسيحية من ناحية، وتضييقها الخناق على العلماء والحركة العلمية، وإلزامها الناس كرها بالخرافات والأكاذيب باسم الخالق من جهة ثانية، بقدر ما كان سببا مباشرا وباعثا لدى فئة عريضة من الغربيين بوجه عام على إثارة مسألة البحث عن بديل ديني خارج البلاد الغربية، ثم إعادة النظر في العديد من المفاهيم والقيم، وعلى رأسها مصدر الوجود البشري والكوني، ومفهوم الحياة، وممارسة النقد الذاتي والاجتماعي، من خلال تقييم التجارب الحياتية الفردية والجماعية في العالم الغربي على كافة المستويات.
إن حضور الذات الغربية المسلمة بمختلف تجاربها الواقعية يضفي على السيرة الذاتية الإسلامية واقعا فريدا من نوعه، يعكس تجليات الوجود الإنساني المتأثر بالإسلام، وهذا ما حدا بعدد من الكتاب الأجانب إلى سرد تاريخهم الخاص، بقصد الإدلاء أولا بشهادة في حق الإسلام، الذي له من الفضل عليهم بإذن الله عز وجل ومشيئته ما لا يستطيعون له حصرا، وثانيا بهدف أن تكون شهادتهم تلك أحد أسباب الدعوة إلى الإسلام، وتعبيرا على وعيهم بحقيقة ذواتهم المعتقدة، ثم منبرا أدبيا يتحدثون منه إلى غيرهم بنعمة الله تعالى عليهم.
ثم إن اهتمامات وتوجهات الذات الأجنبية شكلت لديها معاناة من طبيعة خاصة، فقدت في غمرة حيرتها وقلقها معنى الحياة الهادئة المستقرة والآمنة، خاصة أن الدين عند النصارى يكتسي صبغة شخصية، وأن مجال تدخله ينحصر فقط في الأخلاق والمعتقدات، ولا يتجاوزها إلى العلم والسياسة، ومن ثم تعددت العوامل المعاكسة التي حولت وجود الذات الغربية إلى جحيم لا يطاق، وزجت بالإنسان الأوروبي في متاهات وضياع شبه مطلق.
ويذكر روجيه جارودي ( ROGER GARAUDY ) عددا من أدباء الغرب، الذين أدركوا القرن التاسع عشر، وكانت لهم آراء متفقة في كثير من الأحيان، ومتضاربة في حالات نادرة حول الشرق العربي والإسلام، فقد ألف وركب كل من فيكتور هيجو
(VICTOR HUGO)، وفلوبير (FLOBERE) بخيالهما شرقا تافها لا قيمة له، وكذلك فعل شاتوبريان فرنسوا روني دي
(CHATEAUBRIAND FRANCOIS - RENE DE)، وكان بدوره حاملا لإرث ضخم من الأحكام الجاهزة والملفقة على الشرق، تراكمت في عدة قرون، بحيث لم تكن نظرته إلى الشرق إلا من زاوية رومانسية انطباعية، متهما المسلمين بجهل الحرية، وعبادة القوة، أما لامارتين (LAMARTIN)، وجرار دي نرفال (GERARE DE NIRVALE) فلم يجدا في الشرق سوى الفراغ والجهل.
ثم إن رولان موسينييه ( ROLAND MOUSSINIER ) يرى بأن صورة الإنسان العربي المسلم في ذهن الإنسان الغربي تتمثل في ذلك التركي أو ذلك الشرقي الذي يقف معه على طرفي نقيض، مثل ما يناقض الشرق العربي الإسلامي البلاد الأوروبية، ومن بين أمثلة الرأي الآخر المعاكس في العالم الغربي، اعتراف هيردر ( HIERDERE ) بأن العرب كانوا أساتذة أوربا.
وكتب غوته يوهان وولفكانك فون ( GOETHE JOHANN WOLFGANG VON ) في أواخر القرن الثامن عشر سنة 1774 للميلاد شعرا يمدح به الرسول عليه الصلاة والسلام، و دعا إلى الهجرة نحو الشرق ليستمد منه أهل الغرب دما جديدا، وكان غوته ( GOETHE ) يرى في الإسلام عقيدة تقيم بناء المجتمع على العمل لا على التواكل.
إن دراسة الإسلام في كثير من مؤلفات الكتاب الغربيين، وكذلك نظرتهم إلى الشرق العربي، لم تتم بكيفية موضوعية، وفي أجواء بريئة من التعصب العقدي والفكري؛ بل إن معظم الأعمال سخرت لطمس حقيقة الإسلام وحضارة الشرق العربي معا، ولم يكن هذا الواقع العدائي أمرا مثيرا أو موقفا غير منتظر، ذلك لأن الإنسان الغربي كان كثير الشرود في أوهامه، وأحقاده، وتصوراته حول الإسلام، والمسلمين، والبلاد العربية، التي كانت بالنسبة إليهم مسرحا للأساطير المختلفة، وأرضا مغمورة تغري باكتشاف مجاهلها وخوض المغامرات فيها.
ولا ريب في كون هذا الحكم المسبق، وهذه الصورة المظلمة المأخوذة عن الإسلام والمسلمين، والتي يكتسي تكسيرها ونقضها من قبل الذات الغربية المهتدية إلى الإسلام أهمية بالغة في وسطها الاجتماعي، تعكس أحد الأسباب المتعددة، التي تكرس على مستوى آخر اغتراب وعزلة الإنسان الغربي المسلم في العالم الغربي.
إن المواجهة بين العالمين: الغربي والعربي الإسلامي كانت حضارية شاملة، ومن ثم تحول الإسلام إلى عقدة مترسخة في الذاكرة الغربية الجماعية، هذا بالإضافة إلى أن الحركة الاستشراقية غذت النظرة العدائية لدى الإنسان الغربي تجاه الإسلام، من خلال نشاطها المكثف الذي لم يكن في أساسه بحثا علميا خالصا، وإنما كان عبارة عن حملة تبشير حاقدة على الإسلام، تهدف إلى خدمة الكنيسة والقوى الاستعمارية؛ لقد كان العالم الإسلامي وما يزال في الثقافة والعقلية الغربية بنية سياسية إيديولوجية عدائية.
ثم إن الأصوات التي ارتفعت داعية أهل الغرب إلى إنصاف الشرق واحترامه، ودراسة الإسلام بعد الإطلاع والتعرف عليه بعيدا عن الأحقاد والأحكام المسبقة، وذلك بالتخلي عن جميع أخطاء القرون الوسطى، سواء منها الفكرية أم العقدية، التي أوهمت الإنسان الغربي بدونية شعوب الشرق، وصورت له الإسلام عدوا للمسيحية، وبؤرة للفساد والجهل، وسفك الدماء؛ جميع تلك الأصوات تعالت أيضا منتقدة العالم الغربي من خلال قيمه، ومفاهيمه، ومظاهره الزائفة، حتى إن جميع الشهادات الواردة في هذا الشأن تتفق وتتكامل في الكشف عن قمة الشقاء والانحراف في حياة المجتمعات الغربية.
لقد أدرك كل من دخل في الإسلام، من الغربيين خاصة، أن العلاقات الإنسانية في المجتمع الغربي قائمة على الزيف، والخداع، والخبث، واستثارة الغرائز، وتهييج الشهوات الحيوانية، ذلك أن رعاة الحضارة الغربية يعلمون تمام العلم أن هذا النمط الحضاري يتغذى على الخلاف والتمييز العنصري، وعلى الأكاذيب والحجج الواهية، كما يجتهدون ما وسعهم الاجتهاد في سبيل طمس فطرة الإنسان، والقضاء على مشاعره، وقتل رغبته في معرفة الحقيقة.
د. أبو شامة المغربي