جريدة ( الاتجاه الآخر ) هولندا ـ لاهاي – العدد : 43 تاريخ : 25/12/2001 م
الموضوع (الجن حقيقة أم خيال) الحلقة الحادية عشرة، للكاتب سليم الجابي .
قال الكاتب: (( والآن لنتناول الكلام على مفهوم ( الطير ) الوارد في نص الآية : { وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ... } .
يقول : وهنا أرجو من عزيزي القارئ أن يستعيد في ذهنه ما توصلنا إليه سابقاً من معاني لكلمة ( الطير ) وخاصة منها دلالة كلمة (طير) على دماغ الإنسان الذي يملك مخيلة تعينه على التحليق بفكره في مختلف الأجواء بدون أجنحة .. !
فيكون المقصود في هذه الآية الكريمة { وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير } الفصيل العسكري من أصحاب الأدمغة، وهم الذين اصطلحوا على تسميتهم في زماننا ( بفصيل الفنيين ) من مختلف الاختصاصات ... !
وإن جيش سليمان جمعت فصائله المؤلفة من ثلاث فصائل هي : فصيل الأمراء والفدائيين وهم الجن وفصيل الجنود العاديين وهم الإنس وفصيل الفنيين وهم الطير)) . انتهى كلامه .
أقول وبالله التوفيق :
لنقتصر في الرد على هذه الجزئية من المقال لئلا يطول بنا الكلام، وسيأتي الرد على الجزئيات الأخرى من: ( كلام النمل، ومساكنهم، ويحطمنكم .. الخ ) في مقال آخر إن شاء الله تعالى .
إن تفسير الكاتب ( الطير ) بدماغ الإنسان وأنه الفصيل العسكري أو الفني في جيش سليمان باطل من عدة وجوه :
أولاً : من الوجهة اللغوية، إذ لم يرد في كلام العرب قديمه وحديثه حتى في عصر الانحطاط أن الطير يعني دماغ الإنسان .
ولدينا مراجع عديدة وكثيرة من كتب الأقدمين ومؤلفاتهم، سواء في العصر الجاهلي قبل الإسلام أو في العصر الإسلامي الزاهر الذي تلاه أو في العصور التي تلت العصرين السابقين، فارجع إلى أي مصدر من مصادر اللغة العربية ومعاجمها في المكتبة العربية فلن تجد هذا المعنى ولا قريبا منه .
كما لن تجد لها ذلك المعنى في العصر الحديث، ولا في الأدب العربي الحديث، اللهم إلا في
ذينك المصدرين أو الكتابين ( محيط المحيط ) و ( فتح البيان ) اللذين استشهد بهما الكاتب على مدعاه، واللذين استحوذا على فكره وعقله وقلمه وحتى عقيدته، فهو لا يرى غيرهما لأنه ينظر بعين واحدة، ومن ينظر بعين واحدة فانه يرى الأشياء مغبشة غير واضحة .
وإلا فان الطير بمعناه الحقيقي وشكله الظاهر للعيان معـروف لدى الناس جميعاً، وكان معـروفاً
لدى العربي منذ أقدم العصور، ولا يمكن أن ينصرف ذهنه عند سماعه كلمة ( الطير ) إلى غير هذا الحيوان الذي يطير في الجو، والقرآن الكريم خاطب العرب بلغتهم حتى يفهموه ويعملوا به قال تعالى: { إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون } .
ثانياً: من وجهة ( القرآن ) أيضاً باطل .
وإن ما ذهب إليه الكاتب في تفسيره لكلمة ( الطير ) فاسد المعنى فيما نص عليه كتاب الله عز وجل وخير تفسير نلجأ إليه في تفسير كلام الله عز وجل القرآن ذاته إذ ان كلام الله تعالى يفسر بعضه بعضاً في كثير من آياته .
وقد وردت هذه الكلمة ( الطير ) في كتاب الله عز وجل في أكثر من موضع سنأتي على ذكرها بعد قليل والقرآن الكريم أنزله الله تعالى كما قال: { بلسان عربي مبين } وقال جل ثناؤه: { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } .
والعرب عند نزول القرآن فهموه على حقيقته ولم يخطر على بال أحدهم أن الطير هو دماغ الإنسان أو الفصيل العسكري أو الفني في جيش سليمان .
وحبذا ذكر الكاتب مصدرا واحدا من مصادر اللغة العربية ومعاجمها – وهي كثيرة – فسر الطير ذلك التفسير الغريب على الأسماع البعيد كل البعد عن الصواب .
ثالثاً : مما لا يخفى على كل دارس للغة العربية أن الكلام يفسر على حقيقته وظاهره إلا إذا تعذر ذلك فانه عندئذ يفسر ويصرف إلى المجاز، كما سنضرب على ذلك أمثلة فيما يأتي .
وان كلمة ( الطير ) ظاهرة المعنى تدل بحروفها على ذلك الحيوان الذي يطير في جو السماء كما قال أحد الشعراء في عصر الانحطاط، ولعله الشاعر صفي الدين الحلي:
السماء سماء والأرض أرض والطير فيما بينهن يجول
فذكر الطير ووصفه مبيناً مجاله وما أختص به بالجولان ما بين السماء والأرض، حتى في عصر الانحطاط الذي تدنت فيه اللغة عن العصرين السابقين الجاهلي والإسلامي لم يخطر على بال أحدهم أن الطير هو دماغ الإنسان أو الفصيل العسكري والفني في جيش سليمان .
رابعاً : وإذا تتبعنا هذه الكلمة ( الطير ) في القرآن الكريم نجد أن الله تعالى ذكرها في العديد من آياته، منها : قوله تعالى: { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله } النحل: 79، وقوله جل ثناؤه: { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن } تبارك: 19، وقوله عز شأنه: { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم .. } الأنعام: 38، ولنشرح الآية الأخيرة بشيء من التفصيل .
أقول: ربما كان هذا وجهاً من وجوه إعجاز القرآن الكريم في هذا العصر حتى لا يذهب في تفسير كلامه إلى غير ما أراده سبحانه وتعالى فوصف الطير بالطيران في جو السماء مسخرات بأمره وأن بسط أجنحتها وقبضها بأمره تعالى .
فزادها توضيحا بقوله: { ولا طائر يطير بجناحيه } وقد علم الله عز وجل في علمه الأزلي أنه سيأتي أناس يفسرون كلامه على غير مراده فوصف الطائر بالطيران بجناحيه إزالة للالتباس وتوضيحاً للمراد .
فبأي منطق صرف الكاتب معنى كلمة ( الطير ) إلى دماغ الإنسان أو الفرقة الفنية في جيش سليمان .. ! ؟
وكيف تخلى عن هذا الوضوح والبيان وألقاه وراءه ظهريا وتشبث بـ ( محيط المحيط ، وفتح البيان ) فاتق الله يا هذا في كتاب الله ولا تبغ الفتنة بتأويلك الباطل .
يقول المفسر الكبير ( أبو حيان الأندلسي ) في تفسيره ( البحر المحيط ) المشهود له بسعة الباع في هذا المجال وهذا غير ( محيط المحيط ) المغمور في الأوساط العلمية والمجهول لدى المفسرين قاطبة ومثله صاحب ( فتح البيان ) .
قال ( أبو حيان ) رحمه الله تعالى : (( إنما ذكر الطائر لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض، إذ الأرض على عظمها جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها، والهواء جسم لطيف لا يمكن – عادة – تصرف الأجرام الكثيفة إلا بباهر القدرة الإلهية ولذلك قال الله تعالى: { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله }، ( ويطير بجناحيه ) تأكيد لقوله تعالى (ولا طائر) لأنه لا يطير إلا بجناحيه، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله ( ولا طائر ) لو اقتصر عليه .
ألا ترى إلى استعارة ( الطائر ) في قوله تعالى: { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا }، فاستعار الطائر هنا للعمل أي عمل كل إنسان، ومنه قولهم: طار لفلان كذا في القسمة أي سهمه، وطائر السعد والنحس )) .
أقول: ولنقف عند قول أبي حيان: (( وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله ( ولا طائر ) لو اقتصر عليه. قال ذلك ليعلم أن كلمة ( طائر ) قد ترد وتصرف إلى المجاز لا الحقيقة في بعض آي القرآن إذا تعذر حملها على الحقيقة كما هي في هذه الآية { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } .
ولنتابع تفسير ( أبو حيان ) حيث يقول: (( وجاء بوصف ( الطير ) لأنه مشعر بالديمومة والغلبة لأن أكثر أحوال الطائر كونه ( يطير ) وقلّ ما يسكن حتى إن المحبوس منها يكثر ولوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره )) .
أكتفي بهذه الأدلة على فساد ما ذهب إليه الكاتب من تفسيره ( لكلمة الطير ) بدماغ الإنسان وأظنها مقنعة لكل ذي عقل سليم ( يا سليم .. ! ) بصير باللغة العربية عالم بكتاب الله .
ثم أقول للكاتب مشفقاً عليه ناصحاً له:
لقد نعت الله اليهود بصفات شتى على ســـبيل الذم، من أهمها: أنهم قوم بُهت يحرفون الكلم عــن
مواضعه، قال تعالى: { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه } المائدة: 13، وقال جل ثناؤه: { ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه } المائدة: 41.
وبتدبر هاتين الآيتين نجد أن هناك ثلاثة أنواع من التحريف على الأقل وقعت في كتب أهل الكتاب وكلها قد أشار إليها القرآن .
1.التحريف بالتغيير والإضافة .
2.التحريف بالكتمان .
3.تحريف المعنى مع بقاء اللفظ على ما هو عليه ( وهذا هو بيت القصيد ) .
ولنوضح الأخير منها مع ضرب الأمثلة:
من أمثلته أن الله تعالى حرم الربا في جميع كتبه المنزلة ( التوراة، والإنجيل، والقرآن . ) والتوراة التي بين أيديهم اليوم – رغم ما حدث فيها من تحريفات شنيعة – ما تزال تحمل نصاً بتحريم الربا ونصاً بوجوب الأمانة في التعامل مع الناس، ومع ذلك فان اليهود ـ كما هو معلوم ـ يتعاملون بالربا على النطاق الدولي والعالمي، ويسلبون عن طريقه أ موال الناس بغير حق .
وإلى ذلك يشير القرآن الكريم: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين عذاباً أليما } النساء: 160 – 161.
فكيف حرفوا النص الموجود في كتابهم ليبيحوا لأنفسهم التعامل في الربا ؟
قالوا: إن الربا المحرم الذي أشار إليه النص إنما هو في التعامل بين اليهود بعضهم مع بعض أما إن كان التعامل مع غير اليهود فلا بأس بأن نتعامل معه بالربا، ولا حرج عليك أن تأكل ماله، قال تعالى مبيناً هذه الحقيقة: { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } آل عمران: 75.
والأميون في نظر اليهود هم الذين ليسوا يهوداً، فزعموا أن الله أباح لهم ذلك وهم يعلمون أن هذا كذب على الله فانه تعالى حرم عليهم الربا عموماً، سواء كان مع اليهود أو مع غيرهم كما حرم عليهم سلب أموال الناس جميعاً أميين وغير أميين . وقس على ذلك بقية المعاصي من سرقة وزنى وكذب .. الخ .
أقول يا صاحب المقال بأي حق وبأي منطق تحرف كلام الله عز وجل، فاتق الله يا أستاذ سليم في كلام الله وفي عباد الله ولا تفتنهم، والله اسأل أن يهديك إلى جادة الصواب وطريق الإيمان .
والحمد لله رب العالمين .
خاشع ابن شيخ إبراهيم حقي