لم أكن أدرك أني سأكون ضعيفاً أمامك أيها الخيط الصغير ، أحياناً أظنك قوياً وأظن أن لبس السترة الجديدة يعني خيطاً متيناً ، فتتملكني الثقة وأشد كتفي كيفما أشاء فأسمع صوت تمزقك تسخر مني وتحرجني.ذاكرة خيط
أحياناً أظنك ضعيفاً والزر المهزوز أوشك على السقوط ، لكنه يبقى سنوات طويلة مهزوزاً لا يسقط ولا تنقطع، أنت تعاندني ، تتحدى ظنوني وتهز ثقتي بالأشياء.
كم تجمعنا أيها الخيط وكم تفرقنا وكم تسترنا وكم تعرينا
إن الخيوط حيلنا نشدها دون أن نعرف ، أسرارنا نعقدها ونخفيها .
في جيبي خيط صغير ، خيط لا فائدة منه ولا فائدة فيه
ماذا أفعل بك أيها الخيط وأنا أشتم رائحة الاسفنج المتعفن في المدينة الجامعية أيام تسليم الطلاب لأمتعة غرفهم، هل أهديك حبيبتي ، هل ستفهم كل الأسرار التي بحتها لي ، أم أن النساء لا تفهم لغة الخيوط اللاذهبية.
أحسست أن جيبي يحكني ، ولا أعرف جيباً غير جيبي يحك على الأقل لم أسمع أحداً تكلم عن ذلك.
كنت كلما حكني جيبي ، وضعت يدي فيه أبحث عن النقود التي فيه ثم أصرفها ظناً مني أن النقود إذا بقيت في الجيب تحك صاحبها ، عاد الحك قوياً ، مشيت شوارعاً كثيرة وقد أغمدت كلتا يديّ في جيبي، وما إن أخرجتهما حتى عاد جيبي يحكني ، مددت يدي وقلبت جيبي حتى أخرجته لم يكن فيه أي شيء ، غير خيط هارب من مخيطه
سحبته فانسحب ، رفعته أمام عيني ثم فتلته ، ما أكثر ما تحك الخيوط هذه الأيام.
أعدته لجيبي وعدت لغرفتي
في الغرفة سحبت إبرة وهممت بخياطة جيبي بذلك الخيط الهارب
بللته بلعابي مرة ثم أخرى ، ثم رفعت الإبرة مدققاً فيها ملياً ثم مررت الخيط بدقة ، سمعت صوتاً يقول : أأخ
نظرت في أصبعي ظناً أن الإبرة طالته
ثم أعدت الكرة فعاد الصوت : أأخ.
نظرت في الإبرة هذه المرة ، أول مرة أعرف أن الإبرة تتألم من وخز الخيوط.
صاح الخيط : آخ من هذا الزمان
فرفعته أمام عيني وتأملته وقد أحنى رأسه ، لا أعرف أكان لعابي أحناه أم هو الزمان.
ما بك أيها الخيط تشكي زمانك.
فأجابني وقد تمايل طرباً : وما نفع أن تخيط جيبك ولست تملك نقوداً تضعها فيه.
حاولت كثيراً أن أمنحك دفء النقود لكني لم أسبب لك إلا الحكة ، وهل يدفئ خيط ضعيف مثلي يداً كبيرة مثل يدك.
تمددت على ظهري ورفعته أعلى عيني: لا عليك أيها الخيط فأنت قد أصبحت ونيسي.
فأجهش بالبكاء ، قال :كم تمنيت لو استطعت ربط علاقتك بها ، لقد غادرتك ولا أظنها تعود
أطرقت صامتاً وقد حرك الخيط مواجعي
كيف لي أن أصارحها وأنا لا أملك شيئاً، كيف لي أن أعدها وأنا لا أملك غير هذا الخيط
وبقيت أتأمل الخيط الدقيق طيلة ليلتي.
في اليوم الثاني بحثت عنها ، حين رأيتها ، طلبت محادثتها، كانت تنظر بعيداً لا تتأمل مني شيئاً، ماذا أقول لها وأنا لا أملك حرفاً واحداً أكلمها به ، ماذا ينفع الحب في هذه اللحظات ، شعرت أنني سأنسحب مرة أخرى، حكني جيبي
فقلت : آآه ، نظرت فيّ مستغربة.
قلت : انتظري
مددت يدي في جيبي ثم بحثت عنه : هذا هو.
أخرجته ونشرته في الهواء وقلت لها هذا هو.
نظرت باستغراب ودهشة.
جذبته لفمي ثم قضمته حتى قطعته نصفين ، فصاح : آآآخ ، فديتك.
فأمسكت يدها ثم ربطت أصبعها بطرف الخيط كخاتم دقيق جميل.
وأعطيتها الجزء الثاني ، نظرت فيّ مستغربة ، أومأت لها برأسي
نظرت فيه ثم فيّ ثم أمسكته وربطته على أصبعي بخجل وقد ازدان خدها بحمرة جميلة، آآ ه ما أجمل النساء حين تزين الخيوط أصابعهن.
فقلت في جيبي : الحياة أحياناً لا تحتاج لأكثر من خيط.
طارق شفيق حقي