في مثل هذه الأيام (بالضبط يوم 8 غشت 2008)، توفي الشاعر الفلسطيني العربي الكبير: محمود درويش (ولد بتاريخ: 1941)، الذي يعد من مؤسسي ومطوري الحداثة الشعرية العربية .
في ذكرى وفاته الثانية، يستحضر محبو شعره، حرصه على تطوير أدواته الفنية الجمالية، بشكل مستمر، على امتداد عمره الشعري (خمسة عقود تقريبا) . فالذي يقارن ديوانه الشعري الأول: "عصافير بلا أجنحة" (صدر سنة 1960) بآخر ديوان له: "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" (صدر بعد وفاة الشاعر)، يلاحظ كيف أن الشاعر مهووس بالتجديد وبتجاوز نفسه، وخشية التكرار، من ديوان إلى آخر .
معروف عن درويش أيضا جماهيريته الكبيرة، على عكس شعراء الحداثة الآخرين . فمعلوم أن المسارح والملاعب والساحات تمتلئ عن آخرها، عندما كان درويش يحيي أمسيات شعرية في مختلف المدن والعواصم العربية وحتى الأجنبية .لأنه استطاع اكتشاف "الخلطة الشعرية" التي تحافظ، في الآن نفسه، على شعرية القصيدة وفنيتها، وعلى الاستجابة لأفق انتظار المتلقي الذي كان يتجاوب مع الشعر الرفيع الذي يزيده ألقا، طريقة الأداء التي كان الشاعر الراحل يبرع فيها ويأخذ الجمهور معه إلى عوالم من الجمال والرونق... والشعر الرائق الهادف .
ومما زاد من شعبية محمود درويش، تغني الفنان اللبناني المبدع، مارسيل خليفة بالعديد من قصائده (أحن إلى خبز أمي ـ ريتا والبندقية ـ جواز السفر ـ تصبحون على وطن ـ بيروت ـ يطير الحمام ...")
أصدر محمود درويش مجموعة مهمة من الدواوين الشعرية، منها :
ــ عاشق من فلسطين .
ــ يوميات جرح فلسطيني .
ــ مديح الظل العالي .
ــ العصافير تموت في الجليل .
ــ ذاكرة للنسيان .
ــ كزهر اللوز أو أبعد .
ــ لماذا تركت الحصان وحيدا؟
ــ أثر الفراشة ...
وقد حصل على عدة جوائز منها :
ــ جائزة لوتس .
ــ جائزة ابن سينا .
ــ درة الثورة الفلسطينية .
ــ لوحة أوروبا للشعر ...
وإن كان يعتبر أن أغلى جائزة، هي تجاوب عشاق شعره معه قراءة واستماعا .
ترجمت أشعار درويش إلى العشرات من لغات العالم، ولقيت أيضا تجاوبا واسعا، وتم الاحتفاء بدرويش في العديد من العواصم العالمية ، اعتبارا لعالميته وإعلائه، في شعره، للقيم الإنسانية النبيلة، قيم الخير والمحبة والسلم والعدل والجمال...
احتفى النقاد بشعر محمود درويش وصدرت الكثير من الكتب والدراسات والأطاريح الأكاديمية والمقالات النقدية . ومعظمها يشيد بتجربة الشاعر وينوه بموهبته وإبداعه، حتى إن الشاعر صرخ ذات مرة: "أنقدونا من هذا الحب القاسي" راغبا في ألا يركز النقاد، فقط على جوانب الإبداع الإيجابية في شعره وعلى ألا تكون القضية الفلسطينية، كمضمون في شعره، هي وحدها المأخوذة بعين الاعتبار ، وإنما أيضا شعرية القصائد وخصوصيتها الفنية والجمالية .
وعلى ذكر القضية الفلسطينية، فقد كان درويش من بين الشعراء الفلسطينيين الذين تغنوا بها وخدموها خدمة جليلة . وبسبب ذلك اعتقل الشاعر عدة مرات في الأرض المحتلة قبل مغادرته لها . ومن المعلوم أن الكثير من قصائد الشاعر كانت تستثير حفيظة الكيان الصهيوني وتفقده صوابه ( و يستحضر القراء الضجة التي أثارتها قصيدة درويش: "عابرون في كلام عابر"، في صفوف الصهاينة) .
رحم الله محمود درويش، وعزاء محبي شعره على طول الوطن العربي وعرضه، آثاره الشعرية والنثرية . فإبداع الشاعر كفيل بتخليده، وإبقائه حيا في قلوب عشاق الكلمة الجميلة الهادفة .
هنا قصيدة من ديوان محمود درويش: "أثر الفراشة" وعنوانها : "البنت الصرخة" :
البنتُ/ الصرخة
ـــــــــــ
على شاطئ البحر بنتٌ. وللبنت أَهلٌ
وللأهل بيتٌ. وللبيت نافذتان وبابْ...
وفي البحر بارجةٌ تتسلَّى
بصيدِ المُشاة على شاطئ البحر:
أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ
يسقطون على الرمل، والبنتُ تنجو قليلاً
لأن يداً من ضباب
يداً ما إلهيةً أسعفتها، فنادت: أَبي
يا أَبي! قُم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!
لم يُجِبْها أبوها المُسجَّى على ظلهِ
في مهب الغياب
دمٌ في النخيل، دمٌ في السحاب
يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعد من
شاطئ البحر. تصرخ في ليل برّية،
لا صدى للصدى.
فتصير هي الصرخةَ الأبديةَ في خبرٍ
عاجلٍ، لم يعد خبراً عاجلاً
عندما
عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وباب!
ـــــــــــــــــ