دراسة لرواية تسعة أيام في حوث
طارق شفيق حقي
-----------------
رواية تسعة أيام في حوث – أيمن ناصر
منشورات اتحاد كتاب العرب – دمشق - 2008
غلاف الرواية
وهي الرواية الأولى للكاتب
الروائي أيمن ناصر
-الرواية تقع في مائتين وسبع وسبعين صفحة من القطع الكبير ، علق عليها الأديب وليد معماري فقال فيما قال :" إنها فتح جديد بعد زمن من الركود ... ولا أبالغ."
- يستهل الكاتب روايته بإهداء إلى أمه وأبيه وزوجته وتأخذ الأم مكانة مميزة بينهم، والإهداء بشكل عام يعتبر شكلاً من أشكال الاستهلال التزييني.
- رواية اللحاف تتكون من فصول سبعة أخذ كل يوم مقام الفصل الواحد رغم أنها تقفز في الرواية من اليوم الثالث إلى اليوم السادس دون أن نعرف السبب ، فتصبح الرواية حقيقة سبعة أيام في حوث لا تسعة ، وإن كان الكاتب يقصد أيام البطل الأستاذ سيد الذي عاش ثماني أيام في حوث ،وأكمل شريك غرفته الأستاذ حمزة مراسم اليوم التاسع بحرق لحافه الذي يحمل وجه الميدوزا رمز الرواية ولغزها الذي تكشف يوماً بعد يوم، بحضور زوجة البطل وابنه ومدير مدرسته ، لكني أجد أنها بحاجة لتعديل إما في عنوان الرواية لتغدو سبعة أيام في حوث أو يقسمها إلى فصول لا إلى أيام .
الرواي هو الأستاذ حمزة، والروائي هو الأستاذ أيمن ناصر من الرقة - سوريا، فنان تشكيلي ، وهذا كل ما أعرفه عنه .
المكان : ناحية حوث في ريف صنعاء في جمهورية اليمن السعيد.
الرواية تحكي قصة أستاذ سوداني قدم لمعهد التدريس في حوث والذي ضم فريقاً من المعلمين ينتمون لأكثر من قطر عربي.
نذكر أهم الشخصيات : أستاذ الفنون حمزة الحمداني راوي الرواية ،مدرس مادة الإنكليزي وهو بطل القصة أو الشخصية المحورية الأستاذ السوداني : سيد عثمان الغانم ، الأستاذ أحمد الحوثي مدير المدرسة ، مدرس التاريخ زياد الديري ، الشيخ عبدو أو عبد السميع مدرس التربية الدينية،مدرس الفقه محمد النبطي ، وممدوح أبو طلال مدرس الفلسفة ، وعائشة زوجة الأستاذ سيد .
- يبدأ الكاتب بنقل التحليل النفسي الدقيق، ورسم شخوص كل المعلمين في المعهد قبيل قدوم أستاذ مادة الانكليزي الجديد ، وذلك أُثناء جلسة تسبق قدوم المدرس الجديد ، وبعض المعلمين يرفضون إشراك المدرس الجديد السكن معهم في غرفهم بحجج سخيفة، مقززة أحياناً تدلّ على شخصيات انتهازية وصولية فارغة الروح، والراوي الأستاذ حمزة يكشف عيوبهم وسوء خُلقهم.
الرواية تحكي قصة أستاذ سوداني يدعى سيد مصاب بورم خبيث في دماغه، وهذا الأستاذ يحمل معه للغرفة التي يشاطر فيها الأستاذ حمزة الراوي، جسده الضخم كما يحمل له غرابته ، فهو معتاد أن يحزم لحافه بعد الاستيقاظ تحضراً للموت ، وفي اليوم الذي ينسى حزم لحافه ينهي الموت الهدنة التي وقعها معه كما يقول البطل ويغتاله في حادث مركب ، فيتوهم الجميع أنه مات من طلقة نارية طائشة ، لكن الطبيب في صنعاء يقر أنه مات بقدره المحتوم في رأسه وهو الورم الخبيث .
والأمر الغريب الثاني للبطل هي صورة الميدوزا التي تفترش لحافه ، وهي شكل لامرأة بشعة لها ثعابين في رأسها عوضاً عن الشعر.
والميدوزا أسطورة يونانية كانت فتاة جميلة حولتها الآلهة لغيرتها منها إلى هذا الشكل المخيف و كل من ينظر إليها يتحول إلى حجر.
فحين كان سيد يحزم الميدوزا لم يكن يصله الموت ، وحين نسي حزمها وافترشت فراشه بصورتها البشعة قُتل في ذلك الصباح.
هذه الرموز تفهم في أكثر من اتجاه، خاصة لو علمنا أن بطل الرواية درس في إنكلترا في أحداث تشبه أحداث رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال.
ثم تقع في حبه فتاة أيرلندية تحسن رمي شباكها وتحتال عليه الحيل حتى يقع في حبها رغم حذره الشديد ،ثم تجعله مدمناً الخمر والمخدرات ، حتى يكتشف مؤامرتها ابن عمه ويقتلها في باحة الجامعة فيسجن ثم يقتل في السجن ، وبعد سنوات طويلة من القهر يعود البطل لعائلته فيجد أن أمه ماتت ، وبعد فترة يموت والده ، ويعيش البطل حياة مريرة ، فهل كانت الميدوزا هي المرض الخبيث الذي عشش في دماغه ، أم هل كانت هي الفتاة الأيرلندية - وقد أصبحت رمزاً للغرب - والتي استغلت الشاب السوداني لقوته وأذلته بشتى الوسائل ليشبع حاجتها.
كل تلك المفاتيح مباحة في رمز كالذي صنعه الكاتب وافترشه البطل صدر لحافه.
ينقل إلينا الراوي صوراً من حوث منها شكل البيوت حيث صممت بيوتهم لتذكرهم بالموت، مدخل واسع يذكر بولادة الإنسان ثم مجلس كبير يأكلون فيه يشابه صراع الحياة ويخرجون من درج ضيق مظلم صغير يذكرهم بالممات"
وفي العزاء يوزعون الحلوى فهي لديهم طقوس مختلفة كما يذكر الراوي، ومدينة حوث القريبة من مدينة صعدة والعاصمة صنعاء تعج بالمهربين ، ولا يكاد رجل هناك لا يحمل بندقية ،وكثيراً ما تتراشق قوات الأمن والجمارك مع المهربين الطلقات النارية التي تنتشر فجأة فوق الرؤوس في كل مكان ، والتي أصابت إحداها الأستاذ سيد في نهاية الرواية .
ويذكر الرواي طقوسهم في الدخول للمسجد فهم يخلعون سراويلهم الداخلية لأنهم مصابين بالسيلان نتيجة القات الذي يمضغون، ثم يعبرون ممراً مائياً لتنظيف ما علق بهم من أتربة وروث الحيوانات،وفي المسجد تشاهد البنادق معلقة على كل جدار أو واقفة تصلي بجانبهم، وكثيراً ما وقعت ساجدة وقد أفرغت رشقات منها إذ كانت ملقمة فترى المسجد يزبد ويموج، ويحسب الجميع أن أحد ما يأخذ ثأره في المسجد فترى الجميع انبرى يلقم سلاحه أو ربما يطلق بشكل عشوائي .
- نشير إشارة للأساطير التي يخترعها حكماء المناطق الريفية في معرض حديث الراوي عن ريف الرقة ، كحكماء قرية مريبط حيث ينسجون أساطير الوحوش والجان بذكاء كي يبعدون أطفال وشبان القرية عن مواطن الخطر كالسباحة في الأنهر حين يكون غزيراً لأن حيواناً مخيفاً يدعى الهامة يأكل الأولاد الذين يسبحون في النهر، أو لعدم دخول المغارات لأن فيها جنية تقتل كل من يدخل للمغارة.
وهذه الأساطير وجدت وقعها أجمل ،وتوظيفها كان أبلغ من أسطورة الميدوزا ، لأن لكل مجتمع أساطيره التي تؤثر بذاكرته وفي لاوعيه الجمعي ، ورغم أننا ندعي أحياناً بمثالية أن الأساطير والفنون هي لكل الحضارات – وقد تكون لوثة لما ننفك منها - لكن هذا الإدعاء لا يجد وقعاً في النفوس ، وشخصياً أنسى تفاصيل الأساطير الأجنبية وأعصر ذهني لتذكر تفاصيلها رغم أني قرأتها عشرات المرات، فكل أسطورة مرهونة بمجتمعها كما أسطورة المجتمع الريفي الهامة التي تأكل الأطفال أو أساطير الجان والعفاريت والتي بمجرد ذكرها تتحضر النفوس لها هيبة ووجلاً, حتى ولو علمت أنها مخترعة ملفقة مكذوبة.
تليمحات :
الحوار أخذ شكلاً شعرياً من أول اللقاء مع الأستاذ السوداني المتعب القادم من السفر وكانت جملاً شعرية غير مناسبة لفضاء المشهد.
" عم سيد ، تراك غرزت أصابعك المالحة في قلبي، نهايات الشوك في كلماتك آلمتني وأشعلت حطب روحي..." ص 9
- صوّر الراوي مشهد العراك الذي نشأ بين المعلمين وكيف أن المعلم زياد مدرس التاريخ وهو من دير الزور ،والذي استطاع الكاتب بنجاح تصوير شخصيته وحواره المميز، وكيف انبرى لضرب الشيخ عبدو ومسح به الأرض ثم ضرب كل من تدخل لحمايته ،بينما نقرأ عبارات للراوي في هذا المشهد ،أن أحد المعلمين كان يصفق لهذا المشهد وآخر يعلق ساخراً بينما المدير يتفرج دون حراك ثم يقول بكل هدوء: ماذا تركتم للأولاد يا زملاء... اجلسوا ودعونا نتفاهم بالتي هي أحسن.." وكأن شيئاً لم يكن ،بذلك كانت صياغة المشهد ضعيفة نوعاً ما وزاد الطين بلة الجمل الشعرية غير المناسبة التي تحشر في المشهد كقوله : " ابتسم وارتجت شواطئ عينيه من الفرح " ص 20
ويتابع الأستاذ حمزة حواره بكل هدوء مع المدير ثم يأخذ البعض الشيخ عبدو للمستوصف وقد انشق حاجبه وغطى الدم وجهه.
المشهد الأول كان استقبال الأستاذ السوداني
المشهد الثاني يقفز لمشكلة استقباله
الثالث يعود ليتابع المشهد الأول في الاستقبال.
- في المشهد الخامس يفوّت الكاتب تعريف الأستاذ نواف بالأستاذ سيد ولا نجد لذلك تفسيراً أو قصدية.
- ردد المدرس السوداني جملة أوردها الأستاذ حمزة ذاته" ما كنت الوحيد الذي يدرك أن غرفتي واسعة كالماء لا يضيرها كثرة الغيم" ص 21
- ثم كررها السوداني ص 32
- وهذا إن كان الكاتب قد أراد منه أن يدل على نباهة وغرابة السوداني في قراءة الأفكار، لا يعد وفق ما أرى ناجحاً في تكرار جملة كاملة.
- بل إني أرى عبر الحوار المتكرر بين الأستاذ حمزة والأستاذ سيد، تشابه صياغة الحوار كثيراً وكأن الحوار يخرج من شخصية واحدة، أو كأنه الرجل يحادث نفسه ، فلم ينجح الكاتب في بناء شخصيتين مستقلتين عضوياً كما نجح في صياغة شخصية الأستاذ زياد الديري في تصرفاته المنفردة وحواره المميز ، وغدا الحوار الفلسفي الفكري متشابهاً جداً حتى تزينه بالجمل الشعرية كان متشابهاً لكلتا الشخصيتين.
- الاستهلال : عادة يأخذ الفصل الأول شكل الاستهلال في الرواية .
- في رواية اللحاف بدأ حمزة سرد ذكرياته العتيقة عن مدينة الرشيد للأستاذ سيد في الفصل الأول أي اليوم الأول كما قسّم الكاتب الرواية.
- وأرى أن الفصل الأول ، أو اليوم الأول كان يجب أن ينتهي كسحابة استهلالية للرواية عند التعارف وما قبل سرد الذكريات التي يصبح البطل الوحيد فيها الأستاذ حمزة.
- ذكر الكاتب قصة حب جرت بينه وبين طالبة له أرادت تعلّم الرسم واسمها حنين ، لكن ذكر القصة وتفاصيلها لم يكن لها توظيف في الرواية أو في بناء شخصية الأستاذ حمزة، وإن أخذت مساحة أطول من حبه لطالبة تصغره بأربع سنوات واسمها الخيزران والتي تزوجت من طبيب.
- يكتشف الأستاذ حمزة نفسه مرة أخرى من خلال الحوار مع الأستاذ السوداني الذي يكبره بعشرين سنة تقريباً والذي أصبح عمره ثلاثة وخمسين مثل عمر والده حين مات ،وهو ذات العمر الذي عاد فيه الأستاذ حمزة إلى اليمن وأحرق لحاف الأستاذ سيد السوداني.
ويصبح حمزة أمام سيد رجل الكلمات ،ويتحول الحوار معه لرهان ، ويصبح ما ليس له معنى ذا معنى عميق ومشكل, ويصبح للموت خاصة معنى جديداً يفسره سيد بعمق فلسفي خاص ،ويعقد معه هدنة وينتظره في كل يوم وهو المصاب بورم خبيث في رأسه.
- نجد في الحوار أقوال واضحة الحشر كقول للنفري وآخر لهمنغوي وصاحب دكنشوت وغسان كنفاني وغيرهم لا أجدها موظفة.
- يشرح الكاتب الكلمات العامية اليمنية مثل ( أين جه – الشوفة – أشتي ) لكنه لا يشرح كلمات عامية كثيرة وردت من بيئة الرقة مثل كلمة نتلاطع ص 248، فالعمل الأدبي ليس موجهاً لبيئة الكاتب فحسب .
- جمل مثقلة : لحظة الموت يقول له " أستاذ سيد الصقور لا يهمها أين تموت... والغزلان هي التي تحب أن تموت عند أهلها ألا تذكر هذا الكلام للراحل غسان كنفاني قرأناه سوية في نهاية قصة الصقر.." ص 251
- وقبلها يقول له سيد " السؤال الأهم هو الذي سأله طاغور شاعر الهند العظيم " أي هدية تقدمها إلى الموت يوم يأتي ليقرع بابك " ص 240
- يستشعر الكاتب في الرواية متى أراد ,حتى في لحظة الموت لحظة الوضوح والظهور والتجلي، فكانت الكلمات الشعرية تفسد عظمة المشهد الجنائزي المهيب ، يقول كذلك:" هيا يا سيد ما جرى قد جرى .... يكفينا اليوم ما اقتلعنا من حشيش الروح ، فقد منحك الموت برد البحر فامنحني غياب النهار" ص 253
- بينما يترك إشارات وأسئلة عميقة كانت لائقة وموظفة أكثر منها للتي أشرنا كقوله حين دخل الشرطي وبيده دفتر الضبط وجلده سميك ولونه أسود :" لماذا معظم الأشياء البيضاء غلافها أسود"
- هذا السؤال الوجودي العميق أبلغ من كل تلك الجمل الشعرية المجانية التي لا تخدم المشاهد والسياق الحواري.
النقطة المشكلة في الرواية:
وهي بعض جمل استفزازية من البطل حمزة عن مدينة الرقة " فيقول في الصفحة التاسعة والثمانين " كنت أقرأ عن تاريخ الرقة في العصور الغابرة وما كنت أصدق أن الرشيد بكل عظمته وجبروته كان يحكم مدينة تعج بالقوادين والعاهرات....."
ثم " مدينة ما برحنا غرباء فيها بالرغم من احتراقنا واكتواء ذاكرتنا بنار صمتها وصهيل ثارتها ، وما برحنا غرباء بنظر القلة من أدعياء أهلها. كدت أقول السفهاء.. وتشهد على ذلك المجالس المنتخبة بأنواعها . فمن الذي يحق له أن يترشح غير الذي تزكيه السلطة المحلية وتحميه قوانين العشيرة ؟ حتى لو كان إمعة جاهلاً وأميّاً .. يكفيه أن وراءه رجالاً يسدون عين الشمس بهراوتهم وعباءاتهم .. والله أقول ذلك لا لعقوق في نفسي لهذه المدينة ، ولا رغبة في منصب أو جاه .. ولكنه همس رمال عطشى لصبّار يختبئ الماء وراء أشواكه".
وبختام الراوي لجملته يكون قد تخلص أحسن تخلص وجب المغيبة عن نفسه ، فهو يعري المشهد كاملاً رغم أنني أبقي جملته التي قالها في البداية جملة استفزازية لكنها لا تستحق أن يثار لها ما يثار خاصة لو درسنا البنية النفسية لشخصية حمزة.
حمزة هو الإنسان الطفل الذي يعشق وطنه ويكرهه في ذات الوقت أشد الكره
كما يحب أمه التي تتفانى في إرضاء والده الرجل السياسي الخارج من المعتقل، ويكره والده الغاضب دائماً النزق العصبي الذي يرمي أمه بالصحن أو يقلب مائدة الطعام فوق رأسها إذا نسيت الملح أو قصرت في أمر تافه.
فحمل حمزة في قلبه حبّ أمه وحبّ الوطن ،وكره والده وكره الوطن – فيما يظن كطفل- الذي دمّر حياتهم باعتقال والده لمدة عشر سنوات ودمر شخصية والده فعاد متعباً نزقاً وقد انهارت تفاصيله من الداخل قبل أن يتأثر بتعذيب المعتقل وبالوحدة وطقوس الغياب المعتمة .
هذه الخلفية كان علينا أن نراقبها من خلال التاريخ النمائي لشخصية حمزة لنعرف سرّ الشذوذ النفسي في كره مسقط رأسه الرقة عاصمة الرشيد حيث أخذ فيها كل وصولي جبان مكان كل شريف مثالي كما يقول
وهذا الشريف هو بالدرجة الأولى والده ، وربما لم يكن ليحمل هذه الفاجعة لو أن والده ترك السياسة بطريقة مختلفة، لكن هذه التغيرات الكبيرة في المجتمع طالت طفلاً صغيراً فحطمت ذاته وهو صغير ، فكبر الألم معه وتضخم ومن أجمل وأكبر وأحن من الوطن حتى يحمله هذا الألم ، وهو الذي يعشقه وفق ما تبين من كلامه وقد زاد في محنته ألم الغربة القاسية ، فكابر العويل والبكاء وكان الأستاذ السوداني المعادل الذي أشبع حاجته النفسية في أن يرى إنساناً معذباً أكثر منه، فيدهش لكل هذا الصبر والأريحية العجيبة في قبول الموت وتقبل المرض وبناء فلسفة ذاتية أحرجت الأستاذ حمزة رغم محاولته مجاراتها ، فليس للكلام مكان حين ترضى النفوس بالموت والألم والعذاب.
وهو في مقام والده وكم تمنى أن يحاوره ويتعلم منه ، وهو الجانب الغائب في والده حيث كان صبوراً هادئاً ودوداً ، وفيه جانب من الوطن وقد افترش حمزة عراء الغربة .
وإن كان حمزة يصب جام غضبه على الوطن فهو يعني من امتلك مفاتيح الوطن وخرب الوطن واغتاله فتراه يقول بجملة صريحة :" يا ولد أنت تتحدث في موضوع أكبر منك ، ليس الوطن من يغتال ، الوطن لا يفعل ذلك .
- وما الفرق يا صديقي ؟ بالتأكيد لا فرق . الذين يفعلونها هم من يمتلكون مفاتيح الوطن . ذاكرة الوطن... هم يغتالونه بطريقتهم دون أن تراق لهم قطرة خجل واحدة ". ص44
فيرد عليه الأستاذ سيد وكأنه والده الكبير الذي دخل إلى خبايا صدر ابنه ليعرفه بنفسه :" الوطن يا صاح لا يحتاج لتهمة يلصقها بجلودنا كي يبرر فعلته. أظنك تعاني هزيمة ما أو خيبة كبيرة تلصقها على ظهر الوطن . ...."
- ولمحة أخرى تنفلت من حمزة عن الواقع السيئ الذي قض مضجعه حين يحاور صديقه المرحوم ياسين فيقول بسخرية
- " أطمئنك أبا مؤمن الأمور عندنا ما زالت كعهدك بها ليست بخير ... فالخير كله في قلبك أنت وقلب أم مؤمن زوجك.." ص 111
فالكاتب أحسن اختراع الدواء لنفسه ، وتداوى بالإبداع واختراع الشخصيات التي تكمل ذاته من الداخل وتشبع حاجته، وفيما أرى أن جملته الاستفزازية التي وردت عن الرقة يبررها البناء النفسي للشخصية ، كما يبررها تخلصه الجيد بلسان البطل ذاته، رغم ذلك فهي تبقى جملة استفزازية لا أقل ولا أكثر.
وقفة عند الوصف:
هناك جمل وصفية مجانية وردت في تضاعيف الرواية مثل ( مازال يترقب ردّ فعلي كأصيص خزفي فاجأته الريح وهو على شرفة من فرح)
" شيء ما كان يرفّ بصدري ، ليس خوفاً ولا وجعاً ، شيء يشبه الركض على أطراف النهر في صباح يوم ربيعي مشرق فيتناثر الرذاذ هنا وهنا شعرت بجسدي ينسل من رؤوس أناملي" ص 20
- " فهسيس رمل حارق حاقد يصطلي تحت جلودهم ومواء قطط مريضة ينبعث تحت معاطفهم " ص 22
- " هوذا شموخ الصفصاف وكبرياؤه لا تراه إلا تاجاً يسور جبين النهر " ص 26
فهو وصف غير موظف وغير مترابط مع السياق.
هذه الشعرية الوجدانية تكون أكثر ما تكون في منلوج داخلي أو مع حبيب أو صديق طال الحوار معه فمازج وجدان المتكلم ويفرضها سياق حواري وموقف حقيقي يستدعي الشعرية الموظفة، وقد وقر في أذهان البعض هذا الأمر نتيجة قراءة الروايات الأجنبية البكر ، فالرواية والمسرحية بداية كانتا تكتبان شعراً بل وحتى الملاحم والأساطير ، وحتى من كتب المسرحية شعراً مثل شكسبير عرف بتكلفه وصوره الشعرية المجانية، حتى تطورت الصورة لديه وغدت موقفاً ، فكانت الصورة الشعرية لدى شكبير تأتي حين يأتي الموقف وكانت أنضج منها في بداياته.
التكلف في الشرح:
- تمرّ بنا جمل زائدة فيها شرح زائد أضر بالحوار عموماً من مثل : " أوكيه مستر سيد ألا تحتاج " ريلكس" مناسب في يومك الأول ... لا بدّ من مجاراتك يا أستاذ الانجليزية الأوحد في حوث ..." ص 120
- كم هو شعور متشائم أن أشعر أنّ الكاتب لا يقدّر المتلقي ، ولا يترك له مساحة التفاعل مع نصه وفهم تلميحاته ، لكنه قتل كل هذه التلميحات وأخذ كل مكان للمتلقي في الرواية ، في هذه الشروحات كقول في الحوار السابق " لا بدّ من مجاراتك يا أستاذ الانجليزية الأوحد في حوث.."
- فقد ظنّ أنّ ترطينه بالإنجليزية لن يفهم من القارئ ، وحتى لو أنه لم يفهم لكنه لن يصل ثقيلاً كما وصل بالشرح الزائد.
- ألا يدرك القارئ ولو بلاوعيه تلميحات الكاتب ، ومثل ذلك حين أخذ القوم بالحديث باللهجة البدوية ، فقتل الكاتب كل تلميحة قد يحاول القارئ فهمها بحشو زائد لا مكانة له في الحوار، ص 128
- وكذلك حين يتعرف الأستاذ حمزة على الآنسة غزالة برفقة والدها الأب:
"حمزة الشيباني ، صحفي حضرمي مقيم حالياً بصنعاء.
- حمزة الحمداني تشكيلي سوري مقيم حالياً في صنعاء.
- ضحكنا وضحكت غزالة فرحة بهذه المصادفة الجميلة بتطابق الاسم الأول وتقارب اللقب والنسب وطريقة التقديم المرحة " ص 143
- فقتل المرح قتلاً بشرحه.
- لكنه كان ناجحاً في صياغة جمل بسيطة جميلة الوقع لا تكلف فيها كقوله حين وصف الأستاذ سيد " لأول مرة أرى جبلاً ينحني ويتأمل " ص 27 فطابقت الحدث المرافق تماماً وكانت دقيقة الوصف.
- وتأخذ الجمل انسيابية أكبر ورشاقة أجمل حين يتخلص الكاتب من الحوار ويبدأ السرد إن كان على لسانه أو على لسان شخوصه.
- بناء الشخصيات :
- وعن الحوار حول اللحاف بين حمزة وسيد ، كأني سمعت صوتاً واحداً في الحوار ولم أسمع صوتين مستقلين مختلفين ، إذ لا تمايز واضح في الأسلوب ومستوى التعبير والمستوى الفكري وما إلى ذلك، بل يأخذ نفس الشكل الفكري والجدل المتكرر ، وينتقل الحوار من البساطة التي يجب أن يكون عليها والانسيابية بين صديقين في غرفة واحدة إلى شكل من المحاضرات الفلسفية الذاتية المتكررة ، وكثيراً ما تكون مملة ، والتي ترهق الرواية وأنصح باختصارها في الطبعة القادمة لو كانت، كما أنصح بإعادة بناء كل شخصية بشكل مستقل، فينسحب حمزة للوراء في الحوار ويترك للبطل السوداني المساحة التي احتلها من مساحته.
- هناك أجواء عبثية سريالية واضحة يرسم الكاتب فيها جمله وعبارته وأوهامه الجميلة كشقوق السقف التي أدمن النظر إليها والتي يعرف مكانها جيداً ، وحبه لألوان دون غيرها فأنسن اللون وأعطاه بعداً مختلفاً، وهذه الأجواء وفق ما أرى أكثر تعبيراً عن شخصية حمزة وأكثر صدقاً ، فهو الرجل المنسحب لداخله والذي يفقد آليات التعامل والتصرف في أجواء الاختلاط بل وفي لحظات قاسية مثل موت صديقه السوداني ، وهو الرجل الجواني الذي يسمى لوحته بالأرملة فكم كان تداول هذا الاسم فنياً معبراً .
- يحاول الكاتب إخراج البطل الثاني حمزة بصفة مثالية دائماً فهو العارف في كل أمر وهو الذي يجيب على كل سؤال وهو المتذكر لكل معلومة هنا أو هناك حتى أنه يتذكر في أي عام مات سيف الدولة الحمداني... وهو المفكر والفنان والفيلسوف والمتعالم والمتظارف وهذا واضح التكلف عبر ما أسلفنا، كما إنه مخالف لطبيعة الإنسان فسرد جوانب الإنسان المختلفة المتناقضة أقرب للألفة والقرب من شخصية مثالية متكلفة لم أشعر شخصياً بالتعاطف معها.
- حسن التخلص : تخلص الكاتب من مشكلة كبيرة ربما كان سيقع فيها ، وهي انتقاده للأستاذ الشيخ الذي يصلي بالناس فقد يتناهى للمتلقي أنه يقصد الشيخ الرمز، بكل الأحوال الشيخ ليس معصوماً ولا مبعداً عن الانتقاد، لكن طريقة الكاتب جميلة وقد أحسن فيها رسم الصورة كاملة و إيصال مفهومه غير منقوص ، فقد رسم لشخصية الشيخ عبدو شكلاً ظاهر الفساد، فهو سيء الخلق ،وضيع التصرف،غشاش وصولي حتى أنه كان يبيع الناس نوعاً من أنواع المخدرات التي تعطى بوصفات خاصة، لكنه في ذات الوقت ذكر الأستاذ محمد النبطي أستاذ الفقه فهو رجل مستقيم لا يدلس عل الناس بشكله أو بدينه ، وبذلك أحسن رسم مفهومه في الرواية وجب عن نفسه المغيبة.
في النهاية حاولت أن أقف عند بعض الأمور التي تبدت لي ، وأخوض فيها بشكل موضوعي ، تبقى الرواية جميلة ويغفر لها أنها العمل الأول للكاتب أيمن ناصر الذي حاول أن يرسم أجواء الرواية بإحساس فنان تشكلي .
-
طارق شفيق حقي
25/9/2009