يحكى أن

يحكى أن أحد الولاة طلب من أحد عماله في بلدٍ ما أن يفد إليه لمدارسة أحوال رعيته ولمشاورته في الأمور التي تهم الخاصة والعامة وترقى بالبلاد والعباد .
ولما وصل الخطاب إلى العامل ، قبله و رفعه إلى رأسه وهمَّ مسرعاً ملبياً النداء فحزم أمتعته وأوكل مهام إمارته إلى أحد خلصائه ، ويمم وجهه نحو مركز الخلافة ليشرف بمكرمة الامتثال .
وصل صاحبنا إلى العاصمة فلم يجد أحداً في استقباله إلا رسالة كتب فيها : إذا وصلت بأمان الله وسلامته ، فتوجه إلى قصر الضيافة ، وهناك تجد ما يسرك ، فلقد أعددنا لك كل متطلبات الراحة وانتظر في الصباح رسولنا إليك ليصطحبك إلينا .
اضطرب الرجل بادئ ذي بدء ، فهو لا يعرف العاصمة ولم يسبق له أن وطئت قدماه ثراها ، وخشي أن يتوه في زخمها وزحمتها وشوارعها وجسورها لكنه قال في نفسه : مادمت من ناطقي الضاد فعلام الخوف والوجل ؟ ثم تقدم إلى أحد الصارخين الذين يستقبلون القادمين بأصواتهم النشاز ، و سأله : هل تعرف يا أخا العرب قصر الضيافة ؟
أجاب الصارخ بتعالٍ وكبرياء : أعرف كل شبرٍ في العاصمة ، ثم تناول الأمتعة وقذفها في مؤخرة العربة دون اكتراث أو اهتمام ، وفال بصوته الأجش : هيا اصعد ماذا تنتظر ؟
صعد صاحبناً مرتبكاً ، فإذ بالرجل يضرب عربته فتنطلق كالسهم المنفلت من القوس ، وكلما ارتقى مرتفعاً أو هبط منخفضاً قرأ الرجل عل روحه فاتحة الكتاب والمعوذات ، ولم يمض من الساعة إلا ربعها حتى أوقف السائق عربته أمام قصر منيف وقال له : تفضل فهذا هو مبتغاك
نظر الرجل إلى القصر فوجد لوحة كبيرة تحمل اسمه ، فاطمأن ونزل ، ثم دفع للكاري خمسين درهماً وانتظر أن يرد إليه الباقي ، فلم يجد منه سوى بسمة لئيمة وانطلاقة سريعة مع تمتمة أحسَّ أنها ساخرة ( الحمد لله على سلامتك ) .
وما إن لمست قدماه ردهات القصر حتى ابتدره أحد الخدم مسلماً و مرحباً وحمل عنه أمتعته وأوصله إلى كبير المستقبلين ،عرَّفه بنفسه فعرفه ثم أشار إلى الخادم أن سرْ به إلى الحجرة ( 211 ) وما هي إلا لحظات حتى وجد الرجل نفسه بين أحضان غرفة في غاية الجمال والكمال ، ألقى بجسده المنهك على سريرها ولم يشعر إلا وأذان الفجر المنبعث من المسجد القريب للقصر يوقظه ، قام إلى صلاة الفجر متفائلاً ، ثم غاب في أحلام اليقظة بتصور استقبال الوالي له والموضوعات التي سيطرحها معه ، ولم تدم الأحلام طويلاً حتى جاءه الرسول وحمله إلى الوالي .
لن تتصور مدى فرحه و غبطته بهذا الشرف العظيم ، لقد كان اللقاء حميماً عطوفاً مثمراً ناجحاً وانتهى كومض البرق ، وهمَّ صاحبنا بالاستئذان ليعود إلى ولايته ، فقيل له : لا بد من عودتك إلى قصر الضيافة أولاً فتنال فيه واجب القِرى والضيافة ، ثم تنطلق على بركة الله .
كان الغداء فاخراً يليق بمقام السلطان مع ضيوفه .
وعاد صاحبنا إلى مرابط قومه وبدأ يقص على خلصائه ما رآه وما عاشه وما بهره من جمال العاصمة وكرم ضيافتها ..
ولم تمض بضعة أيام حتى جاءته رسالة من الوالي : لقد أسعدتنا بزيارتك ، وخصصنا لك مكافأة ألف دينار .
فرج الرجل بالمكافأة ، وفضَّ خاتم الظرف فلم يجد سوى نصف المبلغ ، سأل نفسه وهو يقرأ الرسالة مراراً و تكراراً ويبحث داخل الظرف لعله يجد الباقي ، فلم يجد بقيته ، لكنه وجد قصاصة صغيرة في زاوية الظرف المهملة كتب فيها :
لا تبحث عن شطر الألف الآخر
لأنه تكاليف قِراك .
مروان قدري مكانسي