[align=center].
(( المقَامَةُ الهلالِيَّةِ " 1 " ))

قالَ الراوي : بينا نحنُ جلوسٌ بينَ يدي أبي عبدالله القاضي ، وحولُنا الخصُومُ للتراضِي ، وبعدَ أنْ أبدى كلُّ خصمٍ كَلْمَه ، واشتكى إلى القاضي خصمَه وظُلمَه ، وسألوا القاضيَ عدلَه وعلمَه ، أشارَ القاضي بعينِ الراضي إلى أحدِ الجالسين ، فأجلْنا إليه الأبصارَ ناظرين ، فوقفَ رفيعُ القامةِ ، مقصّبُ العباءةِ والعمامة ، منيرٌ كالبدرِ في تمامِه ، في يدهِ اليُمنى نورُ قُبولٍ ، و يسراهِ تحرّكُ بسحرهِا العقول ، فافترّ شنبُهُ عن شهدِ الكلمات ، تَفْصُدُ حروفَها البسمات ، لينثالَ كلِمُهُ الخفيف ، يثقلُه سحرُه الكثيفْ ، فتمايلتْ رؤوسُ القومِ للصفح ، وتهادتْ بينَ يديهِ بشائرُ الصلح ، فكبّرنا وهلّلْنا بعدَ أنْ قامَ الرجالُ ، كالجبالِ ، يمدُّ كلٌ خيرَ واديهِ إلى مَن كانَ معادِيه ، فوقفْنا جميعاً كالأعلام ، والقاضي قد بدأ الكلام ، حتى يوثّقَ الصلحَ قبل الختام ، وأنشدتُ قائلا :


أكرِم بقاضٍ همُّهُ الإصلاحُ ///// والرشدُ والصفاءُ والفلاحُ
أعطى المهيبَ فرصةً قضاها ///// ليبْتَدِرْ في الأفقِ النجاحُ
فغابَ صوتُ البومِ واشْرَأبّتْ /// أعناقُنا إذْ غرّدَ السماحُ



ولم أتموضعْ جالِسا ، حتى رأيتُ بالبابِ بائسا ، دميمُ الخلقةْ ، كأنه عَلَقَة ، يسير عنكبوتا أعْرجَ ، ومن رآهُ لم يجدْ فرجا و مخرجا ، يوحِي لرائيهِ بالهمِ ، ومُدانيهِ بزعافِ السمِ ، أبخرُ الفمِ ، تشمئزُ منهُ المزابل ، وتئِن من خُطاهِ السوابِل ، عرفتُ بمرآهِ معنى المسخ ، وضرورةَ النسخ ، وليتَهُ لم ينطقْ ببنتِ شَفَه ، حتى لا يؤجج في القاضي الأنَفَة ، فوقفَ على أربعٍ نرى منها اثنتين ، وتخفى علينا اثنتان ، فأشارَ له القاضي أنْ تكلم ، فتلعثمَ بينَ مسلمٍ ومتكلم ، فتبسمَ القومُ أَنه من عجمٍ نفاهُمُ الرومُ ، فليسوا بحاجةٍ إلى رُخُوم ، فأشارَ له القاضي أنْ يجلس ، وللحديث والأنسِ يُبْلِسْ ، فلم يجدْ مكانا يليقُ ، إلا ما لعله به خليق ، فتنبّر بعجزهِ بين أحذيةِ الرجال ، والضحكُ يهلُّ على الجلوس ، بلا دراهم ولا فلوس ، حتى استراحتِ النفوس ، فرفعَ ما يشبِهُ اليد ، وأشاحَ عنهُ القاضِي خشيةَ الرد ، فاشتطَّ بِهِ الغضبْ ، وكحّ وندبْ ، ثم انسلَّ من عباءةِ الأدبْ ، وقال :
أيها القاضي ، وباغي التراضي ، في الحاضر والماضي ، إعلمْ أنَّ من جاؤوك اليوم ، من عليةِ القوم ، قد حرمني أحدُهُمُ النوم ، وأخذتُ أقلبُ كلامَه ، وأبعثرُ أقلامَه ، حتى عثرتُ على الدليلِ أنّهُ عليلْ ، فلا سماحَ ، ولا دماحْ ، حتى تقعقعُ الرماحْ ، فغمّضَ القاضي عينهِ ، وأرخى عمامتَهُ إلى أُذُنيه ، وطرفا منها على مِنْخَرِهِ ، وأمرَ بمبخرِهْ ، وأشارَ إلى الحاجبِ أنْ تولَّ أمرَه ، ولا تنسَ أنْ تلسعَ دُبُرَه ، بملقطِ الجمرةْ ، فأمسكهُ الحاجبُ من رجلهْ ، وعرّهُ عرّا ، كجيفةٍ إهابُها مُحْمَرّا ، حتى أشفقنَا على أحذِيتِنا ، ونفضْنا من رائحتِه أردِيَتِنا ، والحاجبُ يقولُ : أخرجْ يا مكسورُ الضادِ ، و جرذُ الوهاد ، ومِرجلُ الرمادِ ، أتفرقُ الرجالَ ؟ بالقيل والقالْ ؟ ماذا تركتَ للنساءِ يا تعيسْ ؟ ألم تهبْ ملفوظَكَ الخسيسْ . ثم غابَ الصوتُ لم أسمعْ إلا ثغاءَه وحرشفةَ رغاءَه ..
فتبسمَ القاضي ، وأهلُ السماحِ والتغاضي ، حتى التفتَ إليَّ أحدُهم وأشارَ بيدهِ أنْ أنشِدْنا ، فتبسمتُ قائلا :

يضيقُ علينا عرينُ الأسودِ ////// إذا زارَها غفلةً ثعلبُ
ويهربُ عطرُ الصباحِ الجديدِ /// لرائِحَةٍ قُبْحُهَا يغلِبُ
وإنْ ضَاعَ تفسيرُ مسخِ القرودِ /// فذاكَ لتفسيرِهَا يَجْلِبُ
فليسَ لهُ غيرُ دبغِ الجلودِ ///// وتنشيرُها عندما تُطْلَبُ
بِهِ قد كرهْنا شِواءَ القديدِ /// وأكبَادُنا عنهُ لا تقلبُ



فقاطَعني القاضي بضجيجِهِ وقد بدَت أضراسِهْ ، فخبأَها على الطاولةِ إذ حنى راسَه ، والقومُ يعومونَ في بحارِ الضحكِ والضجيجْ ، وبطونُهم لهفى إلى اللحمِ النضيجْ ، يتضَاحكُون ، ويتهَامَسُون ، ويتغامزونْ ، فوقفَ القاضي ونادَى ، يا آلَ مَجْلِسْ :
" طعامُكم اليومَ لذيذْ ، فقد جئتُكم بنجديٍّ حنيذْ ، لنْ يصدَّ عنهُ من ذاقَه ، ولنْ تنسَوا بعدَ اليومِ مذاقَه ، فإنْ كدركم ذلك الأبخرْ ، فقد أضحَككمُ الراوي إذْ قال فأشْعَر ، والضحكُ يريحُ الروحْ ، ويدمحُ القروحْ ، ورائحةُ الطعامِ الشهي ، ستنسيكم الصدّ والنهي ، بعدَ مقدمِ ذلك البهي ، فهلمّوا إلى طعامِكم "



عميق احترامي ..

* هذه أولى محاولاتي لكتابة هذا الفن ، وحتى اطلاعي عليه قليل جدا ..
لا تتركوها تمر دون تمحيص أرجوكم .. بكم أرتقي ..
[/align]