الإشَاعَةُ
... ثم إنها سرت مجبرة كدأبهم بها ليلا بين بني الإنسان، وبعد أن شبت مقهورة سريعا كالنار في الهشيم وعلا لهيبها وتناثرت حممها كالبركان، أصبحت على الرغم منها حديثا طويلا مفصلا يجري على كل لسان، وقد أريد لها من قبل غصبا أن تكون عبارة جامعة متينة كحجر الصوان، وأن لا تتجاوز كلماتها عدد أصابع اليد الواحدة بشرط أن تغني بإيجازها عن كل إشارة أو شاهد عيان، بل صارت قصة شيقة تامة الأركان، وكل من يرويها يجتهد في أن يحرز قصب السبق في الفصاحة والبيان، وقد يزعم لها انتسابا ويضع لها ترجمة أو عنوان، وهو يعلم جيدا أنها مجهولة النسب ومفقودة العنوان، وأن مجرد التفكير في أصلها وفصلها هذيان، وكذلك البحث عن صاحبها قصد العثور عليه سيان، وما هو في الغالب سوى عبث وحلم عز تحقيقه في كل زمان وفي أي مكان، وأما ادعاء معرفته فكذب في أكثر الأحيان وبهتان ...
أسفر الصبح وهي ملك مشاع بينهم كغنيمة أو مال، وأصبحوا يستهلونها بقيل وقال، ويسردونها بحماسة وكأنها ذروة معركة أو سنام قتال، وقد ألبسوها بأهوائهم كثيرا من الأحوال، وعرضوها على كل مستمع في مختلف الأشكال، ثم إنهم ختموها بقولهم: والعهدة على الراوي الذي حدثنا بما بلغنا من مقال ...
لم تولد ولم تمت في مهدها مختارة، ولكنها ماتت بعد أن شبت مكرهة وشابت منهارة، ولم تغب يوم تم إحضارها بالقوة فسارت، بل غابت بعد أن ذاعت وحملت على الأسماع مرغمة وفي الأذهان صالت، ثم إنها بعد موتها ومضي زمن طويل على مواراتها أخرجت من مرقدها عنوة فجالت، وبعثت من جديد وكأنها لم تمت وما بها من بأس فساحت، ثم سرت بالغصب ليلا كما أريد لها بالأمس وشاعت ...


د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي

aghanime@hotmail.com