ـ 12 ـ

أذهلنى التماع عينيها بالمفاجأة . أدركت أنها لم تكن تنتظر هذا العرض ، وأن العلاقة بينى وبينها ترفض الارتباط الأبدى ..
رشقت فى عينى نظرة زاجرة :
ـ أنا لا أصلح لك ..
ـ هذا ما أقرره أنا . المهم هو : هل أصلح أنا لك ؟
لم أتوقع ردها . لم أتوقع أنها سترفض . غابت الأحاديث عن المستقبل ، لكنه بدا لى فى الأفق القريب . يضمنا معاً ، لا تهمله ، ولا أتخلى عنه ..
كنت قد صحبتها إلى حديقة الحيوان ، تمشينا فى حديقة أنطونيادس ، انشغلت بقراءة الدوريات فى مكتبة البلدية أثناء نقلها ملاحظات من المراجع ، خلعت حذاءها وتقافزت على رمال ستانلى ، أرهفنا السمع لصوت ارتطام الأمواج بجدران قلعة قايتباى . تأملنا الصيادين يضعون الحبال الطويلة على أكتافهم ، يجرّون ـ فى سيرهم المتباطئ على الكورنيش الحجرى والرصيف ـ شبك الجرافة إلى موضع إفراغه من الأسماك . زرنا المتحف اليونانى والرومانى ، ومقبرة اللاتين . أطلنا متابعة مواكب الزفاف فى ميدان المساجد . تمشينا فى المسافة بين تمثال الخديو إسماعيل والسلسلة . استعدنا وقفة نابليون فى هضبة عامود السوارى . ألحظ ما لم أتصوره فى بداية تعرفى إليها . طالعتنى بإلمام واسع فى السياسة والتاريخ والاقتصاد . حتى القصص والروايات كانت تستشهد بأحداثها . ربما استعادت أبياتاً من الشعر للتدليل على رأيها . لم تكن معلوماتها تقتصر على الحياة فى أرمينية ، التاريخ والبشر والمعتقدات والعادات والتقاليد . تتكلم فى كل ما تستدعيه المناقشات . تتسع رواياتها عن الحكايات والوقائع التاريخية والأماكن والأرقام والأحداث .
التقينا فى ميدان محطة الرمل بشقيقها يعقوب . تبادلت نورا معه كلمات سريعة ، وأومأ لى بالتحية ، ومضى . اعتذرت عن عدم تلبية دعوتى بمشاهدة فيلم فى سينما أمير ، بطلاه دوريس داى وروك هدسون ..
لاحظت أنها كانت تستعيد ما يرويه الدكتور جارو من صور . تتخيلها بالعبارات التى يتحدث بها : الطقس والجبال والسهول والوديان والميادين والشوارع والمتنزهات وسلوكيات الحياة . أعرف أنها ولدت فى الإسكندرية . لم تغادرها إلى خارج مصر . مساحة الإسكندرية ، ما يسهل أن تتحدث عنه ستة وعشرين كيلو متراً ، المسافة بين قصر رأس التين وقصر المنتزة . ربما جاوزت المسافة إلى أبو قير ، أو إلى ناحية الغرب فى المكس . لكن أحاديثها تقتصر على المساحة التى تشكل مدينة الإسكندرية ، المدينة التى يغمض أهلها أعينهم على قسماتها ، يتحركون فى الشوارع والميادين ، ويتجولون بين الأسواق والبنايات .
قلت :
ـ قد لا تصدقين .. لكننى كنت على ثقة أننا سنلتقى ذات يوم .
ـ أذكر أن لقاءنا الأول كان فى عيادة الدكتور جارو ..
ـ التقيت بك فى خيالى عشرات المرات ، وتوقعت أن يحدث اللقاء فى الواقع ..
ـ مجاملة لا بأس بها ، لكننى لا أحب المبالغات الرومانسية .
وواجهتنى بنظرة متسائلة :
ـ لماذا أنا ؟
وأدارت خصلة الشعر بإصبعها :
ـ نحن نختلف حتى فى الديانة ..
ـ لكننا نتفق فى ميل أحدنا إلى الآخر ..
أردفت فى تحمس :
ـ طبيعة الحب أنه لا يعترف بالعقبات ..
ـ الحب ليس كل شئ فى حياتنا . هناك أشياء أهم !
ـ حتى الأشياء الأخرى ، إما أن نحبها أو نكرهها ..
استطردت فى ثقة مفتعلة :
ـ الحب أو الكره .. أليس كذلك ؟
قالت :
ـ لو أنى أحيا فى أرمينية ، قد تبهرنى شخصية الرجل الشرقى ، ما يغلف حياته من الغموض والسحر ، لكننى أحيا فى مصر .. أنا مواطنة مصرية ..
قبضت على حقيبتها ، ونهضت واقفة .