قصيدة // معلقة الفارس.







على مثلها الأيامُ وقفُ ركابها

وغصةُ حاديها ونوحُ غرابِها




كأنَّ الطلولَ الشائخاتِ عوانسٌ

ينحنَ على مرِّ العصورِ ببابِها




ثواكلُ من أحببن من كُنَّ لو ظمتْ

أذبنَ لهارياً جفونَ سحابِها




يُقلّبنَ في غورِ الغيوبِ غياهباً

مضمخةَ الأيدي بدمِّ رقابها




ويحشرنَ في حلقِ الزمانِ دقائقاً

بهنَّ خرابُ الدهر شكلُ خرابها




طريحاتُ قفرٍ والغٍ بشجونه

يُفصِّدْنَ فيه أكحلاً بحرابها




وريح عواءُ الموتِ جمَّ بحلقها

ومزجاً دمُ الأزمانِ مزجَ لُعابها




يخبّرها شيبٌ يعفرُ لِمَّةَ

بما لم يُخَبِّرها أوانَ شبابها




تغطُُّ كيومِ الحشر إثر نفوسنا

وهوجُ المنايا في ثنايا ثيابها




تمنيتُ والدنيا تغورُ لو أنني

أدقُّ حصاة في أحطِّ ترابها






جَزَتْ عنكما الأيامُ عمراً طوته بي



على مذبحِ الآمالِ طيَّ كتابها






وقلباً كسيرَ الجنح طيراً محطما



أسيراً مهيناً بين ظفريْ عُقابها






تَذكِّرهُ الآفاقُ كم كان واهماً



وكم هو أدنى ما يكون بغابها






وكم هانَ جنحٌ تنتفُ الريحُ ريشهُ



وقد كان يجريها حذارَ انكبابها






كذلك تستضري بي النفسُ لبوةً



وما بي من شُمِّ الطماحِ لما بها






كأني إذا أطبقتُ جفني لحظة



أرتني خوافي الكونِ خلفَ حجابها






وأرواحَ أرماسٍ يحضُّ ذواتها



إلى منتهى الآباد وهم غِلابها






فتسلكُ شِعْبَ الموتِ لا عن دراية



ومكةُ أدرى من درى بشعابها






أعن مثل هذي لو تَرَجَّل فَارِس



تَقَيَّلَ إلا فوقَ شوكِ طلابها







ويا كلَّ أزمانٍ مضت دون رجعةٍ



أعيدي إليه رشفةً من رُضابها






أعيدي إليه ساعةً كان ينزوي



بنفسه خلْواً من همومِ اصطحابها






كأيِّ مليكٍ غَرَّهُ الدهرُ فانبرى



يشيدُ جبالاً من فتاتِ هضابها






ولكن أياماً عليك دوائراً



تريكَ تمامَ الدهرِ عند انقلابها






تريكَ الذي ضاقتْ بحورٌ بفلكه



تَقَلَّبَ عن نفثٍ به كحبابها






وأنقاضَ أقوامٍ تَمَرَّسَ بأسهُمْ



بقودِ المنايا تحت سطورِ ضرابها






عفتْ تحت أقدامِ الزمانِ وَشَفَّها



إلى خفقِ عُقبانٍ طنينُ ذبابها






كذلك ما انفكَّتْ تُكَشِّفُ سرَّها



على فوتِ آجالٍ بشقِّ نقابِها






فكلٌّ إلى حتفٍ طريفٌ وتالدٌ



كأنْ لم يكن في الأرضِ غيرُ ترابها






فيا فارس الموتى أبدتَ سنينَها



وأنفقت أعماراً برتقِ قرابها






على كل رأسٍ طَأْ وخلِّ دماءَهُ



تطايرُ بالهاماتِ صوبَ متَابها






تشابهت الأضدادُ حتى كأنما



مغازلةُ الأقدارِ مثلُ اغتصابها







على مثلها الأيامُ تمضي كأنما



قرونٌ تَوالى لم تكن في نِصابها






كأنَّ عصورَ الغابرينَ دقيقةٌ



تناسَخُ في عَذْبِ الدُّنا وعذابها






وأنت كما ريحٌ تعاقرُ ليلةً



تعاقرُ بدراً شارداً في سحابها






بها الذكرياتُ السودُ هوجٌ شواظُها



على لائذٍ من رَحْبِها برحابها






ظميٌّ ترى الآمالَ محضَ طرائد



تراكضُ أقصى العمر إثر سرابها






وأطيافَ من ناموا سحيقاً بأقبر



تسدُّ على الأحلامِ طُرْقَ إيابها






قفارٌ مجاهيلُ الطموحِ فسدرةٌ



تؤديكَ في أخرى ابتغاء عُجابها






تُهجّركَ الدنيا فعمرك راحلٌ



وشيبك بادٍ عن ظعون شبابها






تصوبتَ عن متنِ الطوالح غايةً



على نفسها طاشت سهام انتخابها






تبدتْ لك الغاياتُ مسعىً لميتة



فمالك في دأب المساعي ودابها






تَبدَّتْ إناثاً في العراءِ رجولة



عجائزها يغوينها بكعابها






ولكنها خلطٌ من الصحو والكرى



خطى عاثرٍ في عودِهِ بذهابها






كذلك أقدارٌ حضورُ بلائها



أقلُّ بلاء من بلاءِ غيابها






ألا كلَّ ما أفنيتَ أفناكَ فاتعظْ



وكل هناءٍ والجٌ في مصابها






تَحَيرتَ حتى لم تُخَيَّرْ بأمرها



وحتى أثابتك الدٌّنا بعقابها







ويا دارةً مثوى أذِّكار طفولةٍ



أحنًّ إلى حيطانها وترابها






وحضنٍ تدنى من رضيعٍ مُهدهداً



يؤبِّدُ ذكراهُ انحناءُ قبابها






تمنيتُ ما شاختْ ولا شختُ بعدها



ولا كبرَ الطفلُ الحبا في رحابها







ولا طلعتْ شمسٌ على الليلة التي



نأتْ عَبَرَ أسدافِ الردى بصحابها






ويا ليلةً أعفى من الدهر ليلةً



شَبَبتْ وشبت في حميا مآبها






تَشُدُّ وثاقَ الكونِ أفعى ظلامها



وتنفثُ في عينيه تيهاً بنابها






إذا أنَّ ملحودٌ بها خلتَ أنها



ستبعثُ موتاها بزيِّ ذئابها






كأنَّ القبورَ الرابضاتِ حواملٌ



تَوَعَّدْنها بالثأر يومَ حسابها






ويومَ تخونُ العينُ من أبصرتْ له



وتبرأ نفسٌ من صميم إهابها






ويومَ يريبُ الله ما كان خالقاً



وتكتشفُ الأخطاءُ كذبَ صوابها






كيومٍ أضاعتهُ الدهورُ وشُرِّدَتْ



دقائقُهُ حتى تخومِ اغترابها






سرتْ صوبهُ الأعوامُ هلكى طريدةً



وخَلَّفَتِ الأزمانَ نَهْبَ ارتقابها






يضلُّ بها الهادي ويهدي مضلّلٌُ



وترى بآسادٍ جرابُ كلابها






وانّ من الأهلينَ أعدى من العدا



عدوٌ مُعَدٌ من أعزِّ صحابها






فيا كاتمَ الأسرارِ قد شابَ سائلٌ



بأسئلةٍ شابتْ بمعنى جوابها





بُليتَ بما قَدَّ الضلوعَ ضميُرهُ



وما شهدها لو فُهْتَ قيءَ كصابها






كأنك ما أبقيتَ في العمر ساعةً



تَقَيّلُ فيها من هجيرِ صعابها






فيا فارس الموتى القيامةُ أُجِّلَتْ



ولو أذَّنَتْ كل الدًّنا باقترابها






فلو لم تكنْ سيفاً أعاديك لم تكنْ



رؤوساً تشي لو يُنْتَضى برقابها






إذا الموتُ مكتوبٌ عليك فخلها



ممارسةَ الأهوالِ مثلَ اجتنابها






فما غَرَّت الدنيا فتىً ما تَبَّرجَتْ



يرى كل عمرانٍ بها كخرابها





***

على مثلها الأيام دالت فأَربَعَتْ



فما اخضرَّ من معشوشبٍ بيبابها





وقفتُ بها والغيبُ يُملي قرونهُ



على قدرٍ يُملي سنين احترابها






وقوفاً بها والموتُ يَحْطُبُ أرؤساً



تذم يدَ الحطابِ يومَ احتطابها






تقاذَفُني الأغوالُ حَيَّاً بجثتي



كدمعةِ ميتٍ لم تمتْ بانسكابها






جَرَتْ فوقَ خدٍ ديسَ تحتَ حوافرٍ



مغبرَّةِ مسعورةٍ بنِهابها






نذيرٍ لعصفِ الثأرِ قصفٍ من اللظى



جنين المنايا في بطون سغابها






وأعتى من البحر الذي بحرهُ دمي



وما أنا إلا قطرةٌ في عُبابها






أواري بقفر العمر ما الدهر قاتل



وأنبشْ ذكراي التَوَت بحرابها






وتجري رياحي دون هدي لغاية



مخلفةً أسفانها بارتقابها






تَشَبَّثْتُ بالدنيا تَشَبُّثَ مركبٍ..



تغارق والغرقى وكلٌّ هوى بها






كأنَّ قبيلاً من أكفٍّ تَمَسَكَّتْ



بأطرافِ ظلِّ الشمسِ حين انسحابها






أنادي بأقصى الكونِ يا دهرُ ردني



إلى ساعةٍ في العمرِ منها ابتدا بِها






فاسمعُ أيامي ترد: عسى به



وأسمع أصداءاً ترد: عسى بها