البحث عمّا وراء المشهد المرئي
دمشق - بندر عبد الحميد
خرج الكاتب الفرنسي غي دي موباسان عن مداره المألوف في كتابة القصص والروايات القصيرة والطويلة, التي أنجز منها نحو ثلاثمئة نص, في عمره القصير نسبياً (1850 - 1892) ليكتب نصاً استشراقياً نادراً, يشكل إضافة مهمة إلى إنجازه الأدبي, معتمداً على تجربته الشخصية في ثلاث رحلات قام بها إلى الجزائر وتونس, عبر مرسيليا, مدفوعاً برغبة خفية لاكتشاف الوجوه المختلفة للحياة في مكان آخر. وكان موباسان كتب ثلاثة نصوص في أدب الرحلات, أهمها كتابه "من تونس إلى القيروان" الذي صدر بالعربية في سلسلة "البحث عن الشرق" - دار المدى - ترجمة: محمد علي اليوسفي.
وفي مزاوجة غريبة بين السرد القصصي وحرارة التقرير الصحافي وتوثيق المؤرخ أو الباحث في الجغرافيا والأجناس البشرية يرصد موباسان كل وجوه الحياة في تونس, كما شاهدها في ثلاث مدن هي تونس والقيروان وسوسة, بعد أن كتب فصلاً مكثفاً بعنوان "تحت الشمس" عن تجربته ومشاهداته في الجزائر, قبل وصوله إلى تونس.
ويحاول موباسان بإصرار أن يكتشف ما وراء المشهد اليومي المرئي, حتى لو كانت محاولته تشكل مغامرة خطرة, وهو لا يعتمد على المصادفة السعيدة, لأنه يعرف ما يريد, كما يقول الناقد هنري ميتران: "ويسعى إلى من يرافقه لدخول أماكن يعرف أنها ممنوعة, ويركز بحثه على العادات وأساليب العيش والمعتقد, وذلك في تنـاوب محسوب, يترك الكتابة يقظة, مع زاد من الكلمات ذات الدقــة والبريق النادرين".
كان موباسان يعاني مرض الربو ولهذا كان يكتب عن حالة الطقس وتحولات ضوء الشمس بالتفاصيل الدقيقة في الأماكن التي مر بها, فهو يبحث عن الشمس الصافية التي كانت هدفاً لكبار الكتاب, أو الفنانين الرمزيين والانطباعيين والتعبيريين الذين زاروا شمال افريقيا والشرق العربي بحثاً عن الضوء, مثل ديلاكروا وماتيس وكوكوشكا وباول كليه وكاندينسكي, لكن رحلات موباسان أخذت شكل الحلم: "والسفر يشبه باباً نغادر منه الواقع المعروف لنلج واقعاً غير مكتشف, أقرب إلى الحلم".
ويشيد الناقد هنري ميتران بروح الإنصاف والتسامح لدى موباسان في رؤيته للعرب, ويقارنها بروح التعالي لدى معلمه غوستاف فلوبير في رؤيته لهم, أو للآخر, فيقول:
"أما فكرة كون العربي يمتلك "روحاً" مثلنا تماماً, نحن الفرنسيين الصالحين وأنه من المناسب, ومن الملح, محاولة "فهمها", فهي أبعد ما تكون عن العنصرية اليومية المعتادة, أو عن ثرثرة السياح المتسكعين, بكل بساطة, إنها تضفي على موباسان أهمية لم تكن منتشرة في عصره, واهتماماً إنسانياً, لائقاً إزاء "الآخر", أي إزاء ذلك الغريب الذي يُعترف له بالجدارة نفسها, وبالإنسانية نفسها التي للمراقب".
كان موباسان حريصاً على معاينة كل مشاهد الحياة في تونس, ما هو معلن وما هو خفي منها, حيث صوّر نماذج مختلفة من الناس بتوصيف دقيق لحركاتهم وأزيائهم وسلوكهم, وتوقف عند نماذج خاصة في العمارة, ومنها الجوامع, والأسواق والبيوت والحمامات وأضرحة الأولياء والبيوت السرية للمتعة والمؤانسة, وحينما زار المستشفى الصادقي للأمراض العقلية أصيب بدهشة حينما صاح في وجهه أحد النزلاء وهو يرقص مثل دب ويقول: - مجانين, مجانين, كلنا مجانين, أنا وأنت والطبيب والحارس والباي, كلنا, كلنا مجانين... نعم.. أنت.. مجنون.
ترك هذا المشهد أثراً واضحاً على مزاج موباسان, وكأنه ينذره بما سيحدث له فعلاً في المستقبل القريب, حيث عانى من مرض سبب له اضطرابات عصبية استمرت حتى وفاته.
يلاحظ موباسان أن الخليط العجيب من الألوان والأشكال في الألبسة يوحي بالدهشة, حيث تبدو وكأنها ألبسة مسرحية, وفي قلب المدينة يختص كل شارع بحرفة معينة, ويثير انتباهه سوق العطارين, حيث "تطفو رائحة بخور مدوخة قليلاً, من طرف السوق إلى طرفها الآخر".
وينسج موباسان ما يشبه مقطعاً أو فصلاً في قصة حول الشخصيات والأماكن التي يمرّ بها, حيث تختلط التداعيات بالمشهد المرئي, وهي تداعيات شخصية وتاريخية وفنتازية مشوقة, مدعمة بالمقارنات الطريفة, ورصد الأنماط السلوكية ومحاولة فك الرموز والعلامات التي ترتبط بالثقافة اليومية الموروثة والمستجدة.
ولو لم يكن موباسان كاتباً يتصف بالعمق والغزارة لاكتفى بالوجه السياحي والترفيهي في زياراته إلى تونس والجزائر, ولم يرهق نفسه في البحث عن جذور الزوايا الدينية وتقاليدها, وشعائر الحياة والموت وتقاليد الصوفية والدراويش وتفاصيل طقوسهم الروحية, وهو يحاول دائماً أن يفسر معنى نظرة ما من امرأة مجهولة يمر بها مصادفة في الشارع, ويفيض في وصفه للشوارع والبيوت والدروب الجبلية والأسوار والسواقي والأشجار والمستنقعات والظلال التي ترسمها تدرجات ضوء الشمس على جدران البيوت العتيقة, ويضيف إلى التفاصيل الدقيقة حكايات وأخباراً سمعـــها أو قـــرأها أو عرفها من هذا المصدر أو ذاك, كما يضيف دائماً شيئاً من مشاعره الشخصـــية المســـكونة بجاذبية خاصة تطفح منها التماعات رومانسية حالمة: "كل امرئ يحلم ببلده المفضل, أحدهـــم يحـــلم بالســــويد, وآخر بالهند, هذا باليونان وذاك باليابان, أما أنا فبقيت أشعر بالانجذاب إلى افريقيا بسبب حاجة ملحة, وحنين إلى الصحراء المجهولة, يشبه حدساً بحب يوشك أن يولد, غادرت باريس في السادس من تموز (يوليو) 1881, أردت مــــشاهــــدة أرض الشـمس والرمال في أوج الصيف تحت الحرارة الخانقة والضوء العنيف والمبهر, والجميع يعرفون القطعة الشعرية الرائعة للشاعر الكبير الكونت دوليل:
الجنوب/ ملك فصول الصيف/ منتشراً على السهل/ يحط في أسمطة فضية/ من أعالي السماء الزرقاء/ يسكت كل شيء/ الهواء يتوهج ويحترق من دون تنفس/ والأرض تغفو في فستانها الذي من نار