الغيمة المضطربة



أمام الهاتف العمومي ومن بين كل الناس كانت ترقب دورها من بعيد بهدوء ...

وعلى عكس الناس لا يظهر على وجهها البسيط ما يعتمل به صدرها .. إن أخذ أحد دورها تكتفي بالنظر إليه , الجو كان ساكنا" .. لسعة من البرد تمر أحيانا" الغيوم في السماء تضطرب دون أن تلوح بالمطر .. كان كل من يتحدث بالهاتف يريد نقودا" .. حاجيات .. طعاما" .. هذا يغازل فتاة .. وذاك يحادث صديقاً , وكان دوري الأخير .. جاء شاب مستعجل وكأنه يريد خطف السماعة بفظاظة ولولا أنه قال مبررا" إني مستعجل , سأتكلم بإيجاز .. لما سمحت له وتحدث وأطال .. نظرت في السماء ,كيف لهذه الغيوم إن تنهمر بوجود هذه الأفعال .. أما هي فكانت صامتة لا تعترض .. وتحدث آخر وهي صامتة يلتف الوشاح حول رأسها .. كان بودي أن أعطيها دوري لولا أنه الأخير فقد شعرت بتعبها أنا المتأفف التعب .. وحين جاء دورها وبعد أن سلمت قالت: كيف حالكم ؟ هل تعشيتم ؟ كيف حال أبي ؟ غطوه جيدا" كي لا يبرد لقد تأخرت بالاتصال لأن دروسي كانت متأخرة .. نعم أنهيت دوامي .. وبكل حنان حييتهم..إني قادمة وأعطتني السماعة تاركة دفء يدها عليها وتركت ما تبقى من نقود ومشت .. نظرت إليها وهي ذاهبة استرجع حديثها خلال اقل من دقيقة ثم أعدت الاتصال بآخر رقم في الذاكرة آلو : كان طفلا" صغيرا" بريئا" قلت له من حادثتكم قبل قليل يا صغيري فقال لي : إنها أختي ، وأين والدك ,قال إنه مريض , وأين أمك ؟ قال :إنها ميتة ,كم عدد أخوتك ؟ قال :ستة . أغلقت السماعة أبحث عن الفتاة التي اختفت وكان الغيث قد بدأ ينهمر غزيرا" جدا" لحظتها .





+++
حين مشيت في غابات روحي





حالة من اليأس والحزنوالتشتت والضياع , حالات من البعد والقهر والنكوص انتابتني ... مشيت إلى الغاباتنظرت من الخارج ... غابات ضخمة باسقة الأشجار متعانقة الأطراف ... متداخلة الأوراق .
دخلتها متوجساً ... نظرت داخل الغابة ... ظلام مخيف موحش عشش في أرجاء المكان ... برودة لسعت أطرافي. قدماي تغوصان في طين لزج ... روائح كريهة تعم الأرجاء وماأراني إلا خارجاً هارباً منها ... في ركن قصي منها شاهدت أزهاراً لكنها كانت ذابلةهزيلة يائسة كيأسي ... صممت على الخروج ... حانت مني التفاتة إلى الأعلىوبالكاد رأيت بصيص نور يلمع مخترقاً ظلمات هذه الغابات وسقطت ورقة صفراء فرحتبسقوطها .. وأخذت أنظر فوقي ... فامتد بصري بعيداً بعيداً إلى طبقات كثيفة منالأغصان تمتد وتحجب النور عن أرجاء الغابة ... فيعم الظلام ... وانتابني فيض من يأسعارم وشعرت بخوف ما شعرت بمثيله وكأني أبصرت كل شياطين الأرض ... تستوطن الغابةوتزيد من يأسي ... لكن بصيص النور عادوامتلكتني لحظتها قوة عارمة ... فهززتالأشجار بكل قوتي ... فأخذت الأوراق الصفر تتساقط ... وتتساقط تملك الأجواء وتملكالأرجاء ... وملأت الأرض ... آلاف الأوراق من ارتفاعات بعيدة تتمايل وتتهادى وتعبرطريق الفناء , خشخشة الأشجار تصم أذناي ... رجع الصوت وصداه بعيد المدى .

دوامة من التفكير تبتلعني ... وشريط الماضي يعرض أمامي ... كيف

نبتت هذه الأوراق الصفر حـاجبة النـور والضياء عن الغابة ...كيف لم انتبه إليها ... كانت كل ورقة تتهادى تقترب مني وتكاد تصطدم بعيني ثم تنحرف جانباً ... أرى واحدة كتب عليها خيال فاسد وواحدة كتب عليها أمنية ضالة وواحدة كتب عليها فكرة سوداء ... وواحدة كتب عليها حقد ماض وواحدة كتب عليها ..........أهواء عاتية تحاصرني ... وكأن الغابة المظلمة كانت مستودعات لظلمات وعفن وسقم ... ألح علي الأمل فهززت أكثر وأقوى ...


سقطت الأوراق حتى وصلارتفاعها إلى ركبتي ... وهززت أكثر حتى وصلت إلى صدري ... أوراق صفراء تهر وتهر ... حتى غطت رأسي وما عدت أملك القوة وكأن جبالا من الذنوب تكومت فوقي وفقدت قوتيفاستسلمت لنوم أو ما شابه ... وحين أحسست بيقظة أو ما شابه كانت أشعة الشمس الدافئةتداعبني ... استيقظت نظرت ... دهشت ... بحثت عن نفسي بين الأوراق ما وجدتها نظرتما عرفتها وإذ بي ربيع تفتحت براعمه على الأشجار وزهراً متلألئا فائح الرائحة على المروج ففرحت وضحكت وأخذت انتظر الزهر والثمر.
حلب 20/1/2003


+++



بذورالورد


بانحناءته الظريفة وكلماته المنمقة ونظراته وإيحاءاته , تقـدم نحوي ممسكاً بوردة حمراء نظرت فيه , كانت كلماته تبهرني وأوشك أن أذوب في دوامة الأحاسيس اللذيذة التي أفقد نفسي فيها , شكل الوردة ولونها يغريني لكن شيئا ما يمتلكإرادتي فأمسك بالوردة وأرميها جانباً وينصرف الشاب خجلاً .. وأنسى الشاب وأنسى الموقف وأنسى نفسي و إحساساتها لكني لا أنسى الوردة وهي تقبع في الركن الركين تأخذ همي فأراها تذبل سريعاً وتجف وتذود الرياح أوراقها , فأعرف زيف عواطفه وأشعر بحزنيلفني ولا أجد تفسيراً له في كل معاجم الأرض .

لكن الموقف هذه المرة اختلف وأقبل هذا الشاب الوسيم واقترب مني , بحركاته أشعر صدقاً مطمئناً , وبكلماته أشعرمعان طافية , لا أرى برقاً خلباً في عينيه إنما نظرات مستقيمة تحمل رجاءً لكن حزنيحذرني , نظرت إلى يديه أبحث عن الوردة الحمراء التي أعرف مصيرها مد يده وفاجئنيما كان يحمل وردة . فتح يده وإذ ببذور صغيرة نظرت متعجبة , لا أدري شعوراً أو فكراًيمس أو يعرف قد انتابني , لكن شيئاً ما امتلك إرادتي دعمه العجب وعدم الفهم فضربتيده فتطايرت بذور الورد وافترشت المكان من حولي وانصرف الشاب حزيناً , وأوقعني ضحيةالأفكار والهواجس هذه المرة وشعرت أن شيئاً ما قد نما في قلبي هذه المرة أبصرتالمكن من حولي , كانت البذور قد نمت وبدأت تكبر مع مشاعري وأحاطتني براعم خضراءوشعرت حينها كم كانت تعني هذه البذور لذلك الشاب , كم كان يفكر بي وكما كان يعيشلحظات صادقة أراها الآن تفتحت من حولي وأشعر به يقلم ويشذب كل شجيرة ويسقيها وينزعقديم ورقها , وجاف وردها ويجمع بذورها ويتقدم إلي وأنا فعلت ما فعلت . أين أنت أيها الشاب وفجأة اهتزت الورود وظهر الشاب من بين الشجيرات ففرحت وتفتحت كل الورودلحظتها وعبقت بأجمل الروائح اللطيفة ونمت الشجيرات من حولنا وتكاثرت ولفتنا بآياتالجمال فاختفينا في جو من عطر وزهر وسعادة.
**
سيقولونسبعة و ثامنهم


ندف غيم صغيرة متناثرة تلوح في سماء الله , وقد تشكلت ذيولها وذوائبها مع ذيول أشعة الشمس الغاربة البرتقالية اللون الباهتةالإضاءة , الممتزجة مع لون السماء الفيروزي المائل للزرقة , وحركت نسمات فرشاة خفيةلتمتزج الألوان بعضها ببعض وتتغير أشكال الغيم فتفتـح آلاف الأخيلة المتلألئةالمتموجة الخفيفة اللون , الجميلة الشكل , داعيةً النفسَ للتأمل والقلب للجلاءوالعين للرشف والأذن للتذوق .

قال الأول للثاني : انظر ما أجمل الغيوم .

قال الثاني للثالث : انظر ما أجمل ندف الغيوم الصغيرةقال الثالث للرابع : انظرما أجمل تموجات ندف الغيوم الصغيرة .

و قال الرابع للخامس : انظر ما أجملالألوان المختبئة في تموجات ندف الغيوم الصغيرة .

وقال الخامس للسادس : انظر ماأجمل تناغم الألوان المختبئة في تموجات ندف الغيوم الصغيرة مع تناغم الحياة علىالمروج الخضراء .

وقال السادس للسابع : انظر ما أجمل تناغم أفكار الإنسان معالجمال المنثور في الطبيعة . وقال السابع للثامن : انظر ما أجمل المختبئ في طياتالإنسان الذي يبحث عن الجمال في آية من آيات الله المتشكلة من تناغم ألوان مختبئةفي تموجات ندف غيم مع الحياة على المروج الخضراء فتبارك الله في ما صور وأبدع فيواحدة من آياته جاعلا" الإنسان يسبح بحمده وجلاله وجماله إذ تعرف إلى جمال مختبئ فيطيات نفسه من ألوان جميلة مختبئة في تموجات ندف غيم صغيرة في هذه السماء فينجليالقلب وترشف العين وتتذوق الأذن وتتأمل النفس .

نظر الثامن إلى السماء ثم إلىالسبعة وقال:لكن أين الغيوم .





+++





الاثنان




الواقف على حافة الاتجاه والمسجون في شق اتجاهات ثلاثة , وكتل من الوقت تخبطرأسه متوالية وذئبان ينهشان لحمه وقيود تقيد جسده , ونيران تحرق نفسه , وسراب يشغلفكره , ويأس يحتل قلبه وموت ينتظره , وجـهل يستعمر عقله , وجفاف أصاب عاطفته , وضياعالتف حاضره , خطيئة سادت ماضيه وهلاك تربع على مستقبله , وقيح وصديد ينبع من خلاياه , وطبول تقرع في أذنيه , وشعب كأنه مولاهم لكنهم خانوه , وعقم يلفه ويحيل كل رأي كل فكرة كل عاطفة إلى يباب , إلى صحراء قاحلة عطش يمحق جوفه , صليليسري في عظامه , وإرهاق أصاب أعصابه . عصر نفسه وركز فكرة أراد أن يتخيل فسحة يقيلفيها , وإذ به مرمي في بقعة صغيرة خالية , تصفد العرق من جبينه اختلى بأفكاره هلأنا بمأمن من وساوس تنخر فكره , ويظن بالله الظنون , وراح ينظر كالمرتقب الزبانية , لم يأت أحد لكنه ظل متوجساً أبصر نقطة سوداء أمامه اقتربت وبدأت تكبر وتظهر للعيان , إنه .. إنه , كان يمشي ببطء وقد أحنى ذيله للأمام , لون أسود تقشعر الأجساد منه , وتقسم جسده لأقسام كأنها دروع إنه عقرب أسود مخيف , ونال من الفزع كل منال , لكنفكره طمأنه بأن العقرب يقتل بضربة واحدة , الحمد لله , العقرب يمشي يبطئ عاودتهالوساوس وسلكت الشياطين كل منفذ إلى فكرة فقال في نفسه ماذا لو كانت له سرعة الصرصار وتحمله للضربات , ماذا لو كانت أرجله أطول وكان يقفز كالجرادة , ماذا لوكانت له أنياب أفعى وسمها , واقترب العقرب أكثر ونهض صاحبنا سريعاً رافعاً قدمهوكأنه يريد دهس حيوان كبير , استجمع قواه , سدد بصره وانهال بقدمه , فقفز العقربكجرادة خفيفة , وانهال عليه بضربات عديدة لكن العقرب مشى بسرعة وأظهر أنياباً يسيل عليها سم زعاف فخاف خوفاً شديداً وفر فرار الفأر من الأسد واختفى في البعيد وتناقلت الأجواء ضحكات مفعمة بالحيوية وأطل طفل صغير من بين الشجيرات وحمل عصا صغيرة وأخذيلهو بالعقرب ويحمله بطرفها ثم ضربه على جسده ضربة صغيرة فقتله وراح يلعب في أرجاءالأرض الواسعة شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً .


+++