أبو تراب اللغوي وكتابه الاعتقاب
الدكتورعبد الرّزّاق بن فرّاج الصّاعديّ
المقدّمة
الحمد لله حقَّ حمده، والصّلاة والسّلام على خير خلقه، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإنّ كثيراً من المتخصّصين في علوم العربية لا يعرفون عن أبي تراب اللّغويّ أو عن كتابه "الاعتقاب" إلا الشيء اليسير، وقد لا يعرفون عنه شيئاً؛ فهو من علماء اللّغة المغمورين على الرّغم من تقدّمه وعنايته الفائقة باللّغة، وإعجاب معاصريه به، وتوثيقهم إيّاه، وتلقّيهم كتابه الاعتقاب بالقبول والرّضا، وهو ككثير من علماء اللغة المغمورين الذين لم يواتهم الحظ ، فقصّر في ترجمته المترجمون، وأهمله أكثرهم ، ولم يكن كتابه أوفر حظاً منه فقد أتت عليه عوادي الزمان، فضاع فيما ضاع من تراث العربيّة.
ولقد قيض الله لأبي تراب من أبقى ذكره؛ بترجمة مختصرة نافعة، وحَفِظَ جلّ كتابه "الاعتقاب" بنقله نصوصاً كثيرة منه تُربي [1] على ثلثمائة نص، وهو الأزهريّ (370هـ) القائل في مقدمة معجمه الكبير "تهذيب اللغة" بعد أن ذكر أبا تراب وكتابه "الاعتقاب": "وقد قرأت كتابه فاستحسنته ، ولم أره مجازفاً فيما أودعه ، ولا مصحّفاً في الذي ألّفه، وما وقع في كتابي لأبي تراب فهو من هذا الكتاب" [2].
وقد عَرَضَتْ لي فكرة هذا البحث منذ سنوات مضت وهي جمع نصوص كتاب "الاعتقاب" من كتاب التّهذيب وغيره، ودراسته من خلالها، والترجمة لمؤلّفه أبي تراب ترجمة ضافية، فعرضت الفكرة على أستاذي الدّكتور محمّد يعقوب تركستاني فاستحسنها، وحثّني على المضيّ في إتمامها ، ثمّ حالت دون البدء فيه حوائل؛ منها ما وجدته في ترجمة أبي تراب من اضطراب في اسمه وغموض في حياته العلميّة؛ فأرجأت الشروع في الكتابة إلى حين التّمكّن من جلاء ذلك الغموض، فبقيت فكرة البحث كامنة في نفسي، تبرز كلّما قرأت كتاباً في التّراجم أو التّاريخ أو التّراث اللّغويّ القديم، حتّى تمكّنت بحول الله وقوته في هذا العام 1421هـ من كشف ذلك الغموض، وتصحيح الاضطراب، وجمع مادة الاعتقاب من مظانها الأصلية كـ "التهذيب" للأزهريّ وباقي معاجم اللّغة كـ "الصحاح" للجوهريّ، و "التكملة" و "العباب" للصّغاني "اللّسان" لابن منظور ، فبلغت النّصوص الّتي جمعتها خمسة وسبعين وثلثمائة نصّ لغويّ من نصوص كتاب الاعتقاب، بعد أن قرأت التّهذيب مرّتين ، وهي - في الحقِّ - أضعاف ما كنت أطمح إليه، وأكثر النصوص هي من الاعتقاب بمعناه الاصطلاحي؛ أي: الإبدال، وبعضها ليس من الإبدال، ولكنها من كتاب الاعتقاب لأبي تراب، فليس بالإمكان حذفها أو تجاهلها، ولا يضير ذلك أبا تراب، ولا يعيب كتابه، فهو كغيره من علمائنا القدامى ـ رضي الله عنهم ـ الذين يحرصون على الأشباه والنظائر، وقد يخلطون شيئاً بشيء؛ لغزارة حفظهم، ونزوعهم إلى الاستفاضة في جمع المادة، واتساعهم في مفهوم التأليف، فإن لم يكن ذلك من الإبدال فهو من اللغات، والحَدُّ بين الإبدال واللغات دقيق، وبعضهم يتسع في هذا الأمر فيجعل كل كلمتين متفقتين في الحروف إلا حرفاً واحداً ـ من الإبدال، مثل نَبَأَ ونَتَأَ، ولابِثٍ ولابَنٍ وثاقِبٍ وناقَبٍ.[3]
اسمه:
ثمّة غموض واضطراب في اسم أبي تراب اللّغويّ [4]، فهو:إسحاق بن الفرج أو محمد بن الفرج بن الوليد الشّعرانيّ أمّا كنيته فـ: "أبو تراب" ولا خلاف في هذا.
ويعدّ الأزهريّ ( ت 370هـ) من أقدم المصادر التي ترجمت لأبي تراب في مقدّمة كتابة "تهذيب اللّغة" الّتي ترجم فيها لبعض العلماء، وقد أسهمت نسخ هذا الكتاب المتناثرة في العراق وخراسان في ذلك الغموض والاضطراب، فهو "محمّد بن الفرج" في المقدّمة في بعض النّسخ القديمة الّتي اطّلع عليها ياقوت الحمويّ فيما نقل عنه الصّفديّ [5].
وهو في بعضها: "أبو تراب الّذي ألّف كتاب الاعتقاب" وهذا هو الّذي في الكتاب المطبوع المتداول[6].
ويشير إليه الأزهريّ فيما ينقله عنه من نصوص بثلاثة طرق:بكنيته، فيقول: "أبو تراب" [7]
أو يقول: "ابن الفرج" [8] أو باسمه، فيقول: "إسحاق بن الفرج" [9].
ويلاحظ أنّ نسخ التّهذيب لا تتفق في اسمه دائماً، فقد يكون في نصّ في بعض النّسخ: "أبو تراب" [10] ، فيكون في النّصّ نفسه في نسخة أخرى: "ابن الفرج" أو "إسحاق بن الفرج" وقد يكون عكس ذلك، أي: إذا قالت نسخة: "ابن الفرج" قالت نسخة أخرى: "أبو تراب".[11]
كتاب الاعتقاب
تمهيد: التّعاقب وما ألّف فيه
التّعاقب في اللّغة بمعنى التّتابع، وهو مصدر قولك تعاقب اللّيل والنّهار؛ أي: أتى أحدهما عقب الآخر[88].
ويراد به في الاصطلاح: اللّفظان المتّفقان في المعنى المرويّان بوجهين بينهما اختلاف في حرف واحد، كقضم وخضم، وجاسَ وحاسَ، ونَبَأَ ونَتَأَ، ويُسمّى أيضاً "الاعتقاب" [89].
وهو الّذي اشتهر عند علماء اللّغة بمصطلح "الإبدال اللّغويّ" وهو يختلف عن "الإبدال الصّرفيّ" فهو - أي: الإبدال اللغويّ - شائع وغير لازم ويقع في أكثر الحروف، وجمعها بعضهم في قوله: لِجَدٍّ صَرْفُ شَكِس آمنٍ طيَّ ثوب عزتِه[90]. وقيل إنه يقع في حروف الهجاء جميعاً [91] ، بخلاف الإبدال الصّرفيّ، فهو شائع لازم، ويقع فيه التّبادل بين حروف مخصوصة لعلّة تصريفيّة، وحروفه مجموعة في قولك: طويت دائماً[92]، ويزيدها بعضهم ويجمعها في قوله: أُجُدٌ طُوِيَتْ منهلا[93]، أو أنجدته يوم طال[94].
وهذا - أي الإبدال الصّرفيّ - نوعان أحدهما إبدال من أجل الإدغام، كإبدال لام التّعريف وإدغامها في بعض الحروف كالنّون والرّاء والدّال والتّاء مثلاً، وكالإدغام في اسَّمَعَ، وأصلها: استمع.
والآخر: الإبدال لغير الإدغام، وهو المراد عند إطلاق المصطلح عند الصّرفيّين، كإبدال تاء الافتعال طاء إذا وقعت بعد الصّاد في قولك اصطفى واصطبر واصطحب.
أما الإبدال اللّغويّ فهو أعم، إذ يشمل الإبدال الصرفي وغيره من اللغات، مما لا يلزم فيه الإبدال كما تقدم، وقد ألّفَ فيه جماعة من علماء العربيّة محاولين حصر ألفاظه على الطّريقة المعجميّة الّتي تقوم أساساً على جمع الألفاظ وتبويبها وشرحها ، وأكثرهم لا يشترط في الإبدال أو التعاقب تقارب المخارج بين الحروف المبدلة، كما يفهم من صنيع ابن مالك في كتابه "وفاق المفهوم" وأبي تراب في "الاعتقاب". ومؤلّفاتهم الّتي وصلت إلينا أو بلغنا ذكرها في هذا الفنّ هي على النّحو التّالي:
1- الإبدال:
لأبي عبيدة معمر بن المثنّى [95] ( 209هـ) وهو مفقود.
2- القلب والإبدال:
للأصمعيّ [96] ( 214هـ) وهو مفقود، نقل عنه القالي كثيراً [97].
3- القلب والإبدال:
لابن السّكّيت (244هـ) وقد طبع مرتين إحداهما سنة (1903م) بعناية أوغست هفنر والأخرى سنة (1398هـ) بتحقيق الدّكتور حسين محمّد شرف، وسمّاه "الإبدال".
4- الاعتقاب:
لأبي تراب ( ت 270 - 280هـ تقريباً ) وسيأتي الحديث عنه.
5- الإبدال والمعاقبة والنّظائر:
للزّجّاجيّ ( 340هـ ) نشر سنة (1381هـ) بتحقيق الأستاذ عزّ الدّين التّنوخيّ.
6- الإبدال:
لأبي الطّيّب اللّغويّ ( 351هـ) نشر سنة (1379هـ) بتحقيق عزّ الدّين التّنوخيّ.
7- وفاق المفهوم في اختلاف المقول والمرسوم:
لابن مالك (672هـ) وموضوعه الاعتقاب أو الإبدال اللّغويّ، وحقّق الكتاب في الجامعة الإسلاميّة سنة 1405هـ ونشر في المدينة سنة 1409هـ بتحقيق بدر الزّمان محمّد شفيع النّيباليّ.
8- وفاق الاستعمال في الإعجام والإهمال:
لابن مالك (672هـ) وهو رسالة صغيرة في الاعتقاب، ولعلّه مختصر من كتاب "وفاق المفهوم" المتقدّم ذكره، وله نسخة خطّيّة في مكتبة شهيد علي باشا 2677/2.
ويلحق بهذه المؤلفات ما كتب من أبواب الإبدال في بعض المصنّفات اللّغويّة أو الأدبيّة مثل أمالي القالي والمخصّص لابن سيده والمزهر للسّيوطيّ.
أما كتاب ابن جنّي "التّعاقب" الّذي أشار إليه في بعض كتبه [98] فليس من هذا الباب الّذي نحن فيه، بل هو في البدل والعوض. قال السّيوطيّ: "وقد ألّف ابن جنّي كتاب التّعاقب في أقسام البدل والمبدل منه، والعِوَض والمعوّض منه وقال في أوّله: اعلم أنّ كلّ واحد من ضَرْبَيِ التّعاقب - وهما البدل والعِوَض - قد يقع في الاستعمال موضع صاحبه، وربّما امتاز أحدهما بالموضع دون رَسِيلِهِ، إلا أنّ البدل أعمّ استعمالاً من العِوَض" [99].
أمثلة:
قال ابن الفرج: "سمعت خليفة يقول: للبيتكِواءٌ كَثِيرةٌ وهِواءٌ كثيرة، والواحدة كَوّة وهَوّة، وأمّا النّضر فإنه زعم أنّالهَوَّةَ بمعنى الكوّة تجمع هُوىً، مثل قرية وقُرىً"
روى ابن الفرج لأبي عمرو: يقال: مَقِسَتْنَفْسُهُ تَمْقَسُ فَهِيَ مَاقِسةٌ إذا أَنِفَتْ، وقال مرةً خَبُثَتْ، وهي بمعنىلَقِسَتْ"
قال أبو تراب: "سمعت شُجاعاً السُّلَمِيّيقول: لكع الرَّجُلُ الشَّاة؛ إذا نهزها، ونكعها؛ إذا فعل بها ذلك عند حلبها، وهوأن يضرب ضرعها لِتَدرَّ"
قال أبو تراب: "يقال: لاصَ عن الأمر وناص:بمعنى حادَ. وقال أبو سعيد اللحياني: أَلَصْتُ أن آخُذَ منه شَيئاً أُلِيصُإلاصَةً، وأنَصْتُ أُنِيصُ إِنَاصَةً؛ أي: أَرَدْتُ
روى أبو تراب لأبي عمرو الشّيبانيّ: يقال:"إبْزِيمٌ وإبْزِين، ويُجْمَعُ أبازين، وقال أبو دُواد أيضاً في صِفَةِالخَيل:
مِنْ كُلّ جَردَاءَ قَدْ طَارَتْعَقِيْقَتُهَا…وكلِّ أَجْرَدَ مُسْتَرخِي الأبَازِينِ
روى أبو تراب لأبي مالك: "المُدَمَّسُوالمُدَنَّس بمعنى واحد، وقد دَنِسَ ودَمِسَ".
وقال أبو زيد: "المُدَمَّس:المخبوء".
قال أبو تراب سمعت الخُصيبيّ [74] يقول:"مَرَدَهُ وهَرَدَهُ؛ إذا قَطَعَه وهَرَطَ عِرْضَهُ وهَرَدَهُ [75]، ومنأمثالهم: تَمَرَّدَ مَارِدٌ وعَزَّ الأبلَقُ، وهما حِصنان في بلاد العربغَزَتْهُمَا الزَّبَّاء، فامتنعا عليها، فقالت هذه المقالة، وصارت مثلاً لكُلّعَزِيز ممتنع، والمرِّيدُ الخَبِيثُ"
قال أبو تراب: "سَمِعْتُ العَبْسِيِّينيقولون: فَنَّش الرجل عن الأمر ، وفَيَّش؛ إذا خام عنه"
قال أبو تراب: "يقال للكثير:كَيْثَرٌ،وكَوْثَرٌ، وأنشد:
هل العِزُّ إلا اللُّهَى والثَّرا…ءُ والعَدَدُالكَيْثَرُ الأعظم
روى أبوتراب عن أصحابه: "أَصْمَقْتُ البابَ: أَغْلَقْتُهُ"
روى أبو تراب عن مُدرِك الجعفريّ: "مَرَطفلان فُلاناً، وهَرَدَه؛ إذا آذاه"