بيروت - مكتب الرياض :
خلال أسابيع قليلة تُقفل "مكتبة رأس بيروت" أبوابها لتلتحق بمكتبات لبنانية أخرى لقيت نفس المصير في السنوات الأخيرة. فقبل سنوات قليلة تحولت إحدى أكبر المكتبات المجاورة "لمكتبة رأس بيروت" إلى "سوبر ماركت". وتحولت مكتبات أخرى وفي بيروت بالذات، إلى محلات تبيع الألبسة. ولكن "مكتبة رأس بيروت" لن تتحول إلى مثل هذه المحلات، وإنما سيهدمها صاحب البناية ليبني مكانها بناية حديثة. وبالطبع لن يكون للمكتبة محل في بنايته الجديدة. فهي بناية سكن أو مكاتب. وصاحبة مكتبة رأس بيروت لن تستطيع أن تدفع ثمن محل من محلات البناية التي ستُنشأ. فالمكتبة إذن ستلفظ أنفاسها الأخيرة خلال أسابيع.
ولكن "مكتبة رأس بيروت" تختلف عن سواها من المكتبات. فهي مكتبة ثقافية أو ذات طابع ثقافي لا لأنها تضم كتباً وحسب، وإنما لأن الذي أنشأها باحث وأستاذ أكاديمي معروف هو الدكتور انطون غطاس كرم أحد أساتذة الأدب العربي في الجامعة الأمريكية ببيروت في حقبة الخمسينات من القرن الماضي. وبسبب وقوعها في "شارع بلس" المواجه للجامعة الأمريكية، كان من الطبيعي أن يكون أكثر روادها من أساتذة هذه الجامعة وطلابها مثل قسطنطين زريق وخليل حاوي ونبيه أمين فارس ومحمد يوسف نجم وكمال الصليبي وإحسان عباس ومنح الصلح وسواهم. وكان الأدباء والشعراء كثيراً ما يتلقون في زواياها ويعقدون فيها جلسات أدب وفكر ومناقشة حول أحدث الإصدارات. فإليها تردد وعلى مدى سنوات طويلة أدونيس ويوسف الخال وصادق جلال العظم وفؤاد رفقة ونجوى بركات وغادة السمان وحنان الشيخ وليلى بعلبكي وآخرون.
منذ ستين سنة إلى اليوم شكلت هذه المكتبة أحد معالم "شارع بلس"، وهو شارع لا يتجاوز طوله كيلومتراً واحداً، ولكنه شارع عميق التأثير في الثقافة العربية المعاصرة، فهو شارع الطلبة والأساتذة والمثقفين والجامعات، وهو بالتالي شارع تنوير وعقلانية ونقد علمي لا يرحم شيئاً. وقد شهد هذا الشارع إقفال عدة مكتبات في السنوات الأخيرة بسبب دوران "دولاب الزمن" الذي أجهز على هذه المكتبات لتقوم مكانها محلات لبيع الساندويش أو الخضروات على أنواعها، أو لتصوير المستندات وما إلى ذلك. يُضاف إلى إقفال هذه المكتبات، إقفال أشهر مطعم في "بلس"، وربما في لبنان والعالم العربي أيضاً، هو "مطعم فيصل" الذي لم يكن مجرد مطعم، بل كان نادياً ثقافياً وأدبياً وفكرياً وسياسياً من طراز رفيع. وللتدليل على أهمية "مطعم فيصل" نشير إلى الرئيس جمال عبدالناصر، في عزّه، كان حريصاً يومياً على أن يقرأ تقريراً مخابراتياً عمّا قاله رواد مطعم فيصل عنه وعن غيره بالطبع. والواقع أنه لو جُمع ما قيل في "مكتبة رأس بيروت"، وفي "مطعم فيصل"، من كلمات مستنيرة في هذا الشأن، أو ذاك، لألّف كتاباً لا يقلّ أهمية عن كتاب "الأغاني" للأصفهاني.
على أن مكتبة رأس بيروت لن تكون المكتبة الأخيرة التي تدخل في نزاع مرير مع الزمن. فهناك مكتبات أخرى كثيرة تعاني من شح الزبائن وإهمال الكتاب، منها "مكتبة بيسان" وهي إحدى أشهر مكتبات بيروت وتقع في آخر شارع الحمراء. فهي مكتبة تنتعش قليلاً في الصيف، بسبب توافد الخليجيين إلى لبنان، لتعود إلى موسم جفاف قاس في الشتاء. وهذه المكتبة - مثل سواها - تعيش في العادة على طلبات مثقفين يطلبون كتباً قديمة أو سابقة، نافدة. وقد يحتاج صاحب المكتبة إلى جهد كبير ليستطيع تأمينها لزبائنه. أما أن يدخل زبائن بلا حصر إلى هذه المكتبة، أو سواها، لشراء كتب، فهو مشهد كانت تقع عليه العين في بيروت قبل خمسين سنة، أو أكثر، من اليوم. أما اليوم، فوقوف المثقفين على المكتبات، شبيه بوقوف الشعراء الأقدمين على الأطلال.
ويروي أصحاب هذه المكتبات قصصاً وحكايات تثير الحزن كما تثير الفزع في النفس. فهم يقولون إن من السهل تحويل مكتباتهم المهجورة من الزبائن إلى محلات لبيع الألبسة والعطورات. فهذا يدر مالاً وفيراً عليهم ويحل مشكلتهم الاقتصادية الخانقة. ولكن المشكلة عندهم هي أن مهنة الوراقة اعتادوا عليها وتحولت إلى حالة عشق بالنسبة إليهم. ويجزم أحد أصحاب هذه المكتبات أنه قد تمضي أيام ولا يبيع من الكتب إلا عدداً قليلاً جداً لا يكفي ألف باء حاجة أسرته. وروى لي أحد أصحاب هذه المكتبات، وهو يتعاطى النشر أيضاً، أنه قبل عشر سنوات كان يطبع من الكتاب ثلاثة الاف نسخة، فأصبح عدد المطبوع منه الآن ألفاً، أو سبعمائة في أكثر الأحيان. فمهنة الكتاب تلفظ أنفاسها الآن، سواء من حيث النشر أو من حيث البيع اليومي. وهذا مؤشر خطير على حالة الفكر والثقافة والروح في المجتمع العربي الحديث.
المصدر