الابداع والحضارة ليسا مقصورين على الغرب
د. تيسير الناشف
الأمم المتحدة، نيويورك
لدى قطاعات كبيرة من الشعوب الغربية، بما في ذلك قطاعات كبيرة من صفواتها العلمية والفكرية والسياسية، شعور واعتقاد بالتفوق الاوروبي على غير الاوروبي. وترى هذه القطاعات ان الغرب هو مركز الاشعاع ومحور العالم من النواحي الثقافية والعلمية والحضارية والتكنولوجية، وان الاوروبي ارقى عقلا من غير الاوروبي، وان الاوروبيين اقوى واكثر ابداعا من غير الاوروبيين.
والحقيقة ان المعرفة وطريقة توليدها تتأثران بالخلفية القيمية والثقافية للشعب الذي تنشأ المعرفة في صفوفه. ولذلك فان المعرفة الغربية جاءت تعكس ذلك الشعور والاعتقاد الاوروبيين بالتفوق. وطريقة استعمال المعرفة تتأثر ايضا بتلك الخلفية. وبالتالي جاءت طريقة استعمال الاوروبيين للمعرفة متأثرة بتلك الخلفية والنظرة الاوروبيتين.
وكانت تلك النظرة احد العوامل الهامة في سعي اصحاب حركات فكرية وسياسية وادبية نشأت في الغرب الى ابراز الحيز الثقافي والعلمي والحضاري الذي تشغله شعوبهم على الخريطة الثقافية العالمية والى التأكيد القوي على هذا الحيز.
ووجه في البلدان الآسيوية والافريقية وفي بلدان امريكا اللاتينية وحتى في قطاعات معينة من المثقفين الغربيين نقد الى الطرح الغربي الذي مفاده ان الغرب محور النبوغ والابداع والاشعاع والحضارة في العالم.
ان من الصحيح القول ان عددا من مجتمعات آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية شابتها عيوب ولا تزال تشوبها، منها قدر كبير من الجمود الفكري والنزعة الذكورية الابوية والميل الى عدم اخضاع بعض المؤسسات والظواهر للفكر النقدي. وهذه عيوب وغيرها تستحق النظرة النقدية. غير ان من الصحيح القول ايضا ان هذه النظرة الغربية تعتورها عيوب منها ضيق افقها العرقي او العنصري واهمالها لتأثر الحضارة الغربية بالحضارات الوافدة من قارات اخرى. والحقيقة ان من الممكن تخليص الفكر من هذه العيوب او تقليلها عن طريق الاقرار بعالمية الظواهر الفكرية سواء اكانت تلك الظواهر سلبية او ايجابية. فالفكر البشري كله من الغرب ومن القارات الاخرى تعتوره عيوب منها انه ناقص، ويمكن تحسينه دائما. غير ان الفكر البشري يختلف بعضه عن بعض في مدى شيوع او قوة صفة من صفات ذلك الفكر. فكما ان فكر المجتمعات الشرقية يتسم بقدر من الجمود او الانغلاق فان فكر المجتمعات الغربية يتسم بهذه الصفة ايضا.
ان من الخطأ القول، على سبيل المثال، كما يقول فوكوياما الامريكي الياباني التحدر، ان حركة التاريخ البشري قد توقفت بانهيار الاتحاد السوفياتي وبانتصار النظام الرأسمالي على النظام الاشتراكي. حركة التاريخ لم تتوقف. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي توجد عوامل غير متجانسة ومتعارضة تعتمل في المجتمع البشري العالمي. ومن الخطأ قول صموئيل هننتون، استاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد الامريكية، ان المستقبل سيتسم بالصراع بين الحضارات المختلفة، وفي المقام الاول الصراع بين الحضارتين الاسلامية والغربية. بيانه هذا بيان تكهني لا توجد دلائل على صحته.
وتعاني نسبة كبيرة من شعوب العالم النامي من ظواهر الفقر والمرض والامية. وتواجه هذه الشعوب مشاكل اجتماعية وثقافية حادة. ويمكن للفكر النقدي ان يسهم اسهاما كبيرا في معالجة هذه الظواهر والمشاكل. وبالنظر الى ان المعالجة النقدية لهذه المشاكل والظواهر من شأنها ان تتعلق بقضايا الانجاز والرقي والتفوق والابداع في مجالات الفكر والثقافة والحضارة – وهي المجالات التي يقول غربيون انهم تفوقوا فيها – تردد قسم من الدارسين من العالم النامي في القيام بهذه المعالجة او امتنعوا عن ذلك او خصصوا وقتا وجهدا اقل لهذه المعالجة. فالفكر النقدي المخلص النابع من تربة الشعوب النامية اتهم اصحابه او قد يتهمون احيانا بالقيام بالدس الفكري او بانهم يتأثرون بالفكر الغربي الذي قد لا يكون منصفا، وبانهم يدرون او لا يدرون بانهم متأثرون بهذا الفكر. وكان ذلك احد العوامل التي ادت الى انكماش اصحاب الفكر النقدي في بلدان العالم النامي عن الافصاح عن فكرهم وقلة حماسهم لاعمال هذا الفكر، مما افضى الى اضعاف الفكر السياسي والاجتماعي الذي يتصدى على نحو نقدي لمشاكل بلدانهم.
واحد المجالات التي عنيت بها الدراسات المتعلقة بالتطورات الحضارية مسألة تعرض الحضارة او عدم تعرضها للتأثيرات الخارجية. يرى عدد من الكتاب الغربيين ان الحضارة الاوروبية تطورت تطورا انغلاقيا او قاريا، بمعنى ان ذلك التطور لم يحدث الا داخل اوروبا وان اوروبا في تطورها الحضاري لم تتأثر بحضارات شعوب غير اوروبية، وان هذه الحضارة، بالتالي، حضارة لم يوجدها سوى الرجل الابيض وان اساس هذه الحضارة ليس سوى اساس الحضارتين اليونانية والرومانية.
وهذه الرؤية الغربية خاطئة. واعتقد ان من الجلي انها تنم عن النظرة الاوروبية التي حاولنا وصفها، وهي النظرة التي تعتبر الغرب مركز ومحور الاشعاع والحضارة والعلم. لقد قامت علاقات ثقافية وفكرية بين شعوب شواطئ البحر الابيض المتوسط وتأثيرات ثقافية وفكرية وحضارية متبادلة بين تلك الشواطئ، ومنها شواطئ اليونان وايطاليا واسبانيا وفرنسا والجزر اليونانية وصقلية، وشواطئ شمال افريقيا وجنوب غرب آسيا، أي شواطئ المغرب والمشرق العربيين.
ويرى عدد من دارسي التلاقح الحضاري، في اعتمادهم على نتائج بحوث اجتماعية ولغوية واثرية، ان الحضارة اليونانية ذات اصول آسيوية ومصرية افريقية. ويرى مارتين برنال الذي درس تاريخ العلاقات بين الحضارة اليونانية والافريقية ان اصل الحضارة اليونانية مصري افريقي.
وكان من الطبيعي ان نشأ تأثير وتأثر متبادلان بين ثقافات الشعوب الواقعة على شواطئ البحر الابيض المتوسط. فالقرب الجغرافي بين الشواطئ الآسيوية والافريقية والاوروبية لهذا البحر سهل حدوث التأثيرات الثقافية المتبادلة. وبالنظر الى ان نشوء الحضارة المصرية وحضارات الاشوريين والكلدانيين والكنعانيين سبق نشوء الحضارة اليونانية، في الاتصالات الحضارية بين شعوب شمال افريقيا وجنوب غرب آسيا والشعوب الاوروبية المطلة على البحر الابيض المتوسط كانت الحضارتان اليونانية والرومانية متأثرتين بالحضارات الآسيوية والافريقية. وذلك يعني ان الحضارة الاوروبية لم تكن وليدة اوروبا وحدها.
والخطأ الذي ارتكبه ويرتكبه الذين يعتبرون اوروبا المصدر الوحيد للحضارة الاوروبية هو تصورهم الذي يتسم بالضيق ان الحدود الجغرافية القارية هي المحدد الوحيد للتأثر والتلاقح الحضاريين. وفي الحقيقة ان التأثير والتلاقح الحضاريين لا يتحددان – كما اسلفنا – بعامل الانتماء القاري فقط، ولكن ايضا بعامل الموقع الجغرافي وايضا بعامل الاتصالات والعلاقات التجارية. ولو كان التأثير والتلاقح الحضاريان يحددان بعامل الانتماء القاري فحسب لما كانت تأثيرات متبادلة قد نشأت بين الحضارات في شتى القارات، مثلا بين حضارات آسيوية وافريقية واوروبية. وعلى الرغم من انتماء اليونان وروما والبلدان الاسكندنافية الى نفس القارة فان العلاقات التجارية والتأثيرات الفكرية والحضارية بين اليونان وشعوب آسيا وافريقيا المطلة على البحر الابيض المتوسط طوال قرون كثيرة كانت اقوى من تلك التي كانت قائمة بين اليونان وشعوب اوروبية تقيم في اقصى الشمال الاوروبي.
ان قول القائلين الغربيين بان الحدود القارية هي المحدد الوحيد للتأثر والتلاقح الحضاريين عبارة عن اعادة قراءة للتاريخ تتفق مع نظرتهم الايديولوجية الحالية التي ذكرناها، وهي تخدم تلك النظرة، وهي النظرة المتمثلة في ان اوروبا مركز او محور العالم من ناحية العلم والابداع والحضارة. غير ان التاريخ في تطوره لا يأخذ هذه النظرة في الاعتبار لان للتطور التاريخي عوامل غير عامل الانتماء القاري. وهذا التطور لا يراعي "الانا" الايديولوجية الاوروبية او الغربية ولا يراعي "هم" الايديولوجية الاوروبية او الغربية. فهذا تقسيم لم يراعه التطور التاريخي. انه تقسيم مصطنع وهمي له دلالاته العرقية الايديولوجية. والقول في الوقت الحاضر بقصر منشأ الحضارة الاوروبية على اوروبا عبارة عن اسقاطات ايديولوجية عرقية ضيقة الافق على تاريخ اوروبا وتاريخ العلاقات بين اوروبا وشعوب غير اوروبية.