سقط نظام بن علي في تونس وتوقفت الأنفاس مشدوهة أمام هذا السبق الذي تجسد بإرادة شعب أراد الحياة، سقط نظام بن علي وحقق التونسيون المعجزة و طرب التوانسة وطربت الشعوب العربية لطربهم و تحقيقهم ما كان يبدو مستحيلا، وطرح السؤال؟ هل ما حدث في تونس قابل للتكرار في بلدان عربية أخرى؟.وهل اتعظ الحكام العرب من مصير بن علي.
قد فضح سقوط نظام بن علي التناقض الرهيب بين ما هو معلن وما هو واقع في تونس ومثله عموم الدول العربية. فقد كانت تونس تصنف كأحسن اقتصاد لدولة عربية لا تملك محروقات ووضع شعبها و مستواه التنموي والمعيشي من أفضل ما يمكن نسبة للشعوب العربية الاخرى، لكن في غياب الشفافية والحقيقة تبقى الصورة البراقة ابعد ما تكون عن الواقع المتناقض وان الكرامة لها صوت مثله مثل صوت الجوع، فلا يمكنك ان تطعمني خبزا وتخنقني وتمتهني و تخنق حريتي.
قد لا يحتاج الأمر لكثير من التمحيص في ان كل الشعوب العربية تخضع تحت حكم نخب تسلطية ايا استمدت شرعيتها، ملكية كانت او ثورية او إقطاعية و ان العرب هم الوحيدون الذين بقوا خارج التاريخ أمام كل التحولات التي عاشتها اغلب مناطق المعمورة خصوصا مع انحسار المد الشيوعي وانتهائه سواء في أوربا الشرقية وآسيا و أمريكا اللاتينية وإفريقيا. وبقي العرب مغيبين عن هذه التحولات. رغم فشل نظمها في كل المجالات سواء اجتماعية او اقتصادية او سياسية بل وحتى معاركها العسكرية ضد العدو(لا زالت بعض النظم تغتصب إرادة شعوبها بدعوى ذلك). وان هذه النظم بمحاربتها للديمقراطية وحقوق شعوبها في المواطنة و التمسك بالحكم قتلت الإرادة في شعوبها و دفعت بها إلى واقع مزر منغلق ويائس الى حد إضرام النيران في الأجساد .
قد لا يختلف اثنين حتى من يعادي الديمقراطية من منظور إيديولوجي او ديني أن الديمقراطية في الحالة الغربية هي سبب تطور و تأطير هذه الشعوب و المجتمعات، فالأحزاب مثلا في الديمقراطيات الغربية و التنافس على السلطة يكون بإبداع برامج وأفكار تخدم مجتمعاتها وشعوبها فان نجحت في ذلك بقيت في الحكم وان فشلت أزيحت بإرادة محكوميها وهذه الآلية تؤدي بالنتيجة الى صعود الإبداع و المبدعين الذين تقوم بهم الأوطان وتصنع بهم الحضارات.
اما في واقعنا العربي عامة فإغلاق الافق السياسي واستحالة تحقيق التداول على السلطة وإحكام أصحاب القرار على كل ما يؤدي الى ذلك، ادى الى بروز طبقة سياسية يائسة او تابعة او مترددة لا حراك فيها و تسلط نخبة متفردة بالحكم لا تشعر بحاجة الى الإبداع والتطوير ما دامت السلطة و الثروة بأيديها.
وقد فضحت الأزمات التي تعيشها بعض الدول العربية ان هذه النخب بسبب استئثارها بكل شيء لا يوجد ما يربطها بمجتمعاتها لانعدام وسائط مجتمعية ذات مصداقية من مؤسسات و أحزاب و منظمات ونخب، ، فلا برلمانات ذات مصداقية ممثلة للشعب، ولا أحزاب سياسية حقيقية فاعلة، ولا منظمات مجتمع مدني ذات حراك، على عكس الدول الغربية التي تقوم فيها الدولة على مؤسسات هي من يسير الحال العام للأمة على أساس فصل تام للسلطات مما يكفل ضمان الحقوق واستمرار حركية المجتمعات على كل المجالات. فتكون برلمانات عبارة عن ممثلي للشعب ،وأحزاب سياسية يكون تمثيلها وفقا لصدقية برامجها و منظمات مجتمع مدني حرة وفاعلة، وهاهي وثائق ويكليكس فضحت لنا عن نظم حكم في وطننا العربي تتحكم في شعوبها بسلوك عصابات و هي مستعدة للتفريط في سيادة أوطانها و كرامة محكوميها في سبيل الحفاظ على استمرارها.
لقد أثبتت التجربة التونسية و نجاحها في زمن قياسي ان قدر أن واقعنا محكوم بهذا الانغلاق الأبدي وان كانت الجملة في أصلها منافية لحتمية التاريخ (الذي التغير فيه هو السنة )هو غير ممكن فالشعوب قادرة على دفع التكلفة مهما غلت، وان الشعوب العربية ليس مقدرا لها ان تتحمل واقع القهر والاستبداد وانسداد الأفق وليست مجبرة على التعايش مع هذا الواقع المفروض عليها مع هذه النخب الفاسدة المستبدة وان طرق التغيير ليست مستنفذة وان علت كلفتها، فقد آن الوقت لتقول الفكرة كلمتها ويدخل العرب مثل غيرهم التاريخ الذي همشوا منه زمنا وينتزعوا حقهم في الحرية و في أوطان حررت معظمها بدماء شعوبها.
وعلى النظم أن تعي أن الاستبداد والإقصاء وتكميم الأفواه وتدجين النخب والأحزاب لن يفيدها وآن لها ان تستجيب للتحولات التي يفرضها منطق العصر في إتاحة الخيارات للتغيير السلمي عبر الطرق الديمقراطية و المسارات الانتخابية، وإعطاء الفرصة الحقيقية والمتكافئة لشركاء الوطن ليدلوا دلوهم فيه، وإلا فستكون عرضة لزلازل وقلاقل وثورات لن تكون بقادرة على احتوائها هذه المرة. لأن الواقع والمفاهيم قد تغيرت. فليتعضوا بمصير بن علي، الذي لم تستطع ان تضمنه كل من حليفتاه فرنسا وأمريكا ولفظتاه مثلما لفظته كل الأمم المتحضرة التي كانت تستغله لتحقيق مصالحها.
فهل تتعلم الدرس وتسعى صدقا إلى تسويات تاريخية شجاعة مع شعوبها هي الضمانة الحقيقية لها ولأوطانها تكون أولا في إتاحة المشاركة بدل النفور من شريك الوطن، ويبدأ في مشاريع إصلاح سياسية ذات مصداقية تقوم على فصل السلطات واحترام آلية التداول على السلطة و تحرير الفضاء السياسي والإعلامي لتحويل حراك شعوبها و طاقته إلى إبداع و استثمار ذلك في إنتاج فكر سياسي عربي جديد يكون نواة لمشاريع نهضوية تكون أملا في تطورنا الحضاري لما تستحقه هذه الشعوب التي دفعت ضريبة تحررها من المستعمر الكلفة العالية وهي مستعدة لتحمل أضعاف تلك الكلفة من اجل التغيير.
فشكرا للتوانسة.