البارود / المدفع .. اختراع اسلامى
( ذات ليلة ، تقدم المماليك بآلة من الآلات فظيعة ؛ لإحداث الضرر والأذى ، ووضعوها قبالة قاذفات الحجارة التى كان يحرسها فى تلك الليلة السير ( والتر دى كورنيل ) ، وأنا .. ولقد أطلقوا من هذه الآلة كميات هائلة من النار الإغريقية ، غير أنها كانت أفظع ما رأت عينى على الإطلاق ، وعندما شاهد زميلى سير ( والتر ) هذا السيل المنهمر من النيران ، صاح قائلا :
ـ أيها السادة لقد ضعنا جميعا ولا مفر لنا .
وأما هذه النار ؛ فكانت كالبراميل المشتعلة ، وفى خلفها ذيل طويل ، وأما الصوت الذى كانت تحدثه عند انطلاقها فكأنه الرعد ، وكانت تشق الهواء كأنها تنانين تطير فى الهواء ، تضيىء فى ظلمة الليل ضوءا قويا حتى لقد كنا نرى الأشياء فى خيامنا ؛ وكأننا بالنهار تماما .
وقد أطلقوا من هذه الآلة ثلاث مرات فقط فى تلك الليلة ، وكان ملكنا الطيب ( لويس ) فى كل مرة يسمع فيها هذه الطلقات يركع على الأرض ، ويتجه إلى السماء باسطا ذراعيه ، والدمع ينهمر من عينيه مدرارا على خديه ، ويقول :
ـ أيها الرب عيسى المسيح ، احمنى وجميع من معى .. ) .
هذه ليست مقطعا من أحد أفلام الأكشن الأمريكية ، ولا هى فقرة من قصة حربية مثيرة .. بل هى أحداث جرت بالفعل على أرض مصر ، أثناء إحدى معارك المسلمين والصليبيين ، خلال محاولتهم غزو مصر بقيادة لويس التاسع ( 1249 م ـ 1250 م ) ، حكاها أحد قادة الحملة اسمه ( جوانفيل Joinville ) .. وهو يعتبر أقدم النصوص الأوروبية التى تشهد بإستخدام المسلمين للبارود والمدفع فى معاركهم الحربية ضد الصليبيين .
الأمر شائك ومُخْتَلَفٌ فيه .. وحتى هذا النص الذى كتبه شاهد عيان عاصر الأحداث ، لم يسلم من تشكيك البعض فيه .. وكان موضع خلاف بين الباحثين .. فقد ذهب كل من ( فرموكى Romocki ) و ( هايم Heime ) و ( بارتنجتون Partington ) إلى أن المستعمل ليس بارودا .. بينما ذهب المستشرق جوستاف لوبون ، والأستاذ جلال مظهر ؛ إلى أن المادة المستعملة كانت هى البارود .. والحقيقة أن ( النص ) الأوروبى يحمل وصفا مشابها للبارود ، وهو ما يؤكد أن العرب المسلمين استخدموه فى حروبهم .. والحق ما شهدت به الأعداء ، كما يقال .
وأما أول مصدر عربى يذكر كيفية تحضير البارود واستخدامه ، فكان كتاب يرجع تاريخه إلى عام 1280 م ، للعالم العربى الحسن الرماح ( نجم الدين الأحدب ) المتوفى سنة 1294 م ـ 1295 م تقريبا ، والكتاب اسمه ( الفروسية والمناصب الحربية ) ، وهو محفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس ، فى مخطوط من نسختين ، وفيه شرح طريقة تنقية نترات البوتاسيوم ، ووصف للمرة الأولى آلة الطوربيد ( المدفع البدائى ) ووصفها بأنها ( بيضة تخرق وتحرق ) ، بل ورسم صورة لها ؛ قام بنشرها الألمانى ( روموكى Romoki ) فى كتاب عن المفرقعات ، وذكر الحسن الرماح فى كتابه أنه يحتوى على ( جميع ما هو ضرورى للأساتذة ورجال الحرب والنبلاء والصناع ، وأنه فى الحقيقة للعمليات العسكرية ) .. وأن وسائل الحرب التى يشرحها من أجل تقدم الإسلام .
وقد أرجع الكثير من الباحثين الغربيين أن العرب قد عرفوا هذه الخواص قبل حسن الرماح ، منهم ( ستلمان J . M . stillman ) و ( برثلوت Borthelot ) .. بينما شكك فى ذلك باحثون آخرون حاولوا النيل من حسن الرماح ذاته ، مثل : ( هايم Hime ) الذى قال عن حسن الرماح ( إنه لا يعرف شيئا عن المتفجرات ) و ( بارتنجتون Partington ) الذى قال عنه أنه ( لا يقول شيئا واضحا أو محددا حول الموضوع ) ! والمراجع للكتاب المذكور ، يرى أن حسن الرماح شرح تفصيليا طريقتى تحضير البارود ووضعه فى المدفع ، بل وطريقة صنع المدفع أيضا .
وإذا كان بعض الباحثين الغربيين قد شكك فى النص الأول الذى كتبه أحد قادة الحملة الصليبية على مصر ، وادعوا بأن المستعمل فيها ليس بارودا .. فقد أورد ابن خلدون ( 732 هـ ـ 808 هـ ) وصفا لمعركة حربية أخرى تثبت استخدام العرب المسلمين للبارود فى معاركهم ، دارت رحاها حول مدينة ( سلجماسة ) بالمغرب العربى حتى تم فتحها ، على يدى السلطان ( أبى يوسف ) .. ذكر ابن خلدون خلال وصفه للآلات والمعدات التى اصطحبها السلطان معه ، منها آلة سماها ( هندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانة أمام النار الموقدة فى البارود .. ) وهذا يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن العرب المسلمين كانوا على علم بالبارود والمدفع ( كآلة اطلاق ) منذ القرن السابع الهجرى / الثالث عشر الميلادى .
خلاصة الأمر أن الباحثين لا يختلفون فى أن أول من استعمل البارود ( نترات البوتاسيوم ) هم الصينيون ؛ فى صنع الألعاب النارية .. لكن الخلاف بينهم يكمن فى أول من استعمله كقوة دافعة فى المدفع ، لدفع كرات الحديد فى المعارك الحربية .. أقدم نص عربى يوضح خطوات تحضير البارود يرجع لعام 1280م للحسن الرماح ، بينما هناك نصوص أوروبية تسبق هذا التاريخ ، وهذا هو ما أدى إلى ادعاء بعض الباحثين بسبق الأوروبيين فى هذا الأختراع .. لكن ما لا يعرفه الكثيرون منا هو أن العلماء الأوروبيين الذين ينسب لهم هذا الأختراع تأثروا بشكل مباشر بالكتابات العربية المترجمة من اللاتينية فى هذا المجال .. فقد نقلت بعض المصادر أن أقدم نص أوروبى ارتبط اسم صاحبه باختراع البارود هو لـ ( روجر باكون R . Bacon ) ـ ( 1214 ـ 1292 م ) فى كتابه ( Opus Tertium ) حيث ذكر فيه أن البارود يستخدم فى صناعة ألعاب الأطفال ، وبين طريقة تحضيره عام 1242م ، وظهر من الباحثين من شكك فى ذلك ، ولم يُخْفِ هو نفسه تأثره بالعلماء المسلمين والحضارة العربية الإسلامية فى كتابه .. وذهب المستشرق ( جوستاف لوبون ) إلى أن وصف ( روجر باكون ) لطريقة تحضير البارود : ( مقتبس من العرب ، كجميع المركبات الكيمياوية فى القرون الوسطى ) .
وكان أيضا من أقدم النصوص الأوروبية التى تصف البارود وطريقة تحضيره ، تنسب لشخص مجهول ، اسمه ( ماركوس كاراكوس Marcus Craecus ) الذى أختُلف حول مولده ووفاته ، فى كتابه ( Liber ignium ) حيث وصف فيه المواد المحرقة والمتألقة والنار الاغريقية والمتفجرات التى تحتوى على نترات البوتاسيوم ، وقال فى كتابه إنه ( متأثر بالحضارة العربية الإسلامية ) كما أثبت الباحثون هذا التأثر .. من بينهم المستشرق ( جورج يعقوب ) ، الذى قال فى كتابه ( أثر الشرق فى الغرب ) : ( ان كاراكوس كان من أبناء القرن الثالث عشر ، وأنه اهتدى لهذا المركب حوالى عام 1250 م وتحت التأثير هولميارد العربى ) وكذلك ( هولميارد Holmyard ) فى كتابه ( Chemistry makers of ) بقوله : ( يظهر أنه ـ أى كتاب كاركوس ـ مترجم من العربية ، ولكن لا يعرف الأصل العربى على أى حال ) !
وتبقى شخصية ( برثولد شوارترز Bertholdu Schwartz ) الأوروبية ، والتى ينسب لها الإستخدام الأول للبارود فى أوروبا .. وهى شخصية اختلف الباحثون فى تحديد زمنها أيضا ... ففى الوقت الذى حدد فيه ( بنيامين روبنس Bengamin Robins ) العام 1320 م كسنة لولادة شوارتز ، فإن أغلب المؤرخين ـ ومنهم ( بارتنجتن Partington ) ـ يجمعون على أن شوارتز ولد عام 1380 م .. بل هناك من شكك فى شخصية الرجل واعتبره شخصية وهمية ، مثل المؤرخ ( كلفن Clephan ) الذى قال بأن ( شوارتز شخص خيالى اخترع من قبل مؤلفين ألمان ، رغبة منهم أن يكون البارود والمدفع من اختراعهم ) .
وفى الوقت الذى ذكرت المصادر ـ الأوروبية ـ أن العرب استخدموا البارود فى قتالهم ضد الصليبيين ؛ أثناء حملة لويس التاسع على مصر عام ( 1249 / 1250 م ) ، وأن أقدم توثيق عربى لطريقة تحضير البارود ووصف للمدفع ؛ ترجع لعام 1280م للحسن الرماح .. تتفق نفس المصادر أن أول استخدام فعلى للبارود فى الحروب الأوروبية جرى فى معركتى ( كريسى ) عام 1346 م ؛ ( فور مينى ) عام 1455 م ، بين الانجليز والفرنسيين .. حيث خسر الجيش الفرنسى اثنى عشر قتيلا ، بينما تجاوزت خسائر الانجليز الخمسة آلاف قتيل ، وأن أقدم رسم أوروبى مخطوط للمدفع يرجع إلى عام 1326 م للمؤلف ( ولترده مليمير ) محفوظ بأكسفورد .
اذن .. فما هى المشكلة ؟ هكذا تساءل الباحث العراقى الأستاذ / صبيح صادق فى كتابه ( صور حية من تراثنا العلمى العربى ) ، فى ختام بحثه حول الموضوع .. حيث تبين له أن هناك نصوصا أوروبية سبقت الحسن الرماح ، رجح الباحثون أن العلماء الأوروبيين الذين ينسب لهم هذا الاختراع ؛ نقلهم له عن العرب .. واستدل أيضا بدليل آخر : وهو استخدام العرب الفعلى للبارود فى حروبهم ، وتسائل سيادته : هل من المعقول أن تخترع أوروبا للبارود قبل العرب ، ثم يستخدمه العرب قبلهم ؟ وخلص فى نهاية بحثه إلى أن الصينين هم أول من استعمل ملح البارود ( نترات البوتاسيوم ) فى صنع الألعاب النارية ، وأن هناك الكثير من الدلائل التى تشير إلى استخدام العرب المسلمين للبارود فى القتال ، بدليل تأثر العلماء الأوروبيين الذين ينسب لهم هذا الاختراع بالحضارة العربية الإسلامية ، وبدليل استخدام العرب للبارود فى الحروب ـ كما هو ثابت بالوثائق والنصوص ـ قبل أوروبا وبشكل عملى ، وبشهادة الباحثين الأوروبيين أنفسهم .. منهم : ( أ. ل . سيديو Sedillot ) الذى قال فى كتابه ( تاريخ العرب العام ) : ( اطلع أناس منا على بعض العبارات المبهمة ، فخيل إليهم أن الصينيين عرفوا استعمال تلك المخترعات من زمن قديم ، فظنو امكان انتزاع شرف تجهيز أوروبا بها من العرب مقترفين ظلما عظيما ) .. و ( فيليب حتى ) فى كتابه ( تاريخ العرب ) : ( الظاهر أن البارود اخترع إما فى سورية أو فى أوروبا اللاتينية ، كما ترجح ذلك فى آخر هذه الحقبة ، أما بنسبة اختراعه إلى الصين فلا دليل يؤيدها ) .. وبشهادة الأستاذ جلال مظهر فى كتابه ( أثر العرب فى الحضارة الأوروبية ) : ( تحت أيدينا مؤلفات عربية أصلية واضحة من القرن الثالث عشر تثبت أن العرب كانوا أول من أعطى وصفا لطريقة تنقية نترات البوتاسيوم بوضوح وإيجابية ) .
وكما نرى .. المشكلة تبدو شائكة ، تحكمها حسابات الأهواء والمصالح .. ولا يجب أن ننكر وجود منصفين أعادوا الحق إلى نصابه واعترفوا بفضل حضارة العرب الإسلامية على الغرب والعالم ، وسبقهم له فى شتى المجالات العلمية .. لعلنا قصرنا فى توثيق ابتكاراتنا كشأننا دائما ، أو لعل الحروب الصليبية الطويلة والحملات المتكررة على أمتنا آتت أكلها ، فنقلت إلى بلادهم الكثير من منجزاتنا ، حتى لم تدع وراءها أثرا .. أو لعله السطو الغربى غير المبرر على المكتبات الإسلامية فى الأندلس بعد سقوطها .. وأيَّا كانت نتيجة الخلاف بين الباحثين والمختصين ؛ ندع الحكم النهائى والفاصل فى هذه المعضلة للتاريخ ، وعلينا أن نوحد صفوفنا ونثق فى قدراتنا ونبدأ من جديد كخير أمة ، تقف على أرض صلبة وتستند لتاريخ مشرِّف .. وهذه حتمية يقررها الواقع وتفرضها الظروف الدولية الجديدة .