(14 )
*الأتوبيس .. والركوبة الملاَّكي!*
..............................................
حينما وصل إلى القاهرة بمفرده ـ ليُقدِّم أوراقه إلى الجامعة تذكّر قول أبيه له:
ـ "خذ بالك من السيارات العامة في مصر، حذارِ أن تُسرق، أو تُضَيِّع نقودَك".
أنزلته سيارة الأجرة التي ركبها من ديرب نجم في ميدان "أحمد حلمي"، هاله الزحام الذي رآه، وأخافته كثرةُ السيارات.
ولأن هذه هي المرة الأولى التي يجيء بمفرده فيها إلى "أم الدنيا" فقد كان حذِراً؛ صحيح أنه جاء إلى القاهرة مرات قليلة مع والده لزيارة آل البيت ـ رضي الله عنهم ـ سيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة. وصحيح ـ أيضا ـ أنه جاء منذ أربعة أعوام ليكشف عند طبيب مشهور عن علة أصابته، وأرّقت أُمه يومها لدرجة أنها قالت لأبيه: إنها مُستعدة لبيع قيراط أرض (من قيراطيها اليتيمين .. رحمها الله) لتُعالج ابنها الوحيد! ولكن الصحيح (قُل الواقع الذي لا مفر منه) أن أباه تزوّج، ومشغول بالغندورة الصغيرة، وتركه لأول مرة يُسافر بمُفرده! هل هذه مقدمة لأيام الجامعة بنكدها وغُربتِها؟
قالوا له في ميدان رمسيس ـ بعد أن عبر نفقاً مُظلما تحت القطارات التي تنقل البشر من أرجاء مصر المحروسة إلى القاهرة:
ـ لابد أن تركب الأتوبيس رقم (9) أو (9) بِشرطة لأنه هو الذي يمر على شارع المساحة بالدُّقي حيث يوجد "مكتب التنسيق"، وعليه أن يسحب الأوراق قبل الظهر، ثم يُعبِّؤها باختياراته ويقدِّمُها للمكتب مرة ثانية في الخامسة مساءً، ويركب قطار الخامسة والنصف إلى الزقازيق، أو الحافلة المتوجهة إلى دمياط في السادسة حتى تُوصِّلُه إلى ديرب نجم.
ولأنه يخاف على أوراق الثانوية العامة التي حصل عليها بتسع وثمانين في المائة، ويخاف على الورقة بخمسة جنيهات (كاملة) التي أعطاها له أبوه بعد أن حاسب سيارة الأجرة التي تُقلُّه إلى ميدان أحمد حلمي، فقد وقف ساعة كاملة ينتظر حافلةً فيها مكان لقدميه. تبين بعد أن مرَّ به أكثر من عشرين حافلة تحمل الرقم (9) أو(9) بشرطة. تيقَّن أنه ينتظر المستحيل!!
قال لنفسه: "فلتحاول أن تركب مثل خلق الله" ، ورغم الزحمة والصيف الخانق في العاشر من يوليو فقد استطاع أن يجد مكاناً في الحافلة المليئة بالشباب، والشيوخ، والنسوة، والبنات المنزويات وسط هذا التلاحم الخانق! بيده اليسرى ملف أوراق الثانوية العامة، وبيده اليمنى يتحسس على جيب بنطلونه!
ووصل أخيراً إلى محطة المساحة، وكان قد طلب من عجوز تجلس بجوار الشباك أن تنبهه عندما تجيء المحطة. يبدو أنها قد نبهته مُتأخرة فلم يستطع الوصول إلى الباب إلا بعد محطة كاملة، ولعل هذا كان من تصاريف القدَر الجميلة التي يحمدُها، فقد أعطته فرصة لتحريك أقدامه التي ظن أنها قد أصابها العطب في زحام الحافلة، وكانت فرصة ليُعيد هندمة ملابسه التي ضاع أثرُ المكواةِ عنها، وأن يُدخلَ قميصه في البنطلون، وأن يحمد الله على أنه نزل من الحافلة سالماً، لم يفقد يدا أو رجلا!
وفكَّر كيف كان حماره الحصاوي المُطهَّم" يقطع المسافة من العصايد إلى ديرب نجم في ساعة زمن ـ في البرد أو الحر لا يهم ، فحكايات زميله الأثير خليل تدخل قلبه دون استئذان، ويمر الطريق كأنه خطوات معدودة!
كانت حكايات خليل تسبر أجواء تشبه حكايا ألف ليلة وليلة التي قرأها في كتاب أبيه القديم الذي يُخبِّؤه تحت مرتبةِ السرير! كان في الأعوام الستة الماضية ـ على امتداد سنوات الدراسة في المدرستين الإعدادية والثانوية بديرب نجم يحلم حلماً مجنوناً لم يحققه الله إلا في الشهر الأخير من السنة السادسة، وهو أن ينفق حماره حتى يركب الحافلة الخالية من الركاب التي تتنقل بين السنبلاوين ـ العصايد ـ ديرب نجم ـ ميت غمر ، ولا تجد من يركبها!
لكنِّه بعد أن مر بتجربة هذا الصباح في الحافلة ذات الرقم (9) بِشرطة، وبعد أن رأى كيف يمتهن الجسم الآدمي (ملحوظة: لا أستطيع أن أصف في هذه المذكرات كل ما رآه صاحبنا في الزحام على امتداد نصف ساعة من امتهان للآدمية حيث الأجسام متداخلة، ورائحة العرق البشعة مختلطة بالعطر الرخيص، وأجسام البنات مُنتهَكة في خصوصياتها) (ملحوظة ثانية: لا أستطيع أن أكتب أكثر من هذا، فقد يقرأ أبي هذه المذكرات، فيظن أنها قد حصلت لي فيحلف بالطلاق أني جننت).
جلس في حديقة قسم الجغرافيا لا يُغادرها، على حشائشها كتب رغباته، وفي الخامسة مساء كان أول الواقفين أمام الشبابيك لتقديم أوراقه. وبعد أن قدَّم أوراقه لم يُفكِّر في تنفيذ برنامجه الذي كان قد عقد العزم بينه وبين نفسه على تنفيذه: المبيت عند قريبه صابر مخلوف زوج عايدة ابنة خالته في شُبرا، وأن يزور غدا صباحاً المتحف المصري والقلعة، ويُصلي الظهر في الأزهر، ثم يزور أولياء الله الكرام:الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة "شي الله يا أهل البيت!"، ثم يعود مساءً في حافلة السادسة مساء المنطلقة إلى دمياط، حيثُ ينزل في ديرب نجم، ويعود ـ ولو ماشياً ـ إلى العصايد.
بعد أن قدَّم أوراقه لم يفكر في أن يُنفِّذ البرنامج! لم يركب حافلةً أو سيارة أُجرة، مشى على قدميه، سأل، والذي يسأل في مصر لا يتوه، عبر كوبري الجامعة، فالمنيل، فشارع القصر العيني، فميدان التحرير، فشارع الجلاء، ووصل بعد ما يقرب من ساعتين إلى ميدان أحمد حلمي، وركب سيارة أجرة ـ صاحبها من بلدهم ـ إلى ديرب نجم، وطوال الطريق كانت فكرة مجنونة تُداعبُ خياله:
لو كان معه حمار (كحماره الحصاوي المأسوف على رحيله ـ أو شبابه ـ منذ شهرين ونصف!) الحمار الذي عرف قيمته اليوم، واليوم فحسب..!
لو كان ـ و"لو" هذه من عمل الشيطان ـ لكان نفذ برنامجه، وزار أولياء الله واحداً واحداً، والمتحف المصري، والقلعة، وحديقة الحيوان، و..، و..
لاشك أنه سيكون بطيئاً، ولكنه سيكون مريحاً ومُحترماً في مدينة يفتقر الإنسان فيها إلى الراحة والاحترام في مواصلاته.
النقل البري ـ 1970
(يتبع)