التقدم ونهج الفكر النقدي
د. تيسير الناشف
للتقدم عدة معان. من معاني التقدم التحرك صوب تحقيق هدف من الأهداف. ويعني التحرك في سياق التقدم التغير الثقافي أو الفكري أو الاقتصادي أو مزيجا من هذه الجوانب. وللشعوب النامية هدفها الوطني والقومي والإنساني والاجتماعي والاقتصادي.
ومن معاني التقدم السير نحو الأمام من ناحيتي الزمان والمكان. من الناحية الزمنية تتمنى الشعوب النامية أن تنتقل من ظروف الحياة البائسة التي تعيش في ظلها إلى ظروف الحياة التي يريد أن يعيشها الإنسان الحر الكريم المكتفي اقتصاديا. ومن الناحية المكانية تتمنى الشعوب النامية أن تقام في أراضيها البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والصناعية والسياسية التي من شأنها أن تحقق لتلك الشعوب طموحاتها المشروعة في التخلص من الفقر والأمية والمرض وفي تحقيق حسها بالكرامة وصونها وفي الدفاع عن أنفسها وكيانها وأراضيها وحريتها واستقلالها ومواردها المالية والطبيعية والبشرية وفي المحافظة على القيم التي تعتز بها.
ومن معاني التقدم القيام بتحسين الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بمراحل أو درجات ملحوظة، أي التحسين التدريجي الذي يعني أن الحالة القائمة يمكن أن تحسن عن طريق إجراء تغيير تدريجي فيها. ويشمل هذا المعنى مفهوم التطور التدريجي، أي الانتقال من طور إلى طور. والشعوب الإسلامية وسائر الشعوب النامية تحتاج التطور التدريجي للانتقال من حالة إلى حالة فضلى.
ومن معاني التقدم أيضا تبني مفهوم وجود الحاجة المستمرة إلى اكتشاف ما لم يكتشف بعد من حقائق المجتمع والنفس والطبيعة والكون، وإلى معرفة الظواهر الناشئة والمتغيرة في حياة الإنسان ونفسه وعيشه ومجتمعه ودولته، ودخول البشر في حالة نفسية فكرية تجعلهم متسائلين ومنتقدين دوما، ما لا بد من أن يؤدي إلى نشوء التفكير المتجدد باستمرار. ومفهوم المسلَّمات قد لا يشغل سوى حيز صغير في الفكر المتسائل والنقدي. اتجاه الفكر النقدي العام اتجاه مناوئ لمفهوم المسلَّمات. بطبيعة الفكر النقدي أنه يخضع كل ظاهرة للدراسة والتحقيق والنقد. قبول المسلَّمات معناه استكانة الفكر النقدي وإخضاعه. قبول المسلَّمات معناه انتفاء الفكر النقدي. انتهاج نهج الفكر النقدي معناه رفض مفهوم المسلَّمات. قبول المسلَّمات معناه إضعاف النشاط الفكري أو إقصاؤه أو قتله. ولا يحقق التقدم باحتضان المسلَّمات. فالمسلَّمات تكتفي بقدر من الحقائق. والحقائق الكثيرة في الكون، التي لعل نهج احتضان المسلَّمات لم يكتشفها، لن تكشف إلا بالفكر النقدي.
ورؤيتي لتحقيق التقدم في مختلف المجالات تستند إلى منهج الفكر العلمي النقدي المتعمق النشيط (الدينامي) (من هذا التناول يستثنى المجال الإلهي والعقيدي، إذ يخضع هذا المجال لمقاييس أخرى ليس القصد تناولها هنا). والأفكار والمواقف المنتقاة والمفضلة هي نتيجة عن التفاعل الدينامي بين هذا الفكر العلمي النقدي والنظام القيمي العام السائد في المجتمع والصالح الفردي والجماعي العام كما يتصوره أفراد المجتمع.
وكما أن التقدم لا يحقق إلا على نحو تدريجي فإن التخلف لا يمكن أن يزال إلا على نحو تدريجي نظرا إلى أن التخلف حالة ثقافية ونفسية وذهنية بالإضافة إلى كونه حالة مادية وتكنولوجية. ونظرا إلى شدة تعقد حالة كهذه تتعذر إزالتها دفعة واحدة. وللإسراع بتحقيق هدف إزالة التخلف من اللازم إشاعة وترويج مفاهيم من قبيل مساواة الحقوق وفصل السلطات وتحقيق سيادة القانون والديمقراطية.
ويتطلب الأخذ بالنهج النقدي التناول المستمر للمسائل المطروحة والمسائل غير المطروحة. إن مواصلة تناول هذه المسائل أفضل من عدم تناولها. ونقد الأشياء والظواهر التي يحتمل أن يشوبها العيب والخلل أفضل من عدم نقدها. وتحليل الواقع بجوانبه كافة وفهمه واستكناه حقيقته ومحاولة الإشارة إلى البدائل للأمور أفضل من عدم القيام بذلك. ومن بالغ الأهمية أن يتناول هذا النهج الحالة السياسية لأن هذه الحالة من أقوى الحالات أثرا.
وعن طريق اتخاذ النهج النقدي يحصل التفاعل الفكري الذي يحقق الانفتاح الفكري، إذ عن طريق التفاعل الفكري يمكن التوصل إلى معرفة البدائل الفكرية. وعن طريق اتخاذ النهج النقدي يكون من الأسهل على الإنسان اكتشاف نقاط القوة ونقاط الضعف ومعرفة الأهداف المستحسنة اللازم تبنيها والأغراض المستهجنة في مرحلة إنمائية واجتماعية وثقافية معينة ومعرفة وسائل تحقيقها. وعن طريق هذا النهج يقل الارتجال وتزداد الدراسة أهمية، ويقل الأخذ بالقشور ويولى الجوهر أهمية أكبر.
ولا يمكن تحقيق النهضة بدون انخاذ النهج النقدي لأنه بهذا النهج تنقشع الأوهام وتسقط السخافات والمجاملات والمراءاة الفكرية والأباطيل المنتشرة في المجتمع، وهذه كلها وغيرها طبقة سميكة أو حاجز سميك ينتصب بين الإنسان والحقيقة. ولا يُزال هذا الحاجز إلا بالنقد الفكري. إذ بهذا النهج يصبح التفكير والسلوك أكثر عقلانية وانتظاما وذا سمة منطقية أقوى، ويصبح من الأسهل معرفة المصادر الفكرية العربية والإسلامية والأجنبية الأكثر إفادة لنا ومعرفة المصادر الفكرية المضرة بنا. بهذا النهج يواجه الإنسان الحقائق وهي معراة.
عن طريق اتخاذ النهج النقدي يكون من الأسهل اكتشاف العلاقات بين المفاهيم في مختلف مجالات الحياة واكتشاف الأفكار التي تنتظم في سلكها عددا أكبر من المفاهيم. وعن طريق انتهاج النهج النقدي يكون من الممكن معرفة وحدة الوجود أو الكون وانتظامه في فكرة وحدانية الخلق ووحدانية الخالق. وعن طريق انتهاج النهج النقدي يمكن الربط بين الأصل الفكري والمشتق الفكري، وبين الفلسفة والعلم والدين، وأيضا بين مفاهيم وتيارات اجتماعية تتباين في مدى اختلافها وتشابهها.