رأينا صواب يحتمل الحطأ
و رأي غيرنا خطأ يحنمل الصواب
مع الدراسات اللسانية المعاصرة
كتبها : فيصل الملوحي
أقول ( مع ) وأعني أنّني أضع يديّ في أيدي العاملين في هذا الحقل ، أؤيّد أعمالهم ، وأجدها ضرورة ماسّة . نحن أحوج ما نكون إلى الاستعانة في المجال العلميّ بما توصّل إليه الباحثون الغربيّون ، فقد توقّّّفنا فترة متطاولة من الزمن ..فتقدّم الناس..وبقينا على ماوصلنا إليه في العصر العبّاسيّ الذهبيّ ، بل ونسيناه ، وبقينا نجترّ قشوراً في علوم اللسان أفقدتنا حماستنا للغة العربيّة ، وصرنا نخجل في الدفاع عنها ٠ والمعلوم أنّ المنهج اللسانيّ العلميّ الحديث – مثل كثير من العلوم – يأخذ بالرموز الرياضيّة في التعبير عن الحقائق العلميّة – وهو قديم في تراثنا – ولكنّ جهلنا بهذا التراث فرض علينا أنْ نقول ( المنهج العلميّ الحديث ).
فلو رجعنا القهقرى إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه لاستفدنا هذه المفهومات الحديثة .. فالخليل صاحب البحور الشعريّة بناها على دوائر، وجعل كلّ مجموعة من البحور في دائرة ، وضمن هذه الدائرة تخرج تفعيلات بحر إلى بحر آخر،بل إنّ ( الميزان الصرفي ّ: فعل – ، ف ، ع ، ل ) ما هو إلاّ رموز رياضيّة تقابل الرموز المستخدمة في الرياضيّات : ( المستطيل : آ ، ب ، جـ ، د )٠ولكن ممّا يؤسف له أنّ هذه الدراسات ذات المنهج الرياضيّ لم تتطـوّر، بل ماتت في مهدها حين أخذنا بالمنهج المنطقيّ اليونانيّ العقيم..?(انظر أعمال الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح - رئيس فرع الدراسات اللغويّة - في جامعة الجزائر سابقا) .
قام عدد من الباحثين بدراسة علوم اللسان الحديثة , وحاولوا تطبيق منهجها على اللغة العربيّة– أمثال الدكتور محمد خرما – في كتابه الذي اصدرته سلسلة(عالم المعرفة)،(والدكتور محمد أبو مسلّم) في نبذاتهالحروف في القرآن الكريم) التي نشرها في جريدة الأنباءالكويتيّة ، وهو ما أشعر بالحاجة الماسّة إليه ٠ ولكن الخطر – كلّ الخطر – أنْ ننسى أمرين اثنين :
أوّلهما : أنّ هذه الدراسات وسائل مساعدة–فقط-، تعييننا على تفهّم اللغة ودراستها ، وتسهّل لنا سبل تعلّمها وتعليمها،وليست أبداً أداة تطوير للغة،ولاقدرة لها على التدخّل في أمر التطوير، وإنّما تستطيع أنْ تدرس هذه الظاهرة،ولكنّ التطوير نفسه تتدخّل فيه مؤثّرات طبيعيّة قد لانستطيع منعها،ومؤثّرات فكريّة فلسفيّة قد تدفع إلى الحفاظ على اللغة كما تلقّاها جيل عن جيل٠نحن–العرب– نحافظ على لغتنا العربيّة ، ونفخر بخلودها 0٠ إنّنا نقرأ اليوم عنترة وامرئ القيس، والقرآن الكريم ، والفرزدق وجرير٠إنّه تراث عربيّ إنسانيّ عريق لامثيل له في تاريخ الأمم .
ثانيهما : أنّ إتقان علوم اللسان لايكفي – وحده – لتطبيقه على اللغة العربيّة ٠ لابدّ من إتقان العربيّة لغةودراسة وعلماً وأسلوباً ، والتعمّق في الدراسات اللغويّة العربيّة القديمة ، فتراثنا اللغويّ – رغم نقصه ككل الدراسات اللغويّة في العالَم – عريق ثمين ، ولسنا نعمل بلا أساس .. والسبيل الصحيح أن نبدأ بالعلوم العربيّة ، ونتقنها إتقان العالِم ، ثمّ نبني عليها دراستنا اللسانيّة الحديثة . تماماً كما قال ( ت . س . إليوت ) : رجل في القديم ورجل في الحديث ، وعندها نقترب من الحقيقة ، ونعطي آراء قابلة للبحث في اللغة العربيّة .
نعم ! قد يتعذّر الأمرً على كثيرين ، إنه بحاجة إلى جهود مضنية ، وسنوات متطاولة . ولكنْ ، منْ يدّعي : أنّ العلم أكل ( ملبن ) ؟!
من يقبل أن يقرأ لباحث تعمّق علوم اللسان الحديثة ، فإذا طبّقها على العربيّة فضحه جهله بمكوّنات اللغة ، وماتوصّل إليه الباحثون الأقدمون ؟!
من يقبل أن يقرأ ترجمات لمصطلحات لسانيّة حديثة لاتستقيم في اللسان العربيّ ، ولها مقابل عربيّ قديم دقيق ؟!
من يرضى أن تعرض هذه البحوث الخاصّة باللغة العربيّة بلغة تشتمّ فيها رائحة العجمة في ألفاظها وأسلوبها ، وتبتعد عن أصالة اللغة وجمالها ، حتّى تُُضطرّ أن تعود إلى اللغة الأمّ المترجم عنها ؟!