تجربة ملغرم
قد يكون الإنسان لا إنسان بطبعه
بقلم: رونالد سميث، إيروين ساراسون، و باربارا ساراسون.
ترجمة: أحمد حسن المعيني
-----------
بعد أن وَضَعَتْ الحربُ العالمية الثانية أوزارها، تم عقد سلسلةٍ من المحاكمات التي تهدف إلى إدانة مجرمي الحرب النازيين جزاءً وفاقاً لما اقترفوه من أعمالٍ وحشية أثناء الحرب المذكورة. وفي دفاع أولئك المتهمين عن أنفسهم، تمحورت مرافعاتهم في تبريرٍ واحدٍ تمثله جملة: " إنني عبدٌ مأمور"، وهو التبرير ذاته الذي استخدمه الجنودُ الأمريكان لتسويغ ما فرّطوه في جنب الإنسانية خلال حرب فيتنام.
هذا ويستنكر السوادُ الأعظم منا التسويغ أعلاه الذي يرفع "طاعة أولي الأمر" شعاراً له، فدائماً ما نقول بأننا لو واجهنا نفس الموقف لتصرّفنا بطريقةٍ مختلفة تماماً. هذه المثالية المزعومة قد فقدت مصداقيتها في كثيرٍ من المواقف، وخاصةً بعد أن أجرى الطبيب النفساني (ستانلي مِلغرَم) عام 1960م سلسلةً من الأبحاث المذهلة والمثيرة للجدل في ذات الوقت. أظهرت نتائج تلك الأبحاث أنه يجب ألا نكون واثقين من مثاليتنا أكثر من اللازم ونبني عليها أوهاماً تقصينا عن الواقع البشري. وفي تجربته الفريدة من نوعها، أراد (مِلغرَم) أن يعرف إلى أي مدى يُمكن للإنسان أن ينصاع لأوامر معدّ التجربة ويعاقب شخصاُ آخر بالصدمات الكهربائية. ما يحدث في هذه التجربة هو أنك في بداية الأمر تقرأ إعلاناً في إحدى الصحف يدعوك للمشاركة في تجربةٍ علمية تهدف إلى اختبار الذاكرة، نظير مبلغٍ قدره أربعة دولارات للساعة، وحالما تصل إلى مقر إجراء التجربة، تجد رجلاً في منتصف العمر بشوش المحيا يجاذبك أطراف الحديث إلى أن يصل معدّ التجربة. بعدها يظهر المعدّ ويدفع لكما الأربعة دولارات حسب الاتفاق، ويخبركما بأن أحدكما سيكون "عينة" التجربة، بينما يبقى الآخر مع المعدّ لمعاونته. وبعد ذلك يتم اختيارك كمعاونٍ- بعد قرعةٍ يجريها المعد- بينما يكون الشخص الآخر "عينة" التجربة. يُخبرك معدّ التجربة بأن الهدف من دراساته التي يجريها وخاصةً هذه التجربة هو دراسة أثر العقاب على الذاكرة، وهكذا يُوضَع الرجل الآخر على كرسيٍ، ثم يتم توصيل قطبٍ كهربائي بخصره. يتم تلقين الرجل مجموعة كلمات عليه أن يكررها بين الفينة والأخرى، فإن أخفق في تذكر إحداها عُوقب بصدماتٍ كهربائية متزايدة الشدة. وفور سماعه ذلك، يقول الرجل: " لقد أخبرني الأطباء عندما كنت في مستشفى (ويست هافن) بأنني أعاني من مشكلةٍ في القلب. ليست مشكلة كبيرة، ولكن هل هذه الصدمات خطيرة؟" فيردّ معد التجربة ببرودٍ لا يخفيه: " رغم الألم الذي تسببه هذه الصدمات إلا أنه لا ينتج عنها تمزّق في الأنسجة". بعد ذلك تدلف أنت ومعدّ التجربة إلى غرفةٍ مجاورة موصّل بها نظام اتصالٍ داخلي (إنتركوم) حتى يُمكنكما سماع استجابات "العينة" للصدمات. وأمام ناظريك مباشرةً تجد جهازاً به ثلاثون مفتاحاً تبدأ لإصدار صدمات كهربائية تبدأ من 15 فولت وتصل إلى 450 فولت. وهكذا يتمثل دورك في التجربة في إدارة عملية التعلم عند "العينة"، فكلما يرتكب خطئاً يجب عليك معاقبته بصدمةٍ كهربائية تتزايد شدتها بمقدار 15 فولت لكل خطأ. وقبل البدء بالتجربة يتم تنفيذ صدمة كهربائية عليك أنت –للتجربة- بمقدار 45 فولت، فتجد أن الألم محدود الأثر.
الأمر الذي تجهله أنت تماماً هو أن كل ما يجري من حولك عبارة عن تمثيلية مدبرة، وما الرجل الآخر إلا ممثل لا يتلقى أية صدمات على الإطلاق. وما تسمعه من صرخات ألمٍ هي في حقيقة الأمر صرخات مسجلة على شريطٍ صوتي حتى يسمع كل مشترك في التجربة الأصوات نفسها، فيُحكم على الجميع بمعيارٍ واحد. وبينما تسري التجربة، يرتكب "المتعلم" متعمداً الخطأ تلو الآخر، فتزيد أنت من شدة الصدمات الكهربائية، إلى أن تستبين الألم الذي تخلفه الصدمات. وتبدأ استجابات "المتعلم" بطيئةً هادئة (مثل: أخ، آه، آآه، آآآه، أحس بألم شديد، يا معدّ التجربة كفى، أخرجوني من هنا، قلتُ لكم بأني مريض بالقلب، بدأ قلبي يؤلمني بشدة، أرجوكم أخرجوني من هنا، إنني أرفض الاستمرار أخرجوني) ثم تتسارع وتزداد حدتها (مثل آآآآآآآآآآه، أخرجووووني لا أريد أن أشترك في هذه التجربة، ارحموووني). وإن حدث وأبديت ترددك في الاستمرار، يقول لك المعدّ بكل هدوء: " أرجوك أكمل، أطلب منك لغرض البحث أن تكمل، من الضروري جداً أن تكمل، ليس لك من خيار. لا بد أن تكمل".
والآن وبعد أن تخيّلت تجربة (مِلغرَم)، أي مدىً تعتقد أنك ستبلغ؟ هل سألت نفسك؟ لقد قال أغلب الذي سُئلوا أنهم لن يزيدوا على 105 فولت. وفي حلقة نقاشٍ لأطباء نفسانيين، توقعوا بأن نسبة 1% فقط من الناس سيستمرون في تنفيذ الصدمات إلى مقدار 450 فولت. وفي واقع الأمر، كانت الصدمة التي تمخضت عنها نتائج البحث أقوى بكثيرٍ من الصدمات الوهمية التي تُجرى في التجربة. لقد شارك أربعون رجلاً في التجربة يمثلون شريحةً سكانية ممن تتراوح أعمارهم بين العشرين إلى الخمسين عاماً. والأمر الذي فجّر الأوساط النفسية والاجتماعية هو أن ثلثي المشتركين قد استمروا في تنفيذ الصدمات حتى مقدار 450 فولت، بينما كان متوسط المستوى الذي وصل إليه الجميع ما يقارب 368 فولت!
صحيحٌ أن جميع المشتركين الذين بلغوا المستويات العليا من شدة الصدمات قد أبدوا استيائهم وعدم ارتياحهم، وطلب الأغلبية منهم التوقف، إلا أنهم استمروا بعد أن أمرهم معدّ التجربة مسوغاً ذلك بأن جميع ما يحدث في التجربة "على مسؤوليته".
وباختراعه عناصر واقعية في التجربة، نجح (مِلغرَم) في إثبات أن نسبة كبيرة من الناس "العاديين" يبدون طاعةً للسلطة -في أي شكلٍ كانت- حتى وإن كانت الآثار البشعة لطاعتهم هذه واضحةً وضوح الشمس. لقد بدا واضحاً من ردود الفعل التي اشتعلت في الأوساط الاجتماعية أن النتائج التي خلص إليها هذا البحث كانت ساخنة إلى أبعد الحدود.
والتفسير الذي عادةً ما يُقدم حول هذه التجربة هو أن أولئك الذين بلغوا أعلى مستويات العقاب هم في حقيقة الأمر "وحوش" لا بشر، وهم يمثلون الحثالة السادية في المجتمع، إلا أن هذا التفسير يفقد مصداقيته إذا اعتبرنا أن ما يقارب ثلثي المشاركين ينتمون إلى فئة "المطيعين"، وأنهم يمثلون عامة الناس من الطبقة العاملة وطبقة المديرين وطبقة أصحاب الوظائف الاحترافية. في الحقيقة، قام الأشخاص العاديون بإنزال أشد العقاب على صاحبنا في التجربة لأنهم يشعرون بأن من واجبهم الوفاء بما التزموا به، وليس لأنهم يحملون أية نوايا عدائية. قد تكون هذه هي العبرة الأساسية من التجربة، وهي أن البسطاء والعوام من الناس الذين يقومون بأعمالهم – من دون أن يحملوا أية طباع عدائية- يُمكن أن يتحولوا إلى أداةٍ في عملية بشعة من التدمير أو الإبادة. والأدهى من ذلك أن هؤلاء الناس- حتى عندما تتبين لهم نتائج بطشهم ويُطلب منهم أن يُحكّموا أبسط قواعد الأخلاقيات- لا يستطيعون مقاومة السلطة إلا من رحم الله.
هذا وقد أثارت طريقة (ستانلي مِلغرَم) في البحث صدمةً شديدة في أوساط علماء النفس، حيث استنكر الكثير منهم تلك الطريقة وشككوا في أخلاقية تعريض "عينات" لمثل هذا الاستكشاف دون إنذارهم بإمكانية الخطورة الناتجة عن الضغط النفسي الذي يقع عليهم جراء هذه التجربة، التي قد تترك آثاراً سلبية على المدى البعيد. هذا ويجدر بنا القول أنه كان يُجرى لقاءٌ بين كل عينة والشخص الذي يتلقى الصدمات الوهمية بعد كل تجربة منفردة، وذلك لتجنب تعريض العينة للندم والشعور بالذنب.