ويعقب الكاتب بقوله : " وفيما عدا عنصر الإفك فإن القرآن ينكر ما سجّل في هذه الآيات" والحق أن ما يقوله الكاتب هو الكذب والافتراء بعينه، فكما أن الآية الأولى المتعلقة بالإفك قد أكملت بـ " فقد جاءوا ظلماً وزوراً" ، فقد اكتملت الآية الثانية بقوله تعالى : " قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض" فأين الأساطير القديمة من علم الله المحيط بسر السموات والأرض . ومثلما رد القرآن على هذين الافتراءين اللذين ساقهما كفار مكة رد على ما سجله بعدهما في السورة نفسها بقوله : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً } (الفرقان 9)، فهو إذاً قد رد على كل الاتهامات لا على اتهام واحد كما يزعم الكاتب.
ثم يقول : " ويأتي الرد على اتهام مشابه يسلّم بأن محمداً كان له معلم أجنبي في سورة النحل 103 " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" وتبدو التهمة هنا أيضاً غير منكورة . وهنا إصرار على أن الصياغة الحقيقية للقرآن لا تأتي من المعلم.
والكاتب يشير هنا إلى ما زعمه كفار قريش من أن رجلاً أعجمياً كان بين أظهرهم يبيع عند الصفا ، وربما كان النبي– صلى الله عليه وسلم – يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء وكان أعجمي اللسان لا يعرف العربية ، أو كان لا يعرف منها إلا القدر اليسير ، فزعموا أنه يعلم النبي، فأنزل الله هذه الآية التي تبين أن الكفار يعرفون قيمة القرآن وإعجازه، فكيف يمكنهم أن يزعموا ان أعجمياً يعلم محمداً هذا الكتاب؟ فإن كان قادراً عليه فليظهرن به لنفسه.
يقول الأستاذ سيد قطب في " ظلال القرآن" " وحتى الماديون الملحدون في روسيا الشيوعية، عند ما أرادوا أن يطعنوا في هذا الدين في مؤتمر المستشرقين عام 1954 كانت دعواهم أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد – هو محمد – بل من عمل جماعة كبيرة . وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية بل إن بعض أجزائه كتب خارجها .. فكيف كان يمكن – وهذا رأي جماعة من العلماء في القرن العشرين – أن يعلمه بشر لسانه أعجمي عبد لبني فلان في الجزيرة؟(1)
ونحن بدورنا نقول للكاتب ولغيره ممن يزعم هذا الزعم : قل لنا ما اسم هذا المعلم؟ ومن الذي رآه وسمعه ؟ وماذا سمع منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟ (2).
ثم يقول كاتب المقال : " وهناك سور مدنية تعطى انطباعاً بأن محمداً جهد في الحصول على معلومات من الكتاب المقدس عند اليهود، حيث جرى اتهامهم بأنهم يخفون كتابهم عنه. وقد عرضت بعض النسخ المكتوبة على محمد أو أتباعه ، انظر: مثلاً : الأنعام 91 : .. قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً".
__________
(1) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، طبع دار الشروق سنة 1397 ، 4 :2195.
(2) راجع مناقشة هذه المسألة بتوسع عند: الدكتور محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ، طبع مصر 1416، ص 62 وما بعدها.
ولا أدري من أين أتى الكاتب بهذه القصة الملفقة التي أراد أن يستشهد عليها بالآية الكريمة من سورة الأنعام ، وهي سورة عدها الطبري – الذي يرجع إليه الكاتب كثيراً – مكية وليست بمدنية ،كما اختار الطبري قول ابن عباس ومجاهد في أن الآية نزلت في قريش(1) واستحسن قراءة" يجعلونه " بدلا من "تجعلونه" ومن ثم يكون تفسير الآية : قل لهم يا محمد: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ، مما يجعله اليهود صحائف يخفون بعضها ويظهرون بعضها قضاء للباناتهم من وراء هذا التلاعب الكريه"(2). وقد اختار ابن كثير ما اختاره الطبري لأن " الآية مكية واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر"(3).
بل إن المستشرق تيودر نولدكه في كتابه " تاريخ القرآن" والذي يتمسك كاتب المقال بأقواله ويعده عمدة في ترتيب النزول – يجعل السورة مكية وليست مدنية(4)، كما يقول كاتب المقال . ومن ثم فالخطاب هنا لقريش، لا لليهود الذين وصفتهم الآية بأنهم يخفون بعض أجزاء التوراة لغرض في نفوسهم ، وليس لإبعادها عن عين محمد صلى الله عليه وسلم كي لا يقتبس منها، كما يزعم الكاتب.
__________
.
حتى ولو كان الخطاب موجهاً إلى اليهود – كما اختاره بعض العلماء والمفسرين – فالمعنى هو هو، ولا يحتمل غيره . ولقد ورد الخطاب بالمعنى نفسه إلى اليهود في سورة مدنية هي المائدة 15 { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب.. } وفي سورة البقرة 174: { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } ، وفي المائدة أيضاً 61 { والله أعلم بما كانوا يكتمون } ، ويبين القرآن في الآية الواردة في سورة البقرة 174 نفسها هدف اليهود من إخفاء جانب كبير من " الكتاب" { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً } فهذا هو هدفهم على نحو ما حدده القرآن نفسه، وما كان ينبغي لكاتب المقال وقد ألزم نفسه باتباع منهج النقد الأدنى بالتعمق في دراسة النص وكشف غموضه عن طريق مقارنة المعاني والألفاظ بعضها ببعض أن يصرف النظر ويتغاضى عن هذه النصوص التي تعين الباحث عن الحق على الوصول إليه من أقرب طريق ولا سيما وأنه قد قرأ هذه النصوص نفسها ويستشهد بها بعد قليل.
ولا شك أن الكاتب قد خرج على المنهج الذي اعتمده بنفسه لهدف يسعى إليه، بل خرج على كل منهج علمي معترف به في الدراسة حين زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جهد للحصول على معلومات من التوراة، وهذا ما لم يرد في أي مصدر من المصادر، وقد عجز الكاتب عن ذكر مصدر يستند إليه في نقل هذا الخبر المكذوب، فتركه دون سند.
وأخيراً ها هو ذا يعلن عن النتيجة التي ظل يضمرها ويتحايل بكل حيلة كانت غير معقولة ولا مقبولة ويلبس لها مسوحاً زائفة من العلم والدراسة النقدية يدلس لها على الناس ويفتري بها على الدين وعلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقد قدم لتلك النتيجة مستشهداً بآيات لم يذكرها وإنما أشار إلى موضعها فحسب لكي يوهم بأنه إنما يتقدم بخطى علمية واثقة نحو الحقيقة التي اطمأن إليها؛ مع أن النتيجة لا تتصل بالمقدمة من قريب أو بعيد.
يقول: وهناك أجزاء (سور) تتهم اليهود بأنهم يكتبون أجزاء بأنفسهم ويقولون : هذا من عند الله" . انظر أيضاً البقرة 77،140،174، آل عمران 71، المائدة 15. (1) وفي تلك الأجزاء ( السور ) لا نجد صعوبة في أن نرى محمداً يتلقى قصصاً ومعلومات أخرى من معلمين مختلفين ، بمن فيهم اليهود والنصارى، ثم إنه في لحظات الوحي ينقح المادة، ويحيلها على صيغتها القرآنية. ومثل هذا الرأي ، مع أنه يخالف المعتقد المألوف اليوم لا يتضارب مع بعض الأخبار الموجودة في مجموعات " الحديث" وغيرها من المصادر الإسلامية المبكرة".
إذاً هذا ما كان يحشد نفسه له منذ البداية غير عابئ بالأصول العلمية ولا المبادئ النقدية المرعية، ولا بأولويات الحيدة والتجرد العلمي بهدف الوصول إلى الحقيقة، بل يحاول أن يلوي عنق الحقائق لكي يصل إلى القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي ألف القرآن. وإذا تذرعنا بالصبر وتوقفنا قليلاً عند هذه النتيجة التي انتهى إليها نقول: إنه لا الآيات التي أشار إليها ولا مجموعات الحديث بل ولا المصادر الإسلامية المبكرة تشتمل من قريب أو بعيد على شيء مما يقول، وإلا كان قد أتى بدليل عليه من الحديث النبوي الشريف أو المصادر الإسلامية المبكرة.
ثم يقول : " في الفترة المكية المتأخرة والمدنية المبكرة قيل إن محمداً قد تم تحديه لكي يخرج للناس كتاباً يمكنهم قراءته بأنفسهم (93:17) وأن أتباعه شكوا بأنه ليس لهم كتاب مقدس كاليهود والنصارى (155:6) .
__________
(1) يشير إلى الآيات الكريمة أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون… " البقرة 77 ، (… ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله..) 140 ، ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً ) 174 ، ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق…) آل عمران 71 . ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ..) المائدة 15.
وما يقوله الكاتب هنا ليس إلا سلسلة من الأغلاط ينبغي تصحيحها وفقاً للمنهج النقدي الذي يتبعه الكاتب نفسه، فهو يشير إلى الآيات الكريمة من سورة الإسراء ( وهي مكية وليست بمدنية ) (1)91 – 93 { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً.. أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه.. } الآية. وهذه الآيات الكريمة تبين الاقتراحات التي عرضها كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ومنها، كما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما اقتراح عبد الله ابن أبي أمية المخزومي : "فو الله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة…إلخ "(2).
فالكاتب هنا يمهد للزعم بأن القرآن إنما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لهذا التحدي من جانب خصومه، مع أن القرآن كان ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم ويتلى قبل هذا التحدي ( إن كان التحدي صحيحاً) ببضع سنوات؛ وإنما اقترح الكفار هذه الاقتراحات لإظهار إنكارهم للدعوة إلى الإيمان بالغيب وبما لا تدركه حواسهم، وهو ما جاءت به السور التي نزلت من القرآن قبل نزول هذه السورة، ولم تكن بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه من خصومة قبل نزول القرآن، فقد لبث عمراً بين ظهرانيهم لا يتحدونه ولا يتحداهم حتى نزل القرآن، ولم يكن هناك مجال للتحدي ولا سبب له قبل نزوله.
إذن لم يصرح الكفار بهذا التحدي إلا بعد نزول القرآن بزمن، ولا يمكن أن يكون هذا التحدي سابقاً على النزول.
__________
(1) يضعها بعض المستشرقين في الفترة المكية الثالثة والأخيرة ، انظر: عبد الرحمن بدوي : دفاع ، ص 106.
(2) نقلاً عن مختصر تفسير ابن كثير ، 2 :400.
ويستمر الكاتب في أغاليطه موهماً قارئه بأنه يسوق من الأسباب المنطقية المستخرجة من تحليل النص القرآني ما يبرهن على أن القرآن إنما هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم، فيزعم أن المسلمين شكوا بأنه ليس لديهم كتاب مقدس كالذي عند اليهود والنصارى ، مشيراً إلى الآية الكريمة من سورة الأنعام (156): { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين. أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم.. } الآية.
قال الطبري ( الذي يتخذه الكاتب مصدراً رئيساً ) : معناه وهذا كتاب أنزلنا لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، يعني لينقطع عذركم … فالكتاب قد أنزل لقطع الحجة.
وهذا يعني أن المسلمين لم يشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما يزعم الكاتب – افتقارهم إلى كتاب مقدس كاليهود والنصارى، وهو ما لم يرد في مصدر من المصادر ؛ لأن كتاب المسلمين المقدس كان ينزل على رسولهم صلى الله عليه وسلم منذ مدة طويلة ، وكان ملء السمع والبصر، قد دارت حوله منذ أنزل معارك عنيفة وجدل كثير بين المؤمنين والكافرين، وكان أمر القرآن هو شغلهم الشاغل وهمهم الناصب ، فما الذي يحمل المسلمين على أن يطلبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم – أن يأتيهم بما هو لديهم ويعدونه مصدر عزهم وفخارهم؟!
ومع أن الآيات التي أشار إليها الكاتب من سورة الأنعام قد نزلت بمكة، وأن الخطاب فيها " لأهل مكة "(1) فإنه يريد أن يبين أن هذه الشكوى المزعومة قد تمت بالمدينة وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد استجاب لأتباعه الذين تلاقت إراداتهم مع إراداته بإنشاء مجتمع إسلامي متميز بالمدينة؛ يقول الكاتب" إن إنشاء مجتمع إسلامي مستقل بالمدينة متميز عن أهل الكتاب كان مرهوناً بالإتيان بكتاب إسلامي مقدس منفصل، يؤدي دوره كفرقان لتثبيت حقيقة الكتب المقدسة السابقة (3:3 ،105:4 ، 48:5إلخ ).
ونقول للكاتب : أيهما أسبق في الوجود : نزول القرآن أو إنشاء المجتمع الإسلامي بالمدينة؟ فالكاتب يريد أن يعكس القضية فيبين أن القرآن إنما جاء استجابة لحاجة ذلك المجتمع إلى دستور خاص به يميزه عن أهل الكتاب، أي أن وجود المجتمع الإسلامي سابق على نزول القرآن ، وهذا زعم سخيف لا يحتاج إلى أدنى التفات.
على أن الفرقان لم ينزل لمجرد التأكيد على أن كتباً قد أنزلت من قبل هدى للناس فحسب وإنما لكي يهيمن على تلك الكتب بعد أن نالها من التحريف ما نالها. وهو الأمر الذي تؤكده الآيات الكريمة التي استشهد الكاتب بها وأشار إليها عرضاً في ذيل الفقرة التي نقلناها عنه، ولكنه أغفل ذلك عمداً.
يقول الكاتب : " وهذا من شأنه أن يبرهن على أن محمداً بدأ في جمع كتاب مقدس مكتوب في السنوات المبكرة من الفترة المدنية لكن مسؤوليات قيادة المجتمع المسلم السريع النمو أجبرته على أن يترك هذه المهمة دون إتمامها. (انظر Bell – Watt ).
والكاتب هنا يخلص إلى نتيجتين منتزعتين من المقدمات الفاسدة التي قدمها، وهما:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعن بتدوين القرآن وكتابته في الفترة المكية.
أن كتابة القرآن لم تستكمل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) قال الكسائي : … والخطاب لأهل مكة، غرائب الفرقان ، للنيسابوري 2 :1344 ، طبع مصر 1416هـ (1995م).
وليس هناك أساس نقلي أو عقلي يستند إليه الكاتب في انتزاع هاتين النتيجتين غير ترديده كلام غيره من المستشرقين وبخاصة " بوهل" الذي كتب مادة " القرآن" في الطبعة الأولى من دائرة المعارف الإسلامية وزعم فيها أن القرآن لم يسجل كله في الفترة المكية . ورد عليه أحد العلماء العرب المحدثين ، وهو الدكتور إبراهيم عوض ، بقوله : " ترى أيمكن أن نتصور أن ينشق أوائل من آمن بالرسول على قومهم ودينهم وأسلوب حياتهم معرضين أنفسهم للهلاك بسبب القرآن ثم هم مع ذلك لا يتنبهون لأهميته ولا يبالون بتسجيله.. (1)؟ وقد كان كتاب الوحي في مكة معروفين للكافة.
ثم إن الكاتب يخلط – ربما عن عمد – بين كتابة الوحي وجمع القرآن ، فعند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان القرآن كله مكتوباً كما كان محفوظاً في صدور المؤمنين ، يدل على ذلك التقرير المفصل الذي أورده البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه والذي يقول فيه … فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال" وعلى أن الجمع كان بمنزلة تحر في الحفظ والصيانة(2) لا كما زعم المستشرقون أن القرآن لم يكن مكتوباً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
الناسخ والمنسوخ:
لاشك أن من يريد أن يعرض لقضية الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابد له – إذا صح قصده وكان نشدان الحقيقة ديدنه – أن يعرض لهذه القضية في الفصل الخاص " بتاريخ القرآن" وتطور الأحكام التي اشتمل عليها الكتاب العزيز . ولكن الكاتب أقحم هذه القضية – لغرض في نفسه سوف نتبينه من خلال تحليل مقولاته – على هذا الفصل المتعلق بـ " محمد والقرآن" ولم ينتظر حتى يعرضها في مبحث تاريخ القرآن والذي يلي هذا الفصل مباشرة.
__________
(1) د. إبراهيم عوض: دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية : أضاليل وأباطيل ، ص 14 .
(2) انظر: عدنان زرزور، علوم القرآن ، ص 87.
يقول الكاتب :" والقرآن نفسه يعترف بأن تغييرات وقعت في الوحي { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } (البقرة 106)، { وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما يُنزل قالوا إنما أنت مفتر } (النحل: 101) . ثم إن هناك آية في سورة الحج (52 –53) تعطي تفسيراً آخر لتغيرات جرت في الوحي { وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان } .
ونقول : إن الكاتب أقحم الآيات الواردة بسورة الحج في قضية الناسخ والمنسوخ وهي ليست منها ؛ فقوله تعالى : " فينسخ الله" المراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان، وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام(1).
ومن هنا فإن هذه الآية لا تتعلق بقضية النسخ في القرآن والكلام هنا يشمل الرسل والأنبياء جميعاً من أوتي منهم كتاباً ومن لم يؤت، ولا تخص محمداً صلى الله عليه وسلم وحده، ومن ثم لا يخصّ القرآن، وهو ما يعني أن ما يلقي الشيطان إنما هو خارج الوحي وليس فيه.
أما وقد أثبتنا أن الآيات التي أوردها الكاتب من سورة الحج لا تشير من قريب أو بعيد إلى القرآن الكريم ولا تتعلق بقضية النسخ فيه ، فعلينا الآن أن ننظر في الآيتين اللتين استشهد بهما الكاتب من سورتي البقرة والنحل.
__________
(1) غرائب القرآن للنيسابوري ، 3 :2378 .
فالتشريع الإسلامي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم قد مر بمراحل، وهذا التحول اقتضى أحياناً إلغاء قاعدة ما واستبدالها أخرى بها مختلفة عنها، فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال – في فترة الرسالة هو لصالح البشرية، فإذا نسخ الله آية ألقاها في عالم النسيان "(1) وهذا لا يعني بحال أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نسي بعض الوحي فلم يضمنه الكتاب، وإنما هو قد أنسي آيات تتضمن أحكاماً وأوتي آيات خيراً منها، أما نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم – باعتباره بشراً يصيبه النسيان – فقد ضمن الله تعالى أن ينحيه عن الوحي منذ الوهلة الأولى في السور المبكرة بالفترة المكية؛ يقول تعالى في سورة الأعلى ( سنقرئك فلا تنسى ) (2).
كما أن الأمر لو كان متعلقاً بنسيان الرسول صلى الله عليه وسلم – كما يزعم الكاتب – لما كانت هناك حاجة إلى الإتيان بآيات أخرى بدل التي نسيها، ولما كان هناك ناسخ ومنسوخ.
والله عليم بما يصلح للبشر من المبادئ والشرائع ، فإذا بدل آية استنفدت أغراضها ليأتي بآية أصلح للحالة الجديدة التي صارت إليها الأمة وأصلح للبقاء أمد الدهر فالشأن له(3) ، فإذا كان الله – عز وجل- قد بدل بعض الأجزاء – كما يقول الكاتب – ووضع مكانها أجزاء أفضل أو أحسن فالأمر له، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أن القرآن الكريم قد نزل منجماً وأن من أهم المباحث التي عكف عليها المسلمون – بل وحتى المستشرقون – مبحث آيات الأحكام والتطور الذي لحق ببعضها خلال فترة نزول القرآن.
__________
ولعل السبب الذي دفع علماء المسلمين إلى ترتيب سور القرآن الكريم حسب النزول منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هو محاولتهم معرفة الناسخ والمنسوخ ، الذي أصبح منذ القرون الأولى للإسلام علماً ينطوى على أهمية بالغة في الشريعة الإسلامية حيث تتوقف على هذه المعرفة قرارات علمية ذات أهمية قصوى في مسار الحياة العملية للمسلمين(1) فالنسخ أمر مقرر ومعترف به في علوم القرآن لكن مناطه بيد الله سبحانه وتعالى ، ولا ينسب إلى نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم بحال من الأحوال.
والكاتب بزعمه أن الشيطان يلقي في الوحي إنما يمهد للحديث عن قصة الغرانيق التي يقول إن بعض المستشرقين قبلها كحقيقة تاريخية وبعضهم رفضها لضعف الإسناد أو لأن العلماء قد اختلقوها للدلالة على نظرياتهم في شأن النسخ.
ونقول: أما أن بعض المستشرقين رفضوا قصة الغرانيق التي يقول إن بعض المستشرقين قبلها كحقيقة تاريخية وبعضهم رفضها لضعف الإسناد أو لأن العلماء قد اختلقوها للدلالة على نظرياتهم في شأن النسخ.
ونقول: أما أن بعض المستشرقين رفضوا قصة الغرانيق بسبب ما يشوبها من ضعف في الإسناد فهو حق لا مراء فيه، وأما أن علماء المسلمين اختلقوها لاتخاذها دليلاً على نظرياتهم في شأن النسخ فهو ما لم يقله أحد، فقد أجمع العلماء على أنها قصة مختلقة من أساسها.
ولكن الذي يهمنا هنا هو الإشارة إلى مدى ما لهذه المزاعم من تأثير في ضعاف العقيدة ممن ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، فقد ربط الكاتب بين قصة الغرانيق وفهمه المغلوط كما أسلفنا لمعنى ما ورد في سورة الحج " فينسخ الله ما يلقى الشيطان" وسمى القصة المذكورة " الآيات الشيطانية "Satanic Verses"؛ وقد اتخذ سلمان رشدي – الكاتب البريطاني الذي لازال ينسب نفسه إلى الإسلام – من هذه التسمية عنواناً لروايته التي أثارت اشمئزاز المسلمين ونفورهم في العالم بأسره.
__________