(2)
*ثرثـــرة في المــدرّج*
................................

استقبلها الزحام حين خطت خطواتها الأولى داخل الجامعة، اتجهت يميناً فقد كانت تعرف أن هذه هي كلية الآداب. سألت واحدة من الواقفات عن المدرج (78)، فأشارت بيدها قائلة ـ كأنها تُرحب بها ـ تعالي معي!
كادت أن تُدير ظهرها، وتترك الكلية خارجةً إلى فضاء الشارع، حينما رأت عشرات من الطالبات والقليل من الطلبة يتحدثون في حلقات، كل حلقة تتكون من طالب وعدة طالبات، ولكن استوقفها صوت أحمد ـ كأن الأرض انشقت عنه ـ:
ـ أهلا سميرة.
مالت بوجهها، كأنها تعاتبه:
ـ غبت أسبوعين، قلت أسأل عنك أنا.
أشار لها قائلا:
ـ الأستاذ غائب اليوم، تعالي نجلس ونتكلم.
قالت مذعورة:
ـ أين نجلس؟ في المدرج؟!
لحقت به، وكان قد سبقها بعدة خطوات:
ـ أقول فلنذهب معاً إلى حديقة الحيوان، أو حديقة الأورمان.
قال في صوت، اجتهد أن يحمل نبراته التي تعرفها:
ـ فلننتظر خمس دقائق، إني أنتظر مذكرة علم الاجتماع للدكتور الخشاب، سيحضرها صديق استعارها أمس.
مشت وراءه صامتة كأنها تمشي في جنازة حبها. أشار إلى الكرسي الأخير في الصف السادس من المدرج الذي يكاد يخلو من الطلاب، وقال:
ـ اشتقت لك يا سميرة.
قالت:
ـ لو اشتقت لنا لسألت علينا.
ـ أمي مريضة.
ـ ألف لا بأس عليها.
هل من الممكن أن تمرض هذه الحرباء؟. إنها هي التي حرضته على البعد عنها. قالت له ـ كما نُقِل عنها ـ أخوك مستشار وزوجته طبيبة، وأختك محاسبة وزوجها طيار، وأنت تتزوج واحدة تعمل على آلة كاتبة، وحاصلة على دبلوم تجارة، وأبوها محصِّل في أتوبيس الورّاق؟
قال في حزن شديد:
ـ مصابة بالمرارة، وحالتها متأخرة.
كادت تُزغرد، ولكنها قالت:
ـ لازم نزورها الليلة، ماما ستحزن إذا عرفت أنها مريضة!
هل ستحزن أُمي حقا؟!! .. لقد كانت تخدمها منذ خمس وعشرين سنة، قبل أن تتزوج أبي بعام أو عامين، وربما كانت خدمتها لها هي التي جعلتها تقف في وجه أحمد وتقول له: أنت الأول على قسم الاجتماع، وإن شاء الله ستكون دكتوراً في الجامعة، فهل تكون حماتك خادمتنا القديمة؟!
أخذ أحمد المذكرة من زميله، وتنبّه إلى وجود سميرة معه، وأنه لم يُحيِّها التحية اللائقة بها، قال لها: يمكننا أن نجلس ساعة معاً قبل المحاضرة التالية في كافتيريا الكلية، أو جزيرة الشاي في حديقة الحيوان، أو حديقة الأورمان.
أحست بحنين جارف إلى حديقة الأورمان التي شهدت بداية حبهما منذ عامين، وكيف كانت تترك المدرسة وهي في الدبلوم، وتجيء له من حيِّ الدرَّاسة البعيد إلى الجيزة، ولكنها شعرت أن اللقاء محكوم بساعة واحدة، قالت:
ـ نبقى في المدرَّج أحسن.
تركها، وبحث عن "عم حسن" عامل "بوفيه" القسم، ليحضر لهما كوبين من عصير الليمون.
*
جلس على بعد متر منها، وقال في صوت خالته كتغريد العصافير:
ـ طلبت لك عصير ليمون.
ـ كنت أفضل الشاي في هذا الجو البارد.
فاجأها:
ـ نحن في أبريل يا سميرة!!
أحست حزناً في نبرات صوته، قالت:
ـ لماذا تهرب مني؟
قال وهو لا يرفع عينيه عن الأرض:
ـ قلت لك أمي مريضة.
قالت ـ وهي تحس أنها تستدعي صوتها من بئر عميقة:
ـ ولماذا لم تهاتفني منذ فترة؟
ـ نحن مشغولون، الامتحانات على الأبواب.
نظر إلى وجهها الممتلئ بالحيرة، وقال:
ـ ولماذا لا تطلبيني أنت؟
ـ هل نسيت؟ لقد قلت لي لا تطلبيني في البيت.
ـ كنت أداعبِك!
ـ بل كنت تخشى غضب أمك.
امتلأت أساريره بالشفقة على أمه، وأضاف في صوت واهن:
ـ أمي في لحظاتها الأخيرة. ادعي لها بالشفاء!
قالت بسرعة، كأنها تريد أن تتخلص من عبء الكلمات:
ـ ربنا يشفيها.
غالبت تردَّدها، وسألته:
ـ سمية صاحبتي تقول إن أمك ستخطب لك سناء أخت الطيار، التي تعمل مضيفة أرضية بمطار القاهرة.
أجاب، وهو يحاول أن يُنهي الحديث:
ـ هذا كلام سابق لأوانه، يشغلنا الآن: مرض أُمي، وحصولي على الليسانس!
*
لا يدري إن كانت سميرة قد غضبت حين قال لها إنه لا يُفكر الآن إلا في مرض أمه، وحصوله على الليسانس، لكنه متأكد أنها لم تشرب الليمون، وأن عصفوراً أحمر على إيشاربها كان يُحاول الطيران، ولكن الدماء كانت تسيل من جناحه المهيض!

القاهرة 5/8/1969