اليهود بين الأنفوشي والجماليَّة
في قصص محمد جبريل

بقلم : أحمد فضل شبلول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يدعونا محمد جبريل في مجموعته القصصية "حارة اليهود" الصادرة عن مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة في سبتمبر 1999، إلى التسلح بالوعي واليقظة والحذر، وإلى المقاومة وعدم الاستسلام، فاليهود يتربصون بنا، يتسللون من بين سكوتنا وخلافاتنا، ينتظرون اللحظة الحاسمة للانقضاض على الوطن والتهامه.
وفي سبيل ذلك يتوسل الكاتب بوسائل فنية عدة، من أهمها استخدام الرمز الشفيف، مثل السمانة في قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي". وهذه القصة على الرغم من قصرها فإنها تحمل معظم خصائص فن القصة القصيرة عند محمد جبريل، والتي من أهمها: 1 ـ الجملة التلغرافية أو الجملة القصيرة السريعة الموحية. 2 ـ الوصف، وخاصة وصف البيئة السكندرية، واستخدام مفرداتها الحياتية، ومفردات الطبيعة فيها. 3 ـ التساؤل الذي يحمل في طياته الإجابة لمن أراد التأمل في واقعنا العربي. 4 ـ توظيف المعرفة العلمية توظيفا مناسبا لمحتوى القصة.
ولنتأمل هاتين الجملتين على سبيل المثال: الصاري المرتفع الخالي من العلم، اكتفت (مجموعات السمان) بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها.
إن الصاري الخالي من العلم يدل دلالة أكيدة على ضياع الهوية. لقد وجدت السمانة أناسا بلا هوية، وبلا زمان محدد أيضا، فوجود العلم فوق سراي رأس التين، ربما كان يسهم في تحديد الفترة الزمنية، وهل هي قبل قيام ثورة 1952 حيث العلم المصري الأخضر يتوسطه الهلال الأبيض أيام الملكية، أم بعد قيام الثورة حيث تغير شكل العلم إلى ثلاثة ألوان: الأحمر والأبيض والأسود.
ويبدو أن الزمن لا يشكل أهمية كبرى بالنسبة للسمانة التي جاءت تستطلع المكان، ونفوس البشر، وتختبر عنصر المقاومة لديهم. وقد وجدت السمانة الفرصة مهيأة تماما لاستيطان قومها هذا المكان. فالمباني تآكلت ـ أي لم يعد لديها القدرة على المقاومة، إنها ستنهار مع أول صرخة ريح. والقوارب الصغيرة تناثرت فوق الرمال، دلالة إما على تعطل أصحابها عن العمل، أو انتهائهم من عملهم وانصرافهم إلى لهوهم ومتعهم. والوقت خريف حيث يخلو الشاطئ أو طريق الكورنيش ـ عادة ـ من المارة بعد انقضاء فصل الصيف وعودة المصطافين ـ والمستفيدين من وجودهم ـ إلى سابق أعمالهم، وتصبح المدينة خالية إلا من أهلها.
إن المكان السكندري، وهو رمز للمكان المصري بعامة ـ له وجوده الحي الملائم لهذه السمانة الرمز أيضا. فمحمد جبريل يحمل في وعيه هذا المكان ليس باعتباره الإسكندرية التي يحبها ويوظفها في معظم أعماله الإبداعية، ولكن يوظف المكان ـ الرمز ـ هنا باعتباره المكان الذي دلف منه الرومان إلى مصر بعد انتصار أوكتافيوس أغسطس على أنطونيوس وكليوباترا في موقعة أكتيوم البحرية سنة 31 ق.م، فكان احتلال الإسكندرية ثم مصر عام 30 ق.م، وهو المكان الذي دخل منه الفرنسيون في حملتهم على مصر في أول يوليه عام 1798، وهو أيضا المكان الذي دخل منه الإنجليز عام 1882.
لم يغب هذا التاريخ عن وعي السمانة، ولا عن وعي الكاتب التاريخي، لذا اختاره ليكون موقع الهجوم القادم لأسراب السمان التي جاءت من أوربا ـ مثلها مثل الغزاة السابقين ـ والتي غطت الشاطئ والشوارع والأزقة وأسطح البيوت، والشقق والدكاكين، حتى الكبائن المغلقة.
إن هذا الهجوم والاستيطان سيكون نقطة انطلاق الكاتب إلى قصة أخرى هي "حارة اليهود" التي حملت المجموعة اسمها، حيث نجمة داود المتداخلة في الأبواب والشرفات، مما يدل على دقة التنظيم والانتشار والنظام وحب العمل والكسب التي أشار إليها المؤلف في القصة الأولى. وكأن القصة الثانية التي دارت أحداثها في القاهرة، تأتي مكملة للقصة الأولى، وكأن محمد جعلص بطل القصة الثانية "حارة اليهود" يحقق رغبات الناس ـ في القصة الأولى ـ الذين تبين لهم أن السكوت عن المقاومة طريق إلى الجنون، فمحمد جعلص اكتوى بنار القروض والشيكات المؤجلة وبضائع الأمانة التي أغرقه فيها اليهود، ثم فجأة هطلوا عليه كالسيل دفعة واحدة يطالبون بأموالهم، فأفلسوه في يوم وليلة. لقد انتهز محمد جعلص فرصة ضرب أطفال اليهود لعلي الصغير، وطاح ـ هو ومن معه ـ في سكان حارة اليهود بالشوم والعصي والنبابيت والسكاكين والخناجر. ويأتي سؤال عبد العظيم هريدي في هذه القصة ذا مغزى ودلالة عميقة. فعندما يقول محمد جعلص بعد انتهاء المعركة: "علقة .. لن يعودوا بعدها إلى أذية الناس". يعلق هريدي بقوله: "هل تظن ذلك ؟". إن هذا التعليق أو التساؤل لم يزل في حاجة إلى إجابة، مثله في ذلك التساؤل الذي ورد في القصة الأولى: هل يعد السمان نفسه لإقامة طويلة؟. وهنا تبرز خصيصة من خصائص فن القصة القصيرة عند محمد جبريل تتمثل ـ كما سبق القول ـ في: التساؤل الذي يحمل في طياته الإجابة لمن أراد التأمل في واقعنا العربي.
ولعل المدقق في القصتين سيجد موقفا غريبا، أشرنا إليه إشارة سريعة في السطور السابقة، ولكن تؤكده قصة "حارة اليهود" تأكيدا باهرا وهو موقف رجال الشرطة من الأحداث. فمن خلال محتوى رمزي يشير المؤلف في القصة الأولى إلى أن أسراب السمان المهاجرة إلى الإسكندرية اكتفت بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها. ولم يشر المؤلف إلى أنه كانت هناك مقاومة من أي نوع، من جانب مأمور النقطة أو معاونيه، بل أنها أفرزت ـ من بين أسرابها ـ كل ما تحتاجه من جنود وعلماء وحرفيين وموظفين. وبالتأكيد كل هذا كان يتم تحت أعين رجال الشرطة في المنطقة. أما في القصة الثانية وبعد نجاح أسراب السمان في بناء حياتهم، وانتقال أحداث القص إلى القاهرة، فإن مأمور قسم الجمالية ـ صبحي أفندي منصور ـ لا يستطيع أن يفعل شيئا تجاههم، بل أنه أسرَّ إلى جعلص بأنهم يلقون عليه الوسخ من النوافذ وهو في بدلته الميري. ولنقتطع جزءا من الحوار الذي دار بين محمد جعلص والمأمور عندما ذهب جعلص يشكو للرجل ما حدث بين صغار اليهود وابنه علي:
(أذهله صبحي أفندي منصور، مأمور قسم الجمالية، عندما كلمه فيما حدث. أشار الرجل إلى كتفه، وقال في أسى واضح:
ـ ماذا تقول في إلقائهم الوسخ من نافذة، على مأمور القسم؟
غالب الدهشة: ـ كيف ؟
قال المأمور: كنت أختصر الطريق من الموسكي إلى القسم ..
(جعلص) في عدم تصديق: ربما لم يعرفوا من أنت؟
قال المأمور: والبدلة الميري ؟
ـ لعل الوسخ ألقي عفوا أو خطأ ؟
ـ والضحكات التالية لما حدث من المطلين في النوافذ والجالسين أمام الدكاكين ؟
(جعلص) وهو يضرب جبهته بقبضة يده: هذه مصيبة !
دلك المأمور بإصبعيه تحت أنفه: تكررت المصائب كثيرا في الفترة الأخيرة.
ـ هل تأذن لي في التصرف؟
قال الرجل وهو يعاني: أنا موظف رسمي .. أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات .. أما أنت .. وعلا صوته: تصرف يا جعلص.
ترى لو تنبه رجال نقطة الأنفوشي إلى وجود السمانة الأولى، وإلى خلو الصاري المرتفع بسراي رأس التين من العلم، هل كان الأمر يصل في الجمالية إلى ما وصل إليه، وأوردناه منذ قليل.
إن فشل مقاومة الحملة الفرنسية في الإسكندرية، أدى إلى دخول نابليون الأزهر بخيوله، وفشل مقاومة الإنجليز في الإسكندرية، أدى إلى احتلال البلاد لمدة 72 عاما. وعدم طرد أول سمانة ألقت نظرتها المتأملة على مباني سراي رأس التين، شر طردة، أدى إلى إفلاس محمد جعلص (رمز المواطنين) ، وإهانة صبحي أفندي منصور مأمور قسم الجمالية (رمز السلطة المصرية) على هذا النحو الذي صوره محمد جبريل ببراعة في قصة "حارة اليهود".
وربما يعود السبب في عدم طرد أول سمانة ظهرت في الآفاق وحطت على الصاري المرتفع، إلى ما عرف علميا عن السمان، فهو ـ حسبما جاء بموسوعة الحيوان الإلكترونية / قسم الطيور ـ طائر نادرا ما يراه الناس، وتشبه الأنثى الذكر في الحجم، ويفضل عند الفرار أن يجري وسط المزارع أكثر من الطيران، ويطير لمسافات طويلة جدا أثناء الهجرة، ويعيش في أوربا وآسيا، ويهاجر شتاءً إلى منطقة البحر المتوسط وأفريقيا، ويوجد غالبا في المناطق العشبية والحقول.
هنا تبرز خصيصة أخرى من خصائص فن القص عند محمد جبريل، سبق أن ألمحنا إليها، وهي: توظيف المعرفة العلمية توظيفا مناسبا لمحتوى القصة. ومن خلال المعلومات العلمية السابقة عن طائر السمان، نجد أن جبريل يبدأ قصته "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" بقوله: "بعد أن استقرت السمانة فوق الصاري"، وهنا يتحدث عن طائر السمان بأسلوب المؤنث، حيث لا يوجد فرق كبير بين الأنثى والذكر، وخاصة في الحجم، ولأن الصاري مرتفع فلم يبن على وجه اليقين أهو ذكر أم أنثى، وهو من خلال هذا العلو الشاهق لم يتبين منطقة الحنجرة التي تكون في الأنثى وردية اللون، ولعل استخدام الأنثى كمستطلعة في بداية القصة ثم مرشدة، يشير إلى أسلوب من أشهر أساليب اليهود في استخدام أو استعمال الأنثى أو المرأة في تعاملاتهم الحياتية (ومنها الدعارة على سبيل المثال). ثم إن هذه السمانة ألقت نظرة على الحديقة الواسعة برأس التين، وهو ما يتفق علميا مع أماكن وجود السمان في المناطق العشبية والحقول. ثم تفضيله لمنطقة البحر المتوسط في الشتاء، وها نحن الآن ـ أي في زمن القصة ـ في فصل الخريف، والشتاء على الأبواب.
لقد نجح محمد جبريل في هاتين القصتين في تضفير الواقعي بالرمزي، وفي الانطلاق من الرمزي إلى الواقعي، أو العكس، وهو كذلك في معظم أعماله الإبداعية بحيث يكسب القصة العربية القصيرة طعما مميزا، ووعيا متجذرا بالذات والموضوع. فتتحول الذات المنفعلة (محمد جعلص على سبيل المثال) إلى موضوع يكسبه دلالة واقعية وتاريخية على مر العصور.
أحمد فضل شبلول
الإسكندرية 15/6/2000م