يقول ألان روب جرييه : " ليست المشكلة هى تأسيس نظرية أو قالب موجود سلفاً نَصُبّ فيه كتابة المستقبل . وعلى كل روائى ، وكل رواية ، أن يخترع شكله الخاص ، وليس هناك وصفة يمكن أن تحل محل هذا التأمل الدائم " . ثمة مقولة إن الرواية نوع غير منته ، وقدرها أن تظل هكذا إلى الأبد . إنها تتسم ـ كجنس فنى ـ بالانفتاح واللانهائية . ما يشبه الإجماع النقدى على أن الرواية والقصة القصيرة هما النوعان القصصيان الحديثان اللذان جاوزا التعريفات والقوانين النقدية . وقد نشأت القصة الحديثة ـ فى تقدير أوستن وارين ورينيه ويلك وغيرهما ـ من الأشكال السردية غير الخيالية ، كاليوميات والمذكرات والرسائل والسير والتاريخ ، وأيضاً من خلال النادرة والخبر والطرفة والملحة وغيرها . [ وهو ما يخالف قول محمود أمين العالم : " ليس من الدقة أن نسعى إلى تلمس مصادر القصة العربية فى تاريخ الأدب العربى القديم ، وفى القرآن ، والأساطير الشعبية والحكايات والمقامات وكتب الأخبار " ـ الثقافة الوطنية ـ فبراير ـ مارس 1954 ] . ثم خالفت القصة الحديثة ـ فى محاولاتها للتجريب ـ كل الأبنية القصصية المعروفة ، وحطم كتاب القصة القصيرة والرواية المحدثون كل البنى القصصية المألوفة ، أو المتعارف عليها ، أو حتى التى حاولت التجريب دون أن تجاوز صفتها الإبداعية . أصبح مصطلح الرواية والقصة القصيرة ـ على سبيل المثال ـ مطاطاً . تلامس مع الملحمة والسيرة والمسرح والسيرة الذاتية إلخ . فالحيرة التى واجهها النقد فى النظرة إلى أيام طه حسين ، أو خليها على الله ليحيى حقى ، باعتبارها عملاً روائياً أو سيرة ذاتية ، تلك الحيرة تجد مرساها فى نسبة السيرة الذاتية إلى فن الرواية ، فالأيام أو خليها على الله إذن سيرة ذاتية ورواية فى آن . ولا يخلو من دلالة قول شلوفسكى إنه لم يعثر بعد على تعريف للقصة القصيرة . ثمة روايات وقصص جيدة دون أن يكون لها منظور جيد . إنها تعبير عن الإبداع الفنى وليس نظريات النقد . أهملت بعداً أو اثنين من الأبعاد الثلاثة : الحدث والزمان والمكان . وثمة أسماء لأشكال أدبية تتصل على نحو أو آخر بفن القصة القصيرة : القصيدة النثرية ، الخرافة ، الحكاية ، الطرفة ، الملاحظة ، الحدوتة ، اللوحة ، الفصل فى رواية ، إلخ .. وهناك القصة المضادة ، أى التى تهمل المتعارف عليه فى فن القصة ، مثل الزمان والمكان والمنظور والحبكة والشخصيات واللغة إلخ . وعلى سبيل المثال ، فالقول بأن الرواية ليست مجموعة من القصص القصيرة ، مقابلاً لأن القصة القصيرة ليست جزءاً من الرواية . ذلك القول لم يعد وارداً فى الحقيقة . قد تطالعنا رواية هى مجموعة من اللوحات المنفصلة ، المتصلة [ أذكرك بروايتى رباعية بحرى بأجزائها الأربعة ] وقد تأتى فصولاً فى رواية ، يشكل كل فصل ما يعد قصة قصيرة . والمجموعة القصصية قارب الجليد لإدوارد ماييا E Maelle يمكن قراءتها باعتبارها كذلك ، أو باعتبارها فصولاً تشكل رواية . وأيضاً رواية البنتاجون لأنطونيو دى بنيدتو Antonio Di Benedetto كتبها الفنان فى شكل قصص قصيرة . وقد دخلت العظات والخطب والرسائل فى نسيج السرد . والمتواليات القصصية قد تأتى ـ كما أشرنا ـ فى صورة لوحات منفصلة ، ومتصلة ، أو حكايات سردية تتعدد فيها الشخصيات والأمكنة . وثمة القصة التى لا تسرد شيئاً ، أو التى تخلو من الحدث والشخصيات والحبكة . وثمة تقطع الحكاية ، والقص واللصق [ الكولاج ] وتحليل اللاشعور من خلال وجهات نظر الشخصيات ، والمناجاة الذاتية ، والنثر الغنائى . الحكاية تختلف عن القصة القصيرة فى أن لها دلالة واضحة ، لكن الحكاية ذات الدلالة هى الكثير مما يطالعنا الآن باعتباره قصة ..
وإذا كانت الرواية الجديدة قد نشأت حوالى 1910 على يد فرجينيا وولف ، فإن الجدة فى الرواية متكررة ، ومتواصلة ، ومن الصعب القول إنها ستنتهى . الرواية ـ فى تقدير باختين ـ مجموعة من العمليات المفتوحة داخل حقل الكتابة . إنها لا تكون . فليس لها مجموعة من الخصائص الشكلية التى يمكن أن تحدها ، لكنها " تصير " ، فهى تتغير باستمرار وتتطور ، لكن ليس فى اتجاه محدد ، أو مرسوم سلفاً ، يمليه نظام للعلاقات بين الشكل الأدبى والبنية الاجتماعية التى تميز ظروف نشأته ( ت : خيرى دومة ) . ما يشبه الإجماع على أنه لم يعد هناك مالا تقبله الرواية ، وأن كل الأجناس ، وكل الحيل ، تخدم التقنية الروائية . أشير ـ ثانية ـ إلى روايتى رباعية بحرى . كل لوحة مستقلة بنفسها ، لكنها متصلة باللوحات التى سبقتها ، واللوحات التى تليها . تتشكل من توالى اللوحات بانوراما متكاملة ، بوسعنا أن ننسبها إلى الإبداع الروائى . وإذا كنت قد وصفت روايتى الحياة ثانية بالتسجيلية ، فلأن السرد يروى ما جرى بالفعل . لم أضف ، ولم أحذف ، اللهم إلاّ ما تصورته صياغة أدبية وتقنية . أما روايتى مد الموج فهى تنتسب إلى جنس الرواية ، لأنها تلتزم بتقنية الرواية ولغتها ، وإن اقتصر السرد الروائى على تبقيعات نثرية من سيرة حياة . وقد أفدت فى " البحر أمامها " من تقنية السرد المنفصل ، المتصل ، فى بنية روائية واحدة ، تتراكم فيه العلاقات والرموز والإيحاءات والإشارات والعبارات المضمرة والموحية .
***
إذن ، فالاتهام الذى يواجهه التراث القصصى العربى متمثلاً فى القصة والحكاية والنادرة وغيرها ، أنه لا يشابه القصة كما نعرفها اليوم .. هذا الاتهام يحتاج إلى مراجعة شديدة ، وبالذات فى ضوء اتساع مساحة الأشكال الفنية فى القصة الحديثة ، بصرف النظر عن الثقافة التى تصدر عنها . والقول بأن زينب هى بداية الرواية المصرية الحديثة يحتاج الآن كذلك إلى مراجعة ، لا لأن الروايات التى سبقتها [ حوالى 130 رواية ] لم تخضع لتقويم من أى نوع ، بحيث تستحق زينب الصفة التى وسمها بها يحيى حقى وآخرون ، لا لذلك السبب فحسب ، وإنما لأن فنية الرواية بالمعنى التقليدى لم تعد واردة . وإذا كان من السهل تقبل الرأى بأن الرياح التى تهب من أوروبا حملت ـ فى أوائل القرن العشرين ـ بذرة غريبة على المجتمع المصرى ، هى بذرة القصة ( فجر القصة المصرية ص 21 ) فإن ذلك الرأى يحتاج ـ فى ضوء المعايير الحالية لفن القصة ـ إلى إعادة نظر . نعم ، كانت القصة بذرة غريبة على المجتمع المصرى فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، القصة بقواعدها الكلاسيكية ، بخصائصها الموباسانية من بداية ووسط ولحظة تنوير . وهى قواعد وخصائص تجاوزتها التيارات والاتجاهات الفنية الحديثة بصورة مؤكدة . لم تعد صرامة البداية والذروة ولحظة التنوير ـ كما أوردها رشاد رشدى فى كتابه عن فن القصة القصيرة ـ مطلوبة . ما بعد الحداثة تذهب إلى أن " كل نص جديد إنما يكتب مكان نص أقدم " . بل إن بورخيس يحرص على التأكيد أنه لا أحد يمكنه أن يدعى الأصالة فى الأدب . كل الكتّاب ـ فى تقديره ـ ناسخون ومترجمون ومفسّرون للنماذج الأصلية المتوالية بتوالى الإبداعات ، فى توالى العصور ..
***
السؤال الذى يطرح نفسه : كيف تعتمد محاولات توظيف التراث العربى فناً قصصياً ، ولا تعتمد التراث العربى نفسه ـ بكل ما يشتمل عليه من فيض حكائى وأشكال قصصية ـ فناً قصصياً ؟! وعلى سبيل المثال ، فهل تختلف مشاهد الواقعية السحرية عن مشهد الباب المغلق ؟.. يصر الرجل على فتحه لرؤية ما وراءه . يجد حصاناً ، يفك قيده ، ويمتطيه . يطير الحصان ، وينزل به على سطح ، ويضرب بذيله ، فيتلف عينه اليسرى ؟!.. ألا نجد فى ذلك المشهد ـ وسواه ـ مدخلاً لواقعية أمريكا اللاتينية السحرية ؟!
***
لامست تخوم القصة أجناساً أدبية وفنية أخرى ، واختلطت بها وتشابكت ، وانتسبت جميعها إلى الإبداع القصصى ، بحيث انتفى التحديد الصارم لماهية القصة . بل إن صديقى عبد الله أبو هيف يذهب إلى أن تحديد عناصر القصة لا يعنى الركون إلى نظرية الأجناس الأدبية ، لأن فن القصة أنجب أجناساً متعددة فى القديم والحديث (القصة العربية الحديثة والغرب ـ 38 ) . وكما يشير كونديرا ، فإن معظم الروايات الحديثة ـ بالمعنى الزمنى وليس بمعنى الحداثة ـ تقف خارج دنيا الرواية . لقد أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية : المونتاج والتبئير ، والزاوية القريبة ، والمزج ، والقطع ، والتناوب ، والاسترجاع ، وحذف علامات الترقيم ، والاستغناء عن أدوات الواصل . وتبادلت الرواية ـ والسينما بعامة ـ التأثر والتأثير . وثمة الاعترافات المصاغة فى شكل روائى ، والسير الذاتية للمبدعين ، والمشكلات والقضايا الأخرى التى تنسب إلى الرواية بالشكل وحده ، وثمة القصة المقال ، والقصة السرد ، والقصة اللوحة ، والقصة الرسالة ، والقصة الخاطرة ، والقصة الرحلة ، إلخ . وثمة تعاظم دور المتلقى بديلاً لسلبية القراءة ، وتداخل السرد بالمونولوج الداخلى ، والمزج بين الواقع والخيال ، والحسية والأسطورية ، وأنسنة الحيوان والأشياء . طرأ على نظرية القصة عموماً ما بدّل من النظرة الثابتة إليها ، كالشكلانية والبنيوية والتكوينية واللسانية وغيرها . لذلك فإنى أجد فى ما بعد الحداثة ما يحمله التراث العربى ، فأنسب إلى القصة والرواية ، ما تناثر فى كتب العرب من الخرافة ، والتاريخ ، والسيرة ، والحكاية ، والخطابة ، والتهذيب ، والشعبية ، والخبر ، والطرفة ، والملحة ، والرحلة ، والحلم ، وغيرها من فنون السرد العربى . ثمن زوجة قصة لنجيب محفوظ ، نشرها ضمن مجموعته همس الجنون تتحدث عن الزوج الذى يضبط زوجته فى موقف الخائنة ، ويدبر حيلة يدفع بها الزوجة إلى الانتحار دون أن يكون هو المتسبب بصورة معلنة . هذه القصة تذكرنا بحكايات العرب ونوادرهم وأخبارهم . القصة لا تستدعى التراث ولا توظفه ، لكن ملامح التراث تبدو واضحة بما لا يخفى . أنت تستطيع أن تتعرف إلى حيل الأزواج فى كشف خيانات زوجاتهم ، فى الكثير من حكايات العرب ونوادرهم . ولو أننا بدلنا الأسماء والمسميات ، وتحول البيت إلى خيمة ، والريال إلى درهم ، فستطالعنا حكاية ذكية من تراثنا العربى . أذكر بالحكاية التى جاءت فى " وفيات الأعيان " عن حب أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان ، وزوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك ، لوضاح اليمن الشاعر . أخفته ـ ذات يوم ـ فى صندوق بعد أن دخل عليها الخليفة فجأة . وفطن الوليد إلى ما حدث ، فدعا الخدم وأمرهم بحمل الصندوق إلى شفير بئر ، ثم قال له : يا صاحب الصندوق ، إنه بلغنا شىء ، إن كان حقاً فقد دفناك ودفنّا ذكرك إلى آخر الدهر ، وإن كان باطلاً فإنما دفنّا الخشب . ثم قذف الخدم بالصندوق فى البحر ، وأهالوا عليه التراب ، وسويت الأرض " فما رؤى الوضاح بعد ذلك اليوم ، ولا أبصرت أم البنين فى وجه الوليد غضباً ، حتى فرق الموت بينهما " . لقد تعمد كلّ من الزوج والخليفة ألا يشير إلى ذلك الكابوس ـ بعد انقضائه ـ بتلميح أو تصريح ، ولا ذكره بخير أو شر ، ولا أجرى بسببه تحقيقاً ، ولا أثار عنه سؤالاً ، وطالع الزوجة بوجه هادئ كأنه شخص آخر غير الزوج المطعون . استعان حمدى فى ثمن زوجة بهدوئه ، وخطط للانتقام دون أن يصارح أحداً بما ينوى فعله . وهو ما فعله الخليفة . وكان الريال مساوياً للصندوق الذى اختفى فيه الشاب العشيق ، وإن اختلفت النهاية بين القصة والحكاية ، فقد قتل العشيق فى الحكاية ـ الأدق أنه قَبِل القتل! ـ أى أنه انتحر ـ بينما انتحرت الزوجة فى القصة ( محمد جبريل : عود على بدء ـ فتوة العطوف لنجيب محفوظ ) . لا تباين فى دلالات العملين ، وإن اختلفت فنية التناول ..
من الصعب أن ندعى غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية ، والقصة العربية ـ بل والقصة بعامة ـ فى أحدث معطياتها . القول بأن الصياغة العربية تخالف الصياغة التى تضيف إلى فنية القصة ـ وتمثل فيها بعداً أساسياً .. هذا القول يبدو خافت الصوت إلى حد التلاشى فى ضوء التيارات الفنية الأوروبية الحديثة نفسها ، كاللاقصة ، واللاحكاية ، وتوظيف التراث إلخ . ولعلى أعيد التأكيد على أن القصة الحديثة لم يعد لها إطار ولا مدى محدد . ثمة قصيدة تسرد قصة ، وثمة قصة هى أقرب إلى قصيدة النثر ، وبعض المقالات تكتمل فيها مقومات القصة القصيرة ، بل إن بعض قصص بورخيس المتفوقة ليست إلا عروض كتب أو مقالات نقدية . وعلى سبيل المثال ، فإن إبداعات بورخيس تعاملت مع التراث الإنسانى باعتباره تراثه القومى . أعلن أن تراثه هو ثقافة العالم ، فلا يظل حبيساً داخل الحدود الضيقة لمدينة بذاتها ، ولا لبلد ذاته ، ولا لقارة محددة . إبداعات بورخيس تطالعنا بالكثير من الاقتباسات والمقارنات والإشارات . لم يحبس بورخيس قراءاته ولا أفكاره ولا إبداعه ، فى سجن التراث القومى لبلاده مثلما فعل الأوروبيون . انطلق فى كتاباته إلى الآفاق الثقافية الرحبة . استوعب أساطير اسكندنافيا ، وسير الشرق العربى ، وشعر الأنجلو ساكسون ، وفلسفة الألمان ، وأدب العصر الذهبى بأسبانيا ، وشعر الإنجليز ، وشعر هوميروس ودانتى ، وضفّر فى أعماله آيات القرآن ، وأحاديث الرسول ، وليالى ألف ليلة وليلة ، والعديد من الطرف والنوادر والحكايات والإشارات الثقافية ، مما يزخر به التراث الإبداعى العربى ، بالإضافة ـ طبعاً ـ إلى التراث الإبداعى الغربى كنثر ستيفنسون وحكايات الساجا الآيسلندية وغيرها . ثمة تكامل فى إبداع بورخيس بين الشعر والقصة القصيرة والمقال .. ذلك كله يصب فى بوتقة واحدة ، من الصعب أن تميز فيها بين جنس فنى وآخر . تداخلت مستويات القص . لم يعد الفضاء الروائى أو القصصى ينتهى بتلك الحدود الحاسمة التى كان يشترطها النقد قبل نشوء الاتجاهات الفنية والنقدية الحديثة . تشابكت المسميات والصفات ، واختلطت ..
***
باختصار ، فإنى أومن بالتراث ، بوعيه وجدواه ، وإمكانية استعادته واستمراره ، تواصلاً مع المعطيات المعاصرة والحديثة . وكما يقول أندريه موروا ، فإن كل قارئ من قراء القرن العشرين ـ أضيف : الحادى والعشرين ـ يعيد ـ لا إرادياً ـ كتابة روائع القرون الماضية بطريقته الخاصة .
.......................
الهلال ـ مارس 2002 م.