تشيع العشائر .. 3 .
وكان قيام النجف وكربلاء بوظيفة مدن سوق صحراويه ومخازن حبوب في العراق قد جعل المدينتين قناة اتصال هامه بين العشائر . اذ كانت الرحله السنويه لعشائر العراق والصحراء السوريه والجزيره العربيه , الرحل , تدور حول موسمين . ففي موسم الأمطار كانت العشائر تتوجه نحو الرعي في المناطق الصحراويه ولكنها بين اوائل نيسان وأواخر تشرين الأول كانت توجد قرب المناطق الريفيه – المزروعه بحثا عن الماء والغذاء . وكان هذا يتزامن مع موسم حصاد القمح والشعير في جنوب العراق , حيث يبدأ في نيسان . وقبل منتصف القرن التاسع عشر كانت الحله سوقا عشائريه كبيره ومركزا للتبادل . وفي حين ان النجف كانت خربه تقريبا حتى القرن الثامن عشر فقد كانت لدى كربلاء امكانية الاضطلاع بهذا الدور حينذاك بسبب عمق اراضيها الأخصب نسبيا واصلاح قناة الحسينيه . ولكن , فاعلية النشاط التبشيري الشيعي لم تتحسن بصوره ملحوظه الا بعد الزيادة الكبيره للاراضي المزروعه حول النجف وكربلاء منذ القرن التاسع عشر نتيجة شق قناة الهنديه .
لقد أعطت قناة الهنديه دفعه قويه للموقع الاقتصادي لمدينتي النجف وكربلاء اللتين ظهرتا بوصفهما مدينتي السوق الصحراويه الرئيسيتين في العراق . وتولت النجف القيام بدور السوق التجاريه للصحراء منذ القرن التاسع عشر حين جف شط الحله . وكانت حقول الرز الرئيسيه في العراق قد نشأت على امتداد قناة الهنديه , وخاصه بين طويريج والكوفه , وفي منطقتي الشاميه والسماوة القريبتين من النجف . وبحلول القرن العشرين كانت النجف قد فاقت كربلاء في أهميتها كمدينة سوق صحراويه . وبالاضافه الى موقعها كمدينة سوق صحراويه لبيع الحبوب والرز والتمور والأقمشه , كانت النجف مركزا لتجميع الصوف وجلود الأغنام والابل . وكانت تجتذب القبائل من الجزيره العربيه والصحراء السوريه , مثل فروع عنزة الرحل . وكانت القبائل تضرب خيامها في منطقه قريبه من المدينه تسمى " المناخه " حيث كان يجري الكثير من التبادل التجاري . وكانت كربلاء تتولى بالدرجه الرئيسيه تلبية حاجات الرحل من عشائر الشمر والعمارات وعشيرة بني حسن التي تمارس الرعي وتربية الحيوانات .
وعمل ازدياد تفاعل النجف وكربلاء مع العشائر وخاصة خلال القرن التاسع عشر , على تمكين الدعاة الذين انطلقوا من هاتين المدينتين , من اشاعة الاسلام الشيعي بين ابناء العشائر بصوره أشد فعاليه بكثير من الفترات السابقه . ان شق قناة الهنديه هو الذي أسفر , عن اجتذاب عدد كبير من العشائر الى المنطقه الواقعه بين النجف وكربلاء , وبذلك تم تطوير العلاقات بين هاتين المدينتين والعشائر .
بنيت قناة الهنديه التي مولت من حسن رضا خان , وزير " أوذة " الأول , في ثمانينيات القرن الثامن عشر , لنقل المياه الى النجف العطشى دائما . وأنجز بناؤها بعد عام 1803 ببعض الوقت . وتحسن تدفق الماء في القناة تحسنا كبيرا في منتصف القرن التاسع عشر بعد اجراء ترميمات واسعه , أيضا بتمويل من موارد شيعة الهنود .
ولم تضمن قناة الهنديه ازدهار النجف في القرن التاسع عشر فحسب بل وأحدثت تغييرات مائيه وبيئيه كبيره في جنوب العراق ووسطه . اذ كانت القناة تتفرع عن الفرات في نقطة تبعد حوالي خمسة اميال جنوب المسيب . وفي الفتره الممتده من 1860 الى 1865 بدأت تستنزف ماء الفرات , وفي الفترة مابين 1865 و 1890 كانت قناة الهنديه تسحب القسم الاعظم من ماء النهر مغيّرة مجراه . ونمت قناة الهندية لتصبح نهرا يمتد حوالي 73 ميلا قبل ان يصب في بحيره قرب النجف ( بحر النجف ) . والسد الذي أقامه العثمانيون في عام 1890 لم يفشل في اعادة الفرات الى مجراه السابق فحسب بل وتسبب في توجيه كل مائه نحو الهنديه 1903 . ولقد أخل بناء قناة الهندية بالتوازن المائي التقليدي بين ضفتي الفرات الغربيه والشرقيه . فان أعالي الضفه الغربيه غمرت لتجعل الزراعه متعذره , فيما جفت المنطقه القريبه من الحله بصوره تدريجيه لأان مجرى شط نهر الحله أصبح ضيقا وبطيئا . وفقدت الحله موقعها كمركز زراعي وتجاري . وعلى النقيض من ذلك اتسع الارواء على امتداد قناة الهنديه , وأصبحت المنطقه المحيطه بها منطقة مزروعه بشكل حسن . وازدادت المساحات المرويه حول النجف زياده أكبر مع شق ثلاث قنوات أصغر في أواخر القرن التاسع عشر , موّلت القناة الاولى من حاكم كرمان الايراني والباقيتين من قبل العثمانيين .
وأجبرت العشائر العديده في دائرة نفوذ الخزعل على هجر منطقة شط الحله , والاستقرار على امتداد قناة الهندية , مثل بني مالك ( وفروعها البني حسن وبني زريج وال علي وال فرج والعوابد والحميدات وال اسماعيل وال ابراهيم ) , وكذلك الشليحات وال فتلة والقريّط . وكان اجتذاب العشائر الكثيره الى المنطقه المتزايدة الخصوبه على طول الهنديه , بين كربلاء والنجف , قد كشف المستوطنين الجدد لتأثير المدينتين . وكانت النجف وكربلاء في موقع يمكنهما من القيام بدور العصب المركزي , وبث اشعاع من القوة الفعاله الى أفراد العشائر , أكثر من أي وقت مضى .