* زمـان *
........

لما أصر جيران الطابق العلوى على أن تغنى شقيقتى الكبرى فى السرادق المقام فوق السطح ، ووافق أبى ، أدركت أن هذه هى الفرصة التى طال ترقب شقيقتى لها . كانت تحب الغناء . تكتفى بالدندنة الهامسة . إن علا صوتها بالانسجام ، نهرها أبى : بس يا بنت !. بعد رحيل أمنا ، وجدت نفسها مسئولة عن البيت قبل أن تبلغ الرابعة عشرة . تنازلت عن الكثير من طموحاتها ، ومنها أن تمضى فى خطا ليلى مراد ، فتصبح مطربة مشهورة ..
كان أبى مثقفاً ليس بمجرد الحصيلة المعرفية ، وإنما باستنارة آرائه ، وإلحاحه الدائب على المثل الأعلى ، والأكثر جدوى لجماعة الناس . ولم يكن يخفى إشفاقه من المسئولية التى بدلت حياة شقيقتى فى سن باكرة .. لكن السير فى حقل الألغام المسمى " الفن " ـ هذا هو التعبير الذى يحضرنى ـ كان يزعجه . ألمح الإعجاب فى تعبيرات وجهه بدندناتها الآتية من المطبخ . فإذا تحولت الدندنة إلى غناء حقيقى ، أسكتها ـ من موضعه ـ بنبرة حاسمة ..
فاجأت أختى ـ وفاجأتنى ـ موافقة أبى على أن تغنى فى حفل الجيران . تصورت الحفل مناسبة لتقديم الصوت الجميل . ينصت إليه من يعجب به ، فيقتنع أبى بأن تسير فى الطريق إلى نهايتها ، وتصبح ـ كما كنت أتمنى ـ فى مكانة مطربتنا المفضلة ليلى مراد ..
وقفت فى آخر السرادق ، أنصت إلى غناء أختى : اتمخطرى واتمايلى يا خيل . أعتبر استعادة الحضور اعترافاً بجمال صوتها ، وإن لم يجاوز ما حدث حفلاً حضره بضع عشرات ، غالبيتهم من ربات البيوت والأطفال ..
تزوجت شقيقتى ، وأنجبت ، وعملت مدرسة فى ليبيا مع زوجها مهندس البترول . تزور الإسكندرية فى إجازة الصيف . نتذكر ما كان .
أقول لها مداعباً :
ـ لا أستغرب أن تكون ليلى مراد تآمرت عليك ، حتى لا تأخذى مكانتها !