وثيقة تاريخية حول البيئة في الإسلام

*******
التربية البيئية في الإسلام

(الجزء الثاني)

5- طور الإسلام علاقة الاحترام والعطف، حتى مع بقية الكائنات الحية سوى الإنسان، وفي ذلك حماية لمكونات أساسية في البيئة، وحفاظاً على النظام البيئي من التدهور، فعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته؛ فرأينا حُمَّرة معها فَرْخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرة فجعلت تفرش، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها) رواه أبو داود في سننه، كتاب [الجهاد]، رقم (2675) وفي كتاب [الأدب].حُمَّرة: طائر صغير كالعصفور. تفرش: ترفرف بأجنحتها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:... قالوا يارسول الله وإن لنا في البهائم أجراً ؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر) رواه البخاري كتاب [المساقاة]، رقم (2234). ومسلم كتاب [السلام]، رقم (2244)، وأول الحديث: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش)
.

وجاء في وصية أبي بكر الصديق لأسامة بن زيد عندما وجهه إلى الشام قوله: (ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة). وهذا عمر بن الخطاب يقول وهو في المدينة المنورة: (لو هلك حمل من ولد الضان ضياعاً بشاطىء الفرات، خشيت أن يسألني الله عنه) إن هذا الإدراك في حقيقة الأمر تعبير عن حس إنساني سليم، وفهمٍ كامل لروح الإسلام في احترام مكونات البيئة، وسبقٌ في إعطاء المعلومات عن التربية البيئية، في وقت لم تكن البيئة تعاني من ضغوط عليها كما في هذه الأيام، ولم يكن هناك بعدُ أيّ ذكر لمعلومات تتعلق بالبيئة.
1- أما في مجال حماية البيئة الإنسانية من الفقر وتطوير الحياة الاقتصادية:

آ- فقد أكد الإسلام على أهمية العمل واحترام الأيدي العاملة، ودعا إلى الكسب الحلال، وبحسب عمل المؤمن، واتساع دائرة نشاطه، يكون نفعه وجزاؤه، قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} سورة النحل: [الآية: 97 ]، وطالب الإسلام العامل بالأمانة قال صلى الله عليه وسلم: (من غش فليس منا) رواه القضاعي عن ابن عمر من جزء من حديث مبدؤه ( يا أيها الناس لاغش بين المسلمين ) [ كشف الخفاء 2/350 ].
وطالبه بالإتقان، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن عمله)رواه البيهقي عن عائشة [ كنز العمال 3/907 ].
وقال: (من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له) رواه الطبراني عن ابن عباس [ كنز العمال 4/7 ]، كما أمره بالوفاء بالعقود والمعاهدات، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} سورة المائدة [ الآية: 1 ].
ب- ومن جهة أخرى فقد وضع الإسلام قواعد إيجابية في استثمار الأراضي والانتفاع بها، وبذلك يقضي الإسلام على مشكلة كبيرة تعاني منها شعوب كثيرة، ألا وهي مشكلة التصحر؛ نتيجة إهمال الأراضي الزراعية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه) رواه البخاري في صحيحه، كتاب [الهبة]، رقم (2490)، عن جابر.
فالمسلم مطالب بأن يزرع أرضه بنفسه، أو يتيح لغيره زراعتها دون مقابل، أو يعطي أرضه لمن يزرعها ويتحمل جانباً من نفقات الإنتاج مقابل شطر من الناتج، وهي المزارعة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها) رواه البخاري في صحيحه، كتاب [المزارعة]، رقم (2210). ورواه أحمد في مسنده (باقي مسند الأنصار)، رقم (24362) عن عائشة. بلفظ: (من عمّر...).
ج- وفي مجال التنمية الاقتصادية فإن النشاطات الإنسانية في مجالات الإنتاج والتنمية والتوزيع تحكمها قاعدة الحلال والحرام، فالحلال هو ممارسة النشاطات النافعة للبيئة الطبيعية والإنسانية، أما الحرام فهو النشاطات التي تؤذي البيئة الطبيعية أو الإنسانية، ومن هنا فقد نظر الإسلام إلى الإنتاج النافع كواجب، ولا يكتمل هذا الواجب الديني إلا به.
وبهذا فإن الإسلام ينظر إلى الصناعات ضمن منظور مدى ضررها على البيئة وحماية المجتمع الإنساني، ويمنع الجشع من وراء التطور الصناعي، وما ينتج عنه من تخريب الوسط الغازي والصلب والمائي، كما حدث اليوم، فالحديث النبوي الشريف يضع الناظم لمدى التطور الصناعي وعلاقته مع حماية البيئة بكل جوانبها، فيقول الرسول الكريم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه مالك في الموطأ، كتاب [الأقضية]، باب (القضاء في المرفق)، رقم (1461). وابن ماجه في كتاب [الأحكام]، باب (من بنى فيما يضر بجاره)، رقم الحديث (2340)، قال في الزوائد: هذا إسنادٌ رجاله ثقات إلا أنه متقطع. كما رواه ابن ماجه تحت رقم (2341) قال في الزوائد: في إسناده جابر الجعفي، متهم. ورواه أحمد في مسنده.
د- وضع الإسلام حداً قاطعاً للتدهور البيئي الناتج عن الفقر، وهو ما يعاني منه ملايين الناس في العالم، وسد منافذ الفقر، فما آمن بالله ساعة من نهار، من أمسى شبعان وهو يعلم أن إنساناً جائعاً في مجتمعه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به) رواه البزار والطبراني عن أنس، (كنز العمال: 9/53).

ونظر الإسلام إلى الفقر على أنه خطر على العقيدة، وخطر على الأخلاق، وخطر على الأسرة، وعلى المجتمع. فوضع علاجاً للفقر من خلال فريضة الزكاة، ونظام الميراث، والإنفاق بأموال الكفارات والأوقاف وغيرها.

هـ- وفي مجال التنمية الاقتصادية ومكافحة الفقر أيضاً، عمل الإسلام على التقريب بين الطبقات؛ بتحريم الكنز ومظاهر الترف،وحث الإسلام على التعاون، والقرض الحسن ابتغاء مرضاة الله، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان} سورة المائدة: [الآية: 2]. وذم الإسلام البخل والرياء والمن والأذى، وحارب الغش والاحتكار.

و- الإسراف والتبذير في الموارد يزيد في تضخم مشكلة تدهور البيئة، لذلك وضع الإسلام قواعد تمنع أي هدر في أي مورد، قال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} سورة الفرقان: [ الآية: 67 ].
وقال: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} سورة الأنعام: [ الآية: 141 ]، وقال: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}(سورة الإسراء: [ الآية: 27 ].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعدٍ وهو يتوضأ: (ما هذا السرف يا سعد؟)، فقال أفي الوضوء سرف؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم، وإن كنت على نهر جار) رواه الحاكم في الكنى، وابن عساكر، عن الزهري مرسلاً (كنز العمال ج9/327).
وقال صلى الله عليه وسلم لأعرابي سأله عن الوضوء، فأراه صلى الله عليه وسلم الوضوء ثلاثاً ثم قال: (هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى أو ظلم) رواه النسائي في سننه، كتاب [الطهارة]، رقم (140). وروى نحوه أبو داود، كتاب [الطهارة]، رقم (135)، وابن ماجه، كتاب [الطهارة]، وأحمد في مسنده (مسند المكثرين).
فإن كان في الوضوء سرف وهو مدخل للعبادة، فكيف بالإسراف والتبذير الذي يتعدى حدود الحلال، والذي يُنَفَّذ بشكل واسع عند كثير من الأمم على مستوى الأفراد والجماعات والدول ؟!
ز- والزراعة من الموارد الأساسية التي تحمي بيئة الأرض، وقد أولاها الإسلام عناية متميزة، وجعل الاهتمام بها عبادة. فعن أنس رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً؛ فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة) رواه البخاري في كتاب [الحرث والمزارعة]، باب (فضل الزرع والغرس) إذا أُكِلَ منه، حديث رقم (2320)، عن أنس، كما أخرجه مسلم في كتاب [المساقاة]، باب (فضل الغرس والزرع)، رقم (1552)، عن أنس.). ويقول أيضاً: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) رواه ابن عدي ج6/2294، وانظر: موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف لبسيوني زغلول ج1-أ/367.
فهل هناك شيء أبلغ من هذا في تربية الإسلام البيئية؛ لحماية موارد الأرض النباتية، وإغنائها؟
وهكذا ففي الوقت الذي تخلف فيه القانون الدولي البشري كثيراً عن الانطلاق نحو قاعدة بيئية للتنمية، والاعتراف بحقوق الأجيال الحالية والمقبلة، في بيئة ملائمة لصحتها ورفاهها، وحماية تلك الحقوق، نجد أن رسالة الإسلام قد اهتمت عن طريق التربية بتنظيم العلاقة بين مكونات البيئة، فوضعت نواظم وضوابط لمعاملة الإنسان مع نفسه، ومع الآخرين، ومع الأحياء، وكذلك نظمت العلاقة بين الإنسان وبين موارد الأرض والسماء، ودعت إلى حمايتها، والحفاظ عليها، وإنمائها، وسخرت لتحقيق تلك الغايات تربية شاملة ممتدة مدى الحياة، من أجل هندسة سلوكية لإنسان متكامل يحمل حساً بيئياً سليماً وعميقاً، لارتباطه الدائم مع موجد البيئة، ومصمم قوانينها.
كل ذلك يجعل الإنسان المسلم يقدّر البيئة الإنسانية والطبيعية، ويقيها من التدهور والدمار، من أجل تحقيق بيئة الأمن والسلام على الكرة الأرضية. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}سورة الأنبياء: [ الآية: 104 ].
والحمد لله رب العالمين

********
د. أبو شامة المغربي