الفصل الأول من الرواية
--------------------

ـ 1 ـ
عزيزى الأديب الشاب صلاح بكر . لم تعد العبارة تجتذبنى . لا أشعر وأنا أقرأها بما كان يملأ نفسى من الزهو . بدت الطريق بلا نهاية ، أو مسدودة . يترك لى الرسالة الصغيرة فى مظروف مغلق . عزيزى الأديب الشاب . يتبعها بعنوان التحقيق الذى يطلبه . قلت لقاءاتنا ، أو اختفت تماماً . تصور ـ ربما ـ أن الخطوة الأولى تليها بقية الخطوات ..
لم يكن ذلك ما تطلعت إليه ، ولا أحببته ..
ما معنى أن أكتب ما ينشر باسم غيرى ؟ ..
المصادفة ـ وحدها ـ هى التى نبهتنى إلى خطأ ما أفعله . عزيزى الأديب الشاب صلاح بكر . أرجو أن تكتب دراسة فى نحو ست صفحات عن مكاسب مصر من تحركات وزارة محمود فهمى النقراشى ..
حين ترك رسالة يتعجل فيها الدراسة ، كنت قد أعددت المراجع ، وراجعت ـ فى مكتبة البلدية ـ صحف السنوات الفائتة . كتبت أسطراً قليلة ، ثم مزقتها . كتبت ومزقت . بدت لى الكلمات باردة وبلا معنى . لم أجد فى داخلى إلا الخواء . حركت القلم ـ بمعاناة الفراغ ـ فى خطوط ودوائر وتقاطعات وتشابكات . ثم انشغلت ـ يائساً ـ بالقراءة . أتوقع ، أتمنى ، أن تستفزنى ..
أزمعت أن يقتصر ما أفعله على القراءة والتأمل . لا أتردد على قهوة فاروق إلا لموعد ، ولا أتردد على الندوات ..
قال لى فيصل مصيلحى :
ـ أنت ضد وزارة النقراشى ، فكيف تؤيد خطواتها ؟!
أضاف بصراحة اعتدتها منه :
ـ فعل الكتابة بدون اقتناع أشبه باحتضان المومس لمن لا تعرفهم !
كان يعانى انفعالاً بتأثير خطبة الجمعة فى أبو العباس . تحدث الإمام عن عمليات شتيرن والهاجاناه فى فلسطين ، وعن المذابح التى واجهها أهل صفد وطولكرم وطبرية والناصرة وبيسان وجبال نابلس ..
قلت :
ـ هذه مجرد صحافة .. دراسة صحفية لا شأن لها برأيى ..
أردفت فى ابتسامة معتذرة :
ـ لا شأن لى بخلافات النقراشى مع القوى السياسية .. ما يهمنى هو موقفه من قضية الجلاء ..
كل شئ ضبابى وغير واضح . يختلط الترقب والتصورات والأمل والرؤى والخوف ..
انتهت الحرب ..
أزيلت السواتر وقيود الإضاءة . رفعت الرقابة على الصحف والمطبوعات . أبيحت الاجتماعات العامة . منع اعتقال الأفراد . ألغيت الأحكام العرفية . حلت الحكومة المدنية بدلاً من الحاكم العسكرى
ما حدث بدا كالبسمة المصنوعة التى تخفى القلق والتوتر . غامت السماء بسحب متكاثفة ، وأطلت نذر أخطار متوقعة . نشطت الحركات الطلابية والعمالية . تكونت التنظيمات المشتركة . ارتفع شعار " يحيا الطلبة مع العمال " . تجددت المظاهرات فى الإسكندرية والزقازيق والمنصورة . تكرر إغلاق جامعة القاهرة . اعتصم طلبة كلية العلوم بجامعة الإسكندرية . قتل بأيدى قوات البوليس فى ميدان محطة الرمل 28 متظاهراً ، وأصيب 424 . توالت المظاهرات . تخرج من المدارس والجامعات ، تجوب الشوارع والميادين ، تعم المدن ، تهتف بالشعار : الاستقلال التام أو الموت الزؤام . الأوامر صريحة بإطلاق النار فى المليان . الاجتماعات ممنوعة . الاعتقالات دون أسباب . مصادرات الصحف تتوالى .
جلاء الإنجليز عن مصر قضية تشغل الجميع ، القضية التى تشغلنى ، القضية التى يجب أن تشغلنى . تبدو كل الموضوعات التى يقترحها عيسوى أبو الغيط شاحبة ، أو تافهة ..
أعدت قراءة المراجع ، وما نقلته عن الصحف ..
كتبت ما أقتنع به ..
ـ ثم ماذا ؟
قال فيصل :
ـ ضع ما كتبت فى مظروف ، وابعث به إلى الجريدة أو المجلة التى تأمل أن توافق على نشره
كانت مدرجات الجامعة أول رؤيتى لفيصل مصيلحى ، وأول تعرفى إليه . محاضرات الدكتور محمد محمد حسين طرف خيط نلتقطه فى مناقشات ، مفرداتها دولة الخلافة والحروب الصليبية والأفغانى ومحمد عبده وطه حسين وسلامة موسى واجتهادات المستشرقين . نشاطه السياسى يقتصر على تأييد مواقف الإخوان المسلمين ، والدعوة لها . تتشابك تسميات الإمبريالية والنازية والفاشية والشيوعية والاشتراكية والرأسمالية . تختلط التيارات السياسية ، السرية والمعلنة : الإخوان المسلمون ، التنظيمات اليسارية ، الطليعة الوفدية ، الأحرار الدستوريون ، مصر الفتاة . ملصقات الشوارع والكتابة على الجدران تعكس اختلافات الرؤى : الله أكبر ولله الحمد .. الخبز والحرية .. مطلبنا القضاء على الفقر والجهل والمرض .. الاستقلال التام أو الموت الزؤام .. لا مفاوضات إلا بعد الجلاء .. نريد الخبز بدل السلاح .. الدين أفيون الشعوب .. عاشت وحدة وادى النيل .. تبرعوا لمشروع الحفاء .. يحيا الملك مع النحاس .. يا شباب 46 كن كشباب 19 .. الله أكبر والمجد لمصر .. القرآن دستورنا والرسول زعيمنا والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا . جماعة الإخوان هى التعبير عن التيار الإسلامى ، لا جمعيات إسلامية أخرى توازيها . يتحدث فيصل عن بدايات الجماعة فى الإسماعيلية عام 1928 . كان البنا ـ يسبق اسمه صفة الأستاذ ـ متأثراً بوجود القوات الإنجليزية فى منطقة القناة . تتقلص ملامحه : الاستقلال واجهة براقة لواقع زائف . تتلكأ الكلمات فى فمه : استبدلنا السفير بالمندوب السامى . يضيف : حتى الملك هتف المتظاهرون ضده للمرة الأولى . ثم وهو يغتصب ضحكة : بعد أن كان الملك الصالح ، صار ملك النساء . يردد أسماء : حسن البنا ومحمد الغزالى وسيد سابق وصالح عشماوى .
رنوت إلى الدهشة فى عينيه ، رد فعل لعرضه بأن أعمل فى الشركة . ترك أبوه له إدارتها من قبل أن يتخرج فى الكلية .
قلت :
ـ قد لا يكون لليسانس اللغة العربية قيمة فى حالتك . أنت صاحب الشركة ..
واغتصبت ابتسامة :
ـ الأمر معى يختلف ..
المكتب فى الطابق الثانى من بناية على تقاطع شارع التتويج وشارع سوق السمك القديم . يمضى الترام ـ وحركة الطريق ـ من اليمين ـ إلى بحرى ، ويتجه ـ فى الناحية المقابلة ـ إلى ميدان المنشية . تطل الواجهة على مساحة ما بين عمارتين فى طريق الكورنيش . تتسع باتساع زاوية الرؤية ليبين مصد الأمواج المفضى إلى خارج الميناء . الحجرة المجاورة للباب تؤدى هناء زكريا عمل السكرتارية ، والاتصال بالعملاء . مكتب فيصل مصيلحى يتوسط الحجرة الملاصقة المطلة على البحر . خصص لى مكتباً صغيراً لصق الجدار .
ظل ترددى عليه . حجرة المكتب المواجهة للبراح تغرى بالحوار . الأخذ والرد . ربما ساعدته فى كتابة رسالة ، أو مذكرة ، أو مناقشة دراسة جدوى . تحول أداء المعاونة إلى أداء عمل . يسر لى القبول بقاء صداقتنا على حالها . المناقشات ، وتبادل القراءات ، والتمشى على الكورنيش ، وفض ما بالنفس . لم يعد الفرق بين ليسانس اللغة العربية والعمل فى تجارة الورق بالاتساع الذى تصورته . ضاقت المسافة بالوقوف على أرض الصداقة ، ومحاولة تعويض غياب الفهم .
لم يسألنى فيصل ـ ذات يوم ـ ماذا أقرأ أو أكتب ، ولا حاول السؤال إذا كان ما أنشغل به يخصنى ، أم أنه عمل المكتب . يضع الخطوط العامة ، يشرح تصوراته . يترك لى التصرف حسب ظروفى ..
ـ كيف يطمئن الناس إلى الحياة فى وطن محتل ؟
لا أذكر أين استمعت إلى العبارة . ربما فى داخل الدائرة الجمركية ، أو فى حوار بين سائرين على طريق الكورنيش ، أو تحت مظلة موقف الأوتوبيس بالمنشية ، أو أن الذى قالها واحد من المتعاملين مع المكتب . ما أذكره أن العبارة شاغلتنى ، شغلتنى ، فى الأيام التالية . انبثق السؤال ـ وأنا أكتب تحقيقاً عن التنظيمات النسائية عقب ثورة 1919 ـ لماذا لا أركز فى كتاباتى على القضية المصرية ؟
اطمأننت إلى مشاعرى ، وأنا أتأمل الدراسة ، يسبقها اسمى ، منشورة فى الصفحة الثامنة بجريدة " البلاغ " .. لكن الجريدة نشرت لى مقالات أخرى تالية ..
تكررت رسائل عيسوى أبو الغيط ، وتكرر إهمالى . أرجو أن تكتب عن حيرة الشباب بين الأحزاب والتنظيمات السياسية . تأثيرات الحرب العالمية الثانية على الأوضاع السياسية فى العالم . دور جامعة فاروق فى استعادة الإسكندرية ملامحها الثقافية . حوار مع عالم الأحياء المائية حامد جوهر . علماء الاجتماع يناقشون : كيف نقضى على الفقر والجهل والمرض ؟ . هل يعود الوفد إلى أداء دوره بعد حادثة 4 فبراير والكتاب الأسود ؟ . هل تحقق الجامعة العربية فكرة التقارب بين دول المشرق العربى ؟ . أيهما أسبق فى التعبير عن عواطفه للآخر : الشاب أم الفتاة ؟. متى تحصل المرأة على حقوقها السياسية ؟
لم يطل توقعى لزيارته ..
رمقه فيصل مصيلحى بنظرة متوجسة . تأنقه الواضح بالبدلة الشاركسكين ، الكحلية اللون ، وياقة القميص المنشاة ، والكرافتة التى انسجم لونها مع لون البذلة ..
بدا الحرج فى وقفة أبو الغيط المترددة على باب المكتب . دعوته إلى الدخول وأنا أترك موضعى وراء المكتب .
سرنا إلى نهاية الطرقة ..
ـ خاصمتنى ؟
بدا السؤال مفاجئاً ، وغريباً :
ـ مستحيل !
ـ لا ترد على رسائلى ..
ـ أعتزم تنفيذ ما تطلبه ، ثم تجرفنى الظروف ..
ـ كتابة ؟
ـ لكنها ليست ما تطلبه منى ..
وداخل صوتى انفعال :
ـ تشغلنى قضايا أهم ..
ـ هل المكافأة قليلة ؟
ـ أبداً ..
ـ لم ألزمك بكتابة شئ تأباه ..
ـ صحيح .. لكن ما أكتبه فى الفترة القادمة سيقتصر على قضية الجلاء ..
ـ إجازة قصيرة إذن ؟
ـ ليتك تعتبرها كذلك ..
بدت لى الدعوة إلى جلاء الإنجليز هدفاً يستحق أن أركز كتاباتى عليه . إذا خرج الإنجليز لم يعد للملك ، ولا لأحزاب الأقلية ، ما يفرضون به أنفسهم على المصريين . يحكمون بقيادة الوفد ، أو بالقيادات التى تبين سياستها فيما تنشره صحف المعارضة ، وما يثار فى الاجتماعات العامة . كنت أشارك فى المظاهرات أردد شعارات الاستقلال ، وفى حضور الاجتماعات السياسية ، ومؤتمرات اللجنة الوطنية للعمال والطلبة ، لكننى لم أكن على صلة بأى تنظيم ، وليس بينى وبين من استمع إلى خطبهم ، ولا هتافاتهم بالشعارات ، صداقة ولا معرفة ..