*قطعة سكر*
.............

كان الوقت ظهرا والجو حارا خانقا قالت "سيدة" لنصف دسته النساء اللاتي يحطن بابنها المريض، وقد لبسن الثياب السود ورحن يتفنن فى ابتكار أساليب الدعاء للمريض بالشفاء ولأمه بعدم حرق كبدها على وحيدها العزيز صاحب العيال الثلاث الذين يلعبون حول الجمع الأسود الحزين فى غير مبالاة، بينما جلس بعض الرجال من أقارب المريض .. يصب أحدهم بين الحين والآخر قطرات الماء على جبين الرجل الراقد فى الوسط يعانى آلام المرض المزمن بالمثانة الذي اشتدت وطأته عليه فى الأيام الأخيرة.
الجو حار خانق قالت الأم لمن حولها بصوت متهدج (وسعوا شوية يا جماعة إلهي متشوفوهاش فى دوركم) ومسحت بطرف ثوبها الأسمر قطرات من العرق الذي تجمع على جبينها ورقبتها السمينة القصيرة مختلطا بقطرات من الدموع، وتنهدت تنهيدة طويلة ونادت زوجة ابنها، وأمرتها أن تبل قطعة السكر التي فى الصندوق الكبير ثم تعصر عليها ليمونه للعزيز المريض.
وسمع أكبر الأولاد ذو الخامسة من عمره هذا الحديث الذي دار بين جدته وأمه، وفى خفة ورشاقة نفض التراب الذي كان يعبئه فى حجره ليعمل منه غيطا صغيرا مع إخوته أمام الدار وتسرب خلف أمه التي لم تحس به إلا فجأة، وهي تكاد تضع قطعة السكر في العلبة الصفيح لتصنع لزوجها الشراب.
نظر الولد إلى أمه فى رجاء ولم يتكلم .. نظرت المرأة إلى الطفل ثم إلى خارج الحجرة .. تأكدت أن أحداً لا يراها، وبسرعة كسرت قطعة السكر ووضعت منها جزءا فى جيب ابنها الذي قفز فرحا وقبضت على أذنه بأصابعها الرفيعة وهمست (إياك أن يشوفك احد.. أنت سامع؟ .. على بره على طول).
وطار الولد إلى الشارع وفى جيبه قطعة السكر. وضع يده فوقها غير مصدق انه يملك الآن هذا الكنز الثمين .. وفي طريقه إلى الشارع قفز الولد بين أخويه الصغيرين كالعصفور متجها إلى مصطبة خالته ليأكل غنيمته فى أمان.
ورآه الصغيران وهو يجري لكن أحدا منهما لم يفهم سر الفرحة التي تبدو على وجهه غير مصطفى الذي يصغره بسنة واحدة .. ذلك الماكر الذي يجري في شوارع البلد طوال النهار حافى القدمين عاري الرأس بجلبابه الصفراء اللذيذة التي تحتاج إلى الغسل منذ ثلاثة أيام، وهو دائما فى شجار مستمر مع جوده ابن جارتهم وغيره من الأولاد فهم مصطفى الصغير ما يجرى حوله، وبمكر همس فى أذن أخيه الأصغر الذي كان يشاركه اللعب ( ولد .. ولد.. أمك معاها سكر).
وما كاد يتم الكلمة الأخيرة حتى جرى الصغير إلى أمه حتى كان مصطفى الشقي قد لحق بأخيه الكبير هناك عند مصطبة خالته، وفى الوقت الذي كانت فيه جرعات الشراب تحل محل روح المريض شيئا فشيئا كان مصطفى يقف فى تذلل مصطنع أمام أخيه القابض بيده على قطعة السكر بعد أن أخرجها من جيبه وهو يقول (هات حتة عشان لما أمي تديني سكر أبقى أديك) ورد الولد الشره (خلاص يا سيدي السكر خلص وأبوك ربنا حيشفيه).
وتهدج صوت مصطفى الماكر بإخلاص هذه المرة وهو يقول (لما يمرض مرة تانية أبقى آخد منها وأديك).
وفى اللحظة التي صرخت فيها الجدة سيدة معلنةً وفاة ابنها صاحب العيال الثلاثة كان أحد هؤلاء الأطفال يصرخ ويتمرغ فى التراب لأن أخاه الشره لم يشأ أن يقتنع بحجته، والتهم قطعة السكر دفعةً واحدةً دون أن يعطيه منها ذرةً.