المجلس الأعلى للثقافة احتفى به بثلاثة كتب:

شيخ النقاد محمد مندور.. قائد عموم القراء فى مصر

كان يملك ضمير القاضى المنزه عن الهوى

ثقافة موسوعية تمكنه من التأثير فى واقعه

يحترم الماضى ولكن لا يسمح بأن يهيمن على الحاضر

بقلم: ماهــــــــر حسن
..............................

لعل هذه الاحتفالية التى أقامها المجلس الأعلى للثقافة لشيخ النقاد د. محمد مندور قد كشفت عن المزيد والجديد من ملامح مندور، وأتصور مشروعا مستقلا بذاته يحمل عنوان مندور الشخص والنص، لو قدر للمجلس أن يفكر فى إصداره فى شكل كتاب يضم مجمل ذكريات أحبائه عنه، مواقفه النقدية والوطنية ومسيرته العلمية على ضوء ما طرحه ولده الدكتور طارق مندور الذى أعرب عن توجهات الأسرة فى جمع تراث الرجل المنشور وغير المنشور على أن يجرى تصنيفه.
وفى تقليد ممتاز أرساه المجلس الأعلى للثقافة فقد أصدر ثلاثة كتب متزامنة تماما مع المؤتمر عن مندور، الأول يضم بيليوجرافيا عن كتابات مندور أعده سامى سليمان أحمد وراجعته كاميليا صبحى والثانى للمغربى محمد برادة ويحمل عنوان تنظير النقد العربى والثالث بعنوان عبقرية المجهود.. مندور ناقدا للقصة والرواية وهو للروائى الكبير الذى يجيب هذا الكتاب عن سؤال مهم مفاده:هل كان مندور صاحب مشروع لنقد القصة؟.
وفى سياق الإجابة عن السؤال يخلص المؤلف إلى أن مندور مازال حيا بيننا وأنه أيضا مؤسس النقد الروائى.
وفى الكتاب ذاته أن مندور كان مشروعا ثقافيا شاملا شهد بتنوع المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية التى أسهم فيها وهذا إنما يعكس التنوع والتعدد فى مسيرة مندور بين الكتابة والدور فهو الناقد الأدبى، والمصلح الاجتماعى والسياسى والكاتب الصحفى والسياسى والمعلم والذى يجعل من الكتابة على اختلافها وسيطا أساسيا لنقل وضخ المعرفة للآخرين.
لقد كان اختيار المجلس لموعد الاحتفالية موفقا، فقد اختير فى ذكرى مولد مندور ولقد مثلت الجلسة الأولى والثانية من اليوم الأول لهذه الاحتفالية النسبة الأعظم لاستعراض جملة من الذكريات الفكرية والإنسانية لمندور على أن باقى الأوراق البحثية لم تخل من هذا الملمح الذى أكد انعدام الفارق بين الكاتب والموقف.
ففى الكلمة الافتتاحية التى ألقاها صلاح فضل أكد أن ندرة من العماليق يرتبط بفنون اختيار التاريخ لقامات الرجال وعمق أثرهم ودوامه.
وقال إن صفة الناقد التامة لم يتمتع بها أى ممن سبقوا مندور، لقد ارتفعت قامته فى حياته على كل معاصريه وأصبح شيخا جليلا وهو لم يتعد الخمسين من عمره ولعل جمعه بين دراسة القانون والأدب العربى وعلم الاجتماع لهو دلالة على حرص مندور فى أن يسد فجوات المعرفة. ولأن مندور ذهب للبعثة لفرنسا ليحصل على الدكتوراه وظل هناك تسع سنوات لكنه لم يحصل عليها فعاد بخيبة ظاهرة وانتصار جوهرى.
وقال: إنه حرص على إرساء ثلاث دعائم يرتكز عليها فى مسيرته الأولى تمثلت فى الوعى العميق بقوانين التطور الحضارى فى كل الثقافات والثانية تمثلت فى المعرفة العلمية بنظم الأدب والفنون فى سياقها الحضارى والثالثة تمثلت فى ضمير القاضى النقدى العادل المنزه عن الهوى، وأن مندور بريء من الافتتات بالذات وخلا من النرجسية.
كما أنه لم يدخل للنقد من باب اللغة الضيق وإنما دخله من باب الفكر والمعرفة الإنسانية الواسعة، وأن مندور آمن بأن الكتابة لا ترتفع باللغة الشعرية وإنما بالتناغم مع ايقاع الحياة والمجتمع.
أما الدكتور عبدالسلام المسدى الذى ألقى كلمة الباحثين العرب فقد أشار إلى طبيعة شخصية مندور النضالية والإبداعية التى تتأبى على التصنيف، وأنه كان نموذج المثقف الملتزم، وأنه لا يمكننا نسيان دعوته ومطالبته للمثقفين ألا يكونوا طائفة من المنطوين السلبيين وأن يلتزموا بمعارك شعوبهم وقضايا عصرهم بل ومصير الإنسانية وأن يكونوا نموذجا للفرد المنخرط فى المنظومة القيمية للجماعة التى ينتمى إليها.
وأشار المسدى إلى كلمة مندور والتى تقول مناهج البحث ليست قيادة للفكر فحسب بل إنها قيادة للعلم حيث إن روح العلم أخلاقية بالأساس.
وأضاف المسدًّى وكأنما لاأزال اسمع مندور قائلا قولته الشهيرة إلام يتأخر إصلاحكم السياسى أيها العرب؟أو وهو يقول: كل هذا ينتهى بنا إلى المناداة بمذهب نظنه يتمشى مع آراء العقلاء منا وهو مذهب الديمقراطية الاجتماعية.
بعد ذلك ألقى طارق مندور كلمة أسرة المحتفى به الذى قدم سيرة مختصرة عن مسيرة مندور الفكرية ثم عن ملامح مندور الأب ورب الأسرة إذ قال إن مندور الذى أغرق الحياة الفكرية بنقده ضن على أسرته بهذه الروح النقدية، فقد كان يفضل لكل فرد فى الأسرة أن يتخذ قراره بنفسه على أن يقوم الأب بدور المستشار فقط، ويستحضر الدكتور طارق بعض المشاهد الأسرية حيث كان مندور يحرص على طرح الأسئلة الحياتية التى تدفعهم للتفكير.
ومن بين ما ذكره الدكتور طارق أن مندور سأل ابنته ليلى قائلا إن التأميم سيعود بالنفع على الأسر الفقيرة فهل أنت معه أم ضده فقالت إنه معه، فعاد ليقول لها ولكن أنت لك بعض الأسهم فى إحدى هذه الشركات فهل مازلت ترين التأمين جيدا؟ فسكتت برهة ورددت نعم أراه جيدا لقد كان الأب إذن يدفع أولاده للتفكير واتخاذ القرار بأنفسهم تماما مثلما حدث حينما استشاره الشهيد ماجد مندور فى أمر يخصه فلقد كان ماجد مدرب كرة اليد فى فريق القوات المسلحة وأرادت القيادة استبقاءه لتدريب الفريق واستبعدته من حرب اليمن وحزن لذلك واستشار والده الذى قال له افعل ما تراه صحيحا وذهب ماجد ليستشهد فى حرب اليمن.
وقال طارق: لقد قمنا بإهداء مكتبة مندور لأكاديمية الفنون لينتفع بها طالبو العلم ونقوم حاليا بجمع كل آثاره المنشورة والمخطوطة لنعيد تصنيفها ونشرها.
أما جابر عصفور فقد ذكر جملة من الوقائع والمواقف الرائعة لمندور بدأها بسؤالين: لماذا نحتفل بمندور؟ وما الذى بقى منه؟ وتحدث فاتحا الأفق لضرورة إعادة قراءة مندور الذى لا تعرف الأجيال الجديدة الكثير عنه. وقال عصفور لقد مر مندور كالعالصفة، فترك آثارا وزعزع ثوابت، وترك كتبا وأفكارا وتلامذة لايزالون جميعا يؤكدون تجدد حضوره ودوام تأثيره، وأضاف أنا شخصيا أدين لمندور باعتباره الناقد الأول الذى جعلنى أعنى معنى كلمة الأصالة حيث هى ووعى بخصوصية الثقافة ووعى بحضور الذات والتاريخ.
وأذكر كلماته التى أحفظها عن ظهر قلب: إن المعرفة هى امتلاء الذات المدركة بموضوعها وهى بذلك مرادفة للفهم الصحيح.. وكل فهم صحيح امتلاك للمفهوم، ونحن نستطيع تملك كل ما خلفه البشر من تراث وما سوى ذلك فقدان للأصالة، ونحن فى أمس الحاجة لتذكر هذه الكلمات فى زمن غارق فى التبعية بأشكالها للداخل أو الخارج.
وأشار عصفور للسنوات التسع التى أمضاها مندور فى فرنسا وعاد بعدها دون الحصول على الدكتوراة مما أغضب عليه أستاذه طه حسين والذى لم يساعده على أن يكون أستاذا فى الجامعة إلى أن منحه أحمد أمين فرصة الحصول عليها فى مصر، وقد أثبت أن صفة المثقف اسمى بكثير من صفة الدكتوراه، فكثير من الدكاترة لا يرقون لمستوى المثقف وأشار إلى تعاطف مندور مع التيارات الشابة حيث وقف إلى جوار عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم فى مواجهة أستاذه طه حسين والعقاد، وفى الجلسة الأولى التالية للجلسة الاحتفالية، أشار عبدالسلام المسدى لما تمتع به مندور من تكامل معرفى وتحدث عن علاقته بعلم الإنسانيات وموسوعية مندور كما أنه كان مفكرا تقدميا ونضاليا وأن طروحاته الأدبية والنقدية هى طروحات لتصور أشمل عن الحضارة والتاريخ لأن مندور فهم الثقافة فهما واسعا يحتضن عصرية كل الصراعات وهو صاحب التكامل بين المعارف.
فيما تحدث فيصل دراج عن أخلاقية النقد والناقد الأخلاقى، حيث كان مندور نموذجا للناقد الملتزم فى الفعل والكتابة ولم يترجم سوى ما يلبى أفكاره وينطبق معها.
وقال فيصل: لعلنا لا ننسى مقولة مندور الشهيرة أريد أن أكون قائدا للقراء.
وفى كلمته أشار الدكتور محمد عبدالمطلب إلى أن مندور كان مفتونا بشكل عام بالثقافة، وإن تميز فنه عن فن وتصنيف كل وافد معرفى وفق اسمه إنما هو للتسهيل فى نهل المعرفة، غير أن ذلك لا يعنى نفى صفقة الاتصال بين إبداع إنسانى وآخر فالثقافة لا تتجزأ وأن مندور كان سابقا فى قراءة ايديولوجية النص، وكان النقد لديه يأتى وفق ثلاثة مراحل الأولى الانطباعية الفورية وهى تتم وفق منطق اختيارى.
وأن الأساس اللغوى هو المنطق الأساسى الذى ينطلق منه الناقد لقراءة النص.
ثم المرحلة الثانية وهى المتعلقة بالنقد الجمالى وربط النص بالقارئ ثم النقد الوصفى التحليلى الذى لا يعتمد الانطباع وإنما بالدخول للنص مباشرة واستشهد عبدالمطلب بمقولة مندور إن الثقافة هى ما نحفظه وننساه كما أنه كان يرى أن الأدب هو ما ينتمى للواقع ولا يخضع لسلطة ما حتى سلطة النص، وأنه كان ممن يحترمون الماضى شريطة ألا يهيمن على الحاضر أو يتسلط على المستقبل.