لم يحصد العالِم فريتجوف كابرا من نتائج أبحاثه في فيزياء الطاقة العالية سوى
المزيد من الفهم المعرفي والتأمل. حين راقب الطبيعة عادت خبراته السابقة، وأدخلته
في إيقاعات الكون.
وهنا ارتد إلى كتب الفلسفة الدينية، وقد أغرته الحكمة
والغيبيات بأن يقرنها بالعلم. ولئن حضّته أجزاء الذرة على البحث، فلقد كان إيجاد
علاقة تربط حركة الجسيمات بالتصوف الشرقي تمريناً عقلياً صعباً ورطه في التجربة
الروحية للمتصوفين.
هكذا وجد في التبصرات الروحية ما يقارب النظريات العلمية،
واستنبط من حكماء الشرق إشراقات حدسية استطاعت أن تسبر أغوار الكون، وتستوفي أكثر
نظريات الفيزياء حداثة.
من دون تلكؤ مضى على بياض ثلاثمئة وخمسين صفحة يدون بصبر
وأناة ما وجده مفيداً الرابطة ينشدها بين الفيزياء والحكمة. ربما نجح بالتقاط صورة
متماسكة للكون جمع فيها أجزاء متفرقة من رؤى الإنسان في الحكمة والعلم عبر الأزمنة
المختلفة، وربما لم ينجح.
ولعله قرأ وتعمّق في القراءة وتساءل: ما علاقة التصوف
بالموجات الفيزيائية؟، كيف شعر وهو يجلس على الشاطئ بالرقصة العملاقة التي يحس بها
المتصوفون عادة بحدسهم القوي؟. لكن استدل بنظرية الكم على «الخواص المميزة للذرات
التي تولد من الطبيعة الموجية لألكتروناتها». وعندما سبر المادة عرف «أن الطبيعة لا
تكشف لنا أية لبنات أساسية معزولة، بل تظهر كشبكة معقدة من العلاقات بين مختلف
أجزاء الكل».
وفي الفصل الرابع من «التصوف الشرقي والفيزياء الحديثة» لم يفته
التحدث عن أينشتاين، العالم الفذ الذي كان يؤمن بالتناغم المتأصل في الطبيعة، ثم
صبَّ كل اهتمامه محاولاً أن يوجد قاعدة مشتركة للفيزياء. وسوف يتابع المؤلف فريتجوف
كابرا إبحاره في النظرية النسبية إذ يشرحها بالتفصيل، ثم يعرض النظريةالخاصة لها
التي أرادها أينشتاين إطاراً يربط الديناميك الكهربائي بالميكانيك.
وما تكاد
نظريات الفيزياء الحديثة ـ التي يعرضها ـ تشرح مظاهر الكون على نحو ديناميكي متصل،
حتى يقتطف المؤلف ـ في الفصل الخامس ـ من الهندوسية ما يوازي ذلك، وربما يتجاوز
الواقع المألوف: إذا وقع المرء تحت سحر المايا ظن أنه معزول عن البيئة. وإذا تحرر
من قيد الكارما حقق وحدة وتناغم كل الطبيعة.
وحين يطلع القارئ على المخيلة
الهندية وما أنتجته من تجليات مختلفة لآلاف الألوهيات يقف عند «يفا» الراقص الكوني.
ولعله يحتار ويفكر في هذا الإله الدائم الخلق والفناء!
أثمة علاقة ما تربط رقصته
الكونية اللامتناهية بنظرية الكم؟ ولماذا جعلت الرؤيةُ الهندوسيةُ الطبيعةَ في حالة
حركة دائمة؟، «حيث كل شيء يتصل دينامياً بكل شيء آخر».
لن نبتعد كثيراً عن هذه
الفكرة إذا تابعنا القراءة. فالفصل الحادي عشر من كتاب (التصوف الشرقي والفيزياء
الحديثة) إذ يبحث في ما وراء عالم الأضداد، يصف «العالم ما دون الذري الذي يبدو
كشبكة من العلاقات بين مختلف أجزاء كل موحد». ويصبح عنده «مفهوم الكيان الفيزيائي
المستقل، مثل الجسيم، هو تصور مثالي ليس له أية أهمية أساسية. إذ لا يمكن تعريفه
إلاّ في ضوء صلاته بالكل».
غير أن الكون يحوي التناقض أيضاً، على الرغم من
التناغم الذي أدركه الفلاسفة الهندوسيون، وتحدثت عنه قوانين
الفيزياء. وربما
انتبه الصينيون لهذا الأمر قبل غيرهم، حين احترفوا بفردية الأشياء، وأدركوا أن
التباينات هي نسبية ضمن وحدة شاملة.
لكنهم ليسوا وحدهم الذين قدموا المفاهيم
المتضادة على أنها أقطاب ترتبط ببعضها بعلاقة قطبية تتاميّة، كما هو حال «اليين»
و«اليانغ» القطبين المتضادين اللذين يتفاعلان فيصنعان كل الظاهرات الطبيعة.
فالعالِم (نيلز) أيضاً أدخل فكرة التتاميّة في علم الذرة. ووجد أنه من غير الممكن
فصل المفاهيم عن بعضها. وهو الذي اعتبر أن الصورة الجسمية والصورة الموجية هما صفان
متتامان للواقع ذاته.
في الفصل الثامن من هذا الكتاب سيجند المؤلف الطاوية لأنها
ـ بحسب رأيه ـ أكثر قابلية للمقارنة مع الفيزياء الحديثة. فمن سياق الحدس القوي
استخلص الطاويون الخواص المميزة للطاويين. ومن اهتمامهم الواسع بالطبيعة رأوا أن
التغير فيها هو نزعة متأصلة في كل الأشياء والأوضاع. إنهم يثقون بذكائهم الحدسي
ويكيفون أفعالهم مع النظام الطبيعي لتشبع طبيعتهم
الفطرية وتجري مع تيار
الطاويين وربما كان بوذا أيضاً قد نوه لهذا المفهوم حين ربط «معاناة البشر
بمحاولتهم التمسك بالأشياء الثابتة، بدلاً من قبول العالم باعتباره يتحرك ويتغير».
وبحسب رأي
البوذيين فإن «الكائن المتنور هو الذي لا يقاوم جريان الحياة، بل يبقى
متحركاً معها».
هذه النظرة الدينامية للكون ـ والمعروضة في الفصل الثالث عشر من
هذا الكتاب ـ وفق مفاهيم المتصوفين، لن يخصص لها المؤلف فصلاً مستقلاً ليتحدث عن
صلة الفيزياء بها. غير أنه سوف يلحقها بالفصل ذاته ليؤكد أن خواص الجسيمات لا تُفهم
إلا في سياق حراكي. فمن الجسيم المحصور سينطلق ليؤكد أنه إذا ما حُصر في منطقة
محددة سيقفز إلى الدوران. وتتناسب سرعته طرداً مع زيادة الحصر. ولن يشك أبداً في أن
المادة تنطوي على القلق وعدم الاستقرار.
ألم يصف الذرة في الفصل الرابع بأنها
«قطرات دقيقة جداً من سائل كثيف بشكل هائل يغلي ويفور بالشكل الأكثر عنفاً»؟ إن
الفيزياء الحديثة «لا ترى المادة منفصلة خاملة، إنما تجدها راقصة مهتزة ومستمرة».
ومن السهل أن يرصد الفيزيائي بتلسكوباته كوناً نابضاً بالحركة، تملؤه المجرات
المضطربة.
وحين يدخل المؤلف برزخ الحدس عند التصوف الشرقي يرى ارتباط الزمن
والمكان بشدة.
ففي مدرسة الأفاتامساكا من بوذية مهايانا نقرأ: «... نتطلع
حوالينا وندرك أن كل جسم مرتبط بكل جسم آخر ليس فقط مكانياً، بل زمنياً. كحقيقة من
حقائق الخبرة الخالصة. لا يوجد مكان بدون زمن، ولا زمن بدون مكان، إنهما
متنافذان».
ومقابل هذا الحدس تبين المخططات البيانية الزمكانية حركة الجسيمات
المحتملة في الفيزياء النسبوية. إن «تفاعلاتها يمكنها أن تمتد في أي اتجاه». ولكي
يمر فكرنا على الزمان والمكان بشمول تام، علينا أن نصورها في لقطة رباعية
الأبعاد.
وكما يتحرك الجسيم ويقفز، فإن الكاتب سوف يعرج على نشوء الكون، فيذكر
نظرية الانفجار الكبير، ولا يقف عند الكتلة النارية البدئية المضغوطة إلى حجم صغير
جداً، بل يتخطى بدء نشوء الكون منها، ويتجاوزه إلى المستقبل المفتوح على احتمالات
متعددة. وهنا لابد أن يحضر أينشتاين، فهو الذي قدّم نماذج مختلفة عن هذا المستقبل
المحير، بين تمدد يستمر إلى ما لا نهاية، وتباطؤ يتحول إلى تقلص تذبذب فكرُه
ونشاطه. فالكون بحسب رأيه يتمدد ثم يتقلص، ثم يتمدد، ثم يتقلص...
وسواء أسهب
المؤلف في وصف هذه الاحتمالات أم لم يسهب، فلقد عاد إلى الهندوسيين ليخبرنا أن
العالم بنظرهم كائن عضوي متحرك على نحو إيقاعي.
وبرهافة تناسب التناغم بين
الفيزياء والتصوف سيتابع فريتجوف كابرا حديثه عن الجسيمات.
قد يصفها بأنها مجرد
تكثيفات موضعية للحقل، تركيزات للطاقة تأتي وتذهب. وقد يصفها بتمظهرات عابرة لكيان
جوهري. لكنه لن ينسى ـ في معرض حديثه عن ذاك العالم الآسر، الغامض ـ أن يعبّر بحسه
الفيزيائي عن لغة الحقل الكمومي.
ثمة فضاء يتمظهر وينتقل ويعبر في كيان جوهري،
فالحقل الكمومي يظهر «كتشكيلة من الأشكال التي يولدها، وفي النهاية يعيد
امتصاصها».
«إنه الحامل لكل الظاهرات المادية. إنه الفراغ الذي يخلق منه
البروتون بي ـ ميزونات. فالجسيمات الافتراضية يمكن أن تظهر إلى حيز الوجود بشكل
عفوي خارج الخلاء، وتتلاشى مرة أخرى في الخلاء.
فالفراغ ليس خالياً. إنه يحوي
عدداً لا محدوداً من الجسيمات التي تظهر وتختفي بلا نهاية». وهنا أيضاً يعود المؤلف
إلى أقوال الحكماء ليثبت أوجه الاتفاق من نظريات العلم.
غير أننا نقرأ بشيء من
الحذر والدهشة، وربما نقلب بعض الصفحات لنستبين كلمات الحكيم الصيني تشانغ
تساي:«عندما يعرف المرء أن الفراغ العظيم مليء بالتلاشي، يتأكد المرء أنه لا يوجد
شيء كالعدم».
أو ربما نتوقف قليلاً عند أقوال الأوبنيشادات لنعرف كيف قارنها
المؤلف بنظريات العلم:«ساكن، دع المرء يعبده كذاك الذي جاء منه، كذاك الذي سينحل
فيه، كذاك الذي سيتنفس به».
إلى أين يقودنا كابرا؟ ربما هو نفسه لا يدري! لكنه
يحاول أن يتخيل المستقبل استناداً إلى رؤى الحاضر. ففي يوم ما سيتعامل العلم مع
أجزاء الطبيعة بتماسك تام، وبين هذا الجزء وذاك ستشرح نظرياته معظم الظواهر التي لم
تغطها الآن. ولكن هل سيظفر العقل بتلك النقلة الفكرية التي تفك سر الحياة؟
ضمن
أخطار كابرا، وخلال فصول كتابه (التصوف الشرقي والفيزياء الحديثة) سنجد الأوصاف
والتفسير والبحث والتساؤلات. والترجمة الواضحة لهذا الكتاب ستتيح للقارئ فهماً
سريعاً لما عرضه كابرا من تعقيدات الكون وأحواله.
ولكن، أثمة دلالات أخرى للغة
تضاف إلى سمات الكل الواحد فتزيد الأمر تعقيداً؟ أثمة رموز وإشارات جزت لغتنا حتى
الآن عن شرحها أو تحديدها بصفات؟ ما دام البحث والتفكير متواصلاً، فلعل الإنسان
يلتقط ـ في يوم ما ـ بأدواته وحدسه ولغته، ما بحثت عنه أجيال وأجيال
وأجيال

كتبه محب ال البيت