( 22 )

قال ماهر فى ابتسامة مشفقة :
ـ أسرتك تتساقط كأوراق شجر الحديقة ..
الخريف فى بداياته . الفجوات تتسع بين الأغصان والأوراق ، لتساقط الأوراق الصفراء ، داخل الحديقة وخارجها . يتناهى صوت الأذان من جامع قريب ، يختلط بأصوات العصافير فوق الأشجار .
حدجته بنظرة مؤنبة :
ـ إذا كنت تقصد سفر جان وأنطوان فقد فرا من الموت !
واتجهت نظرتها إلى ما وراء الأشجار :
ـ لا شيء يغريهما بالبقاء !
فى صباح حفل الزفاف ، سافر جان مع عروسه إلى أستراليا ، اقتصرت الحياة فى الفيلا على أنطوان وسيلفى .
طالت إقامة أنطوان فى القاهرة حتى يتاح له بيع الفيلا . لما واجهه عياد برفض دومينيك وسيلفى ، حزم حقائبه ، وأعد نفسه للسفر .
لاحظ ماهر تغيراً فى تصرفاتها ، فى السهر والصحو والمنام والوقوف فى النافذة المطلة على الشارع الخلفى ، والأوراق الصغيرة تكتب فيها ، ثم تكرمشها ، وتقذف بها من النافذة ، أو تمزقها .
كان الحزن يقتلها لتناقص قطع الأثاث . الطرقات الغريبة يعقبها فصال بين أنطوان والرجل ذى الجلباب . ترفع قطعة أثاث من موضعها . كل ما فى البيت يرتبط بحياتها ، بفترات من حياتها ، حادثة نقشت ملامحها ، أو عابرة : كراسى ، مناضد ، شمعدانات ، أيقونات ، أكواب كريستال ، فازات ، ساعة حائط بندولية ، لوحات مقلدة ، كتب . حتى الراديو رفعه أنطوان من موضعه على الرف الخشبى ، ثم لم تعد تراه .
استمهلت ماهر ـ ذات أصيل ـ وهو يتهيأ للانصراف . دخلت إلى حجرتها ، وأطلت برأسها متلفتة .
تقدم ليعاونها فى حمل ما بيدها .
ـ صورتى فى إطار ، احتفظ بها حتى لا يبيعها أنطوان .
شك فى أن يكون شخص ما قد دخل حياتها . لعله يقف وراء نافذة ما فى البناية المقابلة . لم يحاول سؤالها عما بدّل حياتها ، أو يشغلها . يثق أنها ستكذب . هذا هو ما ألفه منها فى الفترة الأخيرة . لو أنها أرادت أن تحصل على ما هو بديهى ، وما هو من حقها ، ولا يحتاج إلى عناء ، فهى تكذب ، تكذب لمجرد أن تكذب . لو أنها سألت نفسها ، فقد لا تجد الإجابة التى تقنعها .
ربما أخذ هيئة المنصت لما ترويه . تروى وتروى . يعرف أن معظم الأحداث والمواقف من اختراع رأسها الصغير ، وأنها تجد فى الكذب متعة ، تدفعها إلى المزيد من الحكى .
تمنى لو أنها لم تعد تكذب عليه . توقفت عن الكذب عليه . تنطوى البراءة الظاهرة على نفس طيبة بالفعل ، ترفض الكذب واللؤم والتخابث والتسويف والمماطلة .
لا تمل الكذب والروايات التى يخترعها الخيال . الكذبة هى كذبة ، بصرف النظر عن اللون الذى تدعى الانتساب إليه ، لا يهم إن كانت بيضاء أو سوداء ، أو أى لون آخر .
لم يعد يجد فى نفسه ميلاً لأن يلتمس لها الأعذار . لو أنه أظهر عدم التصديق لمعظم ما ترويه ، ربما راجعت نفسها قبل أن تبصق كذبة جديدة ، تتوقف عن الحكى فى ما يصعب تصديقه . تتوقع رد الفعل ، فلا تقدم على الفعل .
قالت :
ـ أنتظر موافقة بالعمل فى شركة سياحة ..
ـ خبر يستدعى الفرحة .
وهى تسلم نفسها لشرود :
ـ وقعت إقراراً بأنى حاصلة على بكالوريوس تجارة ..
استطردت للدهشة فى عينيه :
ـ جارنا الخطاط .. يجيد تزوير الشهادات والوثائق ..
حاول السيطرة على مشاعره :
ـ ألا تخشين السجن ؟
ظلت صامتة .
تصاعد مد القلق فى داخله :
ـ هذه جريمة عقوبتها السجن .
أنصت ـ مذهولاً ـ لتبريرها عن حقيقة ما جرى . هى لا تدرى لماذا فعلت ما فعلت . قدم الخطاط عرضه ، فوافقت .
تحولت إلى كائن غامض لا يعرفه . لو أنه يعرف فى ماذا تفكر ؟ ما يملأ رأسها الصغير من تصورات ؟ ما يتحرك فى نفسها من مشاعر ؟
ماذا تخفى هاتان العينان الزرقاوان البريئتان ؟!
كتم مشاعره المهتاجة . يعى سرعة هياجه ، واندفاعه ، وعجزه عن التحكم فى عواطفه . وهو يحاول الاحتفاظ بهدوئه :
ـ سحنة المرء ونصيبه من الذكاء وظروفه الاجتماعية والمادية أمور لا حيلة له فيها ، لكن الكذب مسئوليته التى يجب أن يحاسب عليها !
أردف فى صوت مقتضب :
ـ لا أتصور أنك تفعلين هذا .
ثم وهو يغالب شعوراً باليأس :
ـ عدينى ألا تكذبى لأى سبب !