*حصار الأسئلة*
........................

(إلى محمد الحديدى)

زوت الراهبة ما بين عينيها ، تحاول أن تتذكر :
ـ أنت ؟
تأمل الزى البنى المنسدل إلى ما فوق الصندل والجورب الأبيض ، وغطاء الرأس الأبيض المنشى ، أحاط بالوجه ذى الملامح الدقيقة ..
قال :
ـ زكى .. شقيق محرم السلامونى ..
هزت رأسها دلالة التذكر :
ـ زرته مرات مع أبيكما ، ثم أصبح الأب يأتى بمفرده ..
لم يجد سوى الكذب وسيلة لمواجهة نظرة التأنيب فى عينيها :
ـ عدت بعد فترة سنوات من العمل فى الخارج ..
قالت وهى تمضى داخل الطرقة الطويلة ، فوق أرضيتها مشاية بنية تمتص وقع الأقدام :
ـ حالته متقدمة ..
ثم وهى تبتعد :
ـ زياراتك ستفيده كثيراً ..
الطرقة المستطيلة ، تتوسط جدارها صورة للمسيح جالساً على العرش ، فى داخل المركبة السماوية ، تحيط برأسه هالة نور ، ويحمل كتاباً فى يده اليسرى . تمتد على الجانبين أبواب غرف متقابلة ، مقفلة ، تنسدل عليها ستائر من القطيفة الداكنة الحمراء ، الحائلة اللون . كل ستارة مفتوحة من الجانبين ، على مقابض معدنية ، وتمتد ـ أمام الأبواب ـ سجاجيد صغيرة ، لها شراشيب كثيرة بألوان متداخلة ..
كان قد أطال الوقوف إلى جانب الكشك الخشبى ، انشغل فى داخله العجوز ذو البشرة التى كساها البهاق بصف علب السجائر والمناديل الورقية وأكياس الشيكولاتة والبسكويت ..
حدجه العجوز بنظرة متسائلة :
ـ هل تريد شيئاً ؟
ـ لا ..
وأشار إلى المبنى الحجرى الصامت ، أغلق بابه ونوافذه :
ـ لم أتصور أن الدار تغلق هذه الساعة ..
قال العجوز :
ـ موعد الافتتاح من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساء ..
تطلع ـ بتلقائية ـ إلى الظلال التى بدأت تنسحب من أعلى البنايات المقابلة ، وقال فى لهجة تسليم :
ـ سأنتظر .
حين علا صوت المفتاح فى رتاج الباب الحديدى الضخم ، كانت الظلال وانعكاسات الضوء تفترش المكان . حدس أن المبنى صمم بحيث يسمح للهواء بالمرور فى الحجرات المتقابلة ..
ظلا صامتين ..
أنحف مما انطبع فى ذاكرته ، وتداخل البياض والسواد فى رأسه ، وسقطت من فمه سنة علوية ، وبدت عيناه أميل إلى الجحوظ ، وإن لم تفقدا وجهه ما به من وسامة ظاهرة ..
تردد مع أبيه لزيارته فى الدار الحجرية ، ذات الطابقين . الحديقة الترابية ، تسلقت سورها الحديدى الأسود فروع اللبلاب وست الحسن . تديرها الراهبات للعجائز من الرجال والنساء . وكان أبوه يحرص ـ فى كل زيارة ـ على أن يضيف إلى الإعانات التى تنفق منها الدار .
ثمة عجائز ـ أربعة أو خمسة ـ جلسوا على كراسى متناثرة ، تحت أشجار الكافور فى جوانب الحديقة .
شك من نظرته المتسائلة أنه يعرفه ..
قال :
ـ أنا زكى .. أخوك ..
ـ أين ضحى ؟
ـ فى بيتها ..
ـ لم تعد تزورنى ..
ثم وهو يتجه ناحيته بنظرة غاضبة :
ـ أنت أيضاً لا تزورنى ..
ـ وماذا أفعل الآن ؟
ـ كان أبى يزورنى مساء كل خميس .
قال وهو يغالب التأثر :
ـ هذا ما سأفعله . قد أزورك فى الأسبوع أكثر من مرة ..
حل الصمت ثانية ..
انشغل بشروده ، وعدم قدرته على التركيز ، وبطء فهمه ، وكلماته التى بلا معنى . استعاد ملامح واضحة ، ويغلفها الشحوب : طريق المقابر خلف القلعة ، الليلة الأخيرة فى مولد الحسين ، زحام شارع الموسكى ، ترقب أمه لصنع القهوة فوق السبرتاية ، جلسة أبيه إلى أصدقائه فى مقهى الكورسال ، وشيش التليفزيون بعد انتهاء السهرة ، صياد يجذب الحبل ليرسى قاربه على الشاطئ ..
لا يذكر متى أدرك أنه قد مضى زمن على حياته بمفرده . ألف الحياة دون أن يشاركه فيها أحد .
داخله سأم لا يعرف بواعثه . يردفه حنين إلى ملامح وأماكن طال غيابها ، فبدت كأطياف . أحس أن هناك ما ينقصه ، وأنه فى حاجة إلى من يجعل لحياته معنى .
قال الطبيب :
ـ الحالة مستقرة وإن كانت لن تشفى ..
أظهر القلق :
ـ هو مريض إذن ؟
ـ طبعاً ..
وهمس :
ـ نوع من التخلف العقلى ..
لم يتصور هذه الحالة التى صار عليها أخوه . لم يكن ينتبه إلى كلمة واحدة مما يدور حوله . يبدو غائباً عن الدنيا . يحدث أشخاصاً وهميين .
قال :
ـ هل الرعاية جيدة ؟
أطلت من عينيه نظرة غير فاهمة ..
قال :
ـ هل يقدمون لك طعاماً جيداً ؟ ملابس نظيفة ؟ تشاهد التليفزيون ؟ ..
قالت الراهبة :
ـ نحن نعطى ذوى الظروف القاسية من التبرعات التى نحصل عليها .
قال :
ـ ظروف أخى النفسية وحدها هى السبب ..
وحرك أصبعين فى دلالة :
ـ أترك له فى الأمانات أكثر من حاجته .
لمح فى عينيه انبثاق دمع ، وهو يديرهما إلى الناحية المقابلة :
ـ أريد أبى .
ـ أنا الآن أبوك . اطلب ما تريده منى ..
ـ لا أريد إلا أبى ..
وعلا صوته بنشيج :
ـ أريد أبى .
شرد محرم فيما لا يتبينه . جاراه فى الصمت ..
فاجأه بالسؤال :
ـ هل حضر أحدكم الغسل ؟
ـ أسامة زوج ضحى ..
ـ وما يدريك أن الميت هو أبوك ؟
ـ رأيته مكفناً . أعرف تكوين أبى الجسدى ..
لم يكن الموت مما يشغله ، لكن الخوف من الموت اقتحمه للمصير الذى ربما يواجهه محرم : من يدفع له إيجار الدار ؟ من يزوره ، ويطلب عرضه على الأطباء ، ويحاول استثارة ما فى نفسه من ذكريات ؟..
تنبه إلى أنه خلف البيت وراءه ، ثم عاد إليه .
المدخل غارق فى رمادية خفيفة . لاحظ تآكل السلالم الحجرية ، وتكسر الدرابزين . تحسس طريقه بالتساند على الحائط ، مطلى بالجير ، عليه رسوم أحجبة وأكف وباخرة يتصاعد الدخان من مدخنتها ، وخيوط زرقاء تمثل أمواج البحر ، ورسوم للكعبة ، وجمل ..
آخر زيارة إلى البيت مع أبيه منذ ثلاثة أعوام ، ربما قبل ذلك بأشهر . اتصل به أبوه ليصحبه إلى بيت شقيقته . طلبت تدخل الأب لحل خلافات لا تنتهى مع زوجها . اعتذر بمشاغله . بدا صوت الأب في التليفون محملاً بالغضب :
ـ كيف أطمئن إلى تحملك المسئولية من بعدى ؟
وداخل نبرته توجس :
ـ هل قررت الانسلاخ بحياتك ؟!
الجدران متآكلة ، تقشر طلاؤها ، فصنع أشكالاً وتكوينات ، وسرت الرطوبة بالصدأ فى النافذة الحديدية المطلة على المنور الخلفى . السجادة تتوسط مساحة الصالة ، تغلب عليها النقوش الزرقاء ، فوقها ـ لصق الجدار ـ كنبتان متقابلتان ، مستطيلتان ، من الخشب ، بمساند ، و كراسى وطاولات تعلو منها رائحة القدم ، عليها فازات فى نهاياتها زهور صناعية ، وقبالة الباب مرآة هائلة ، أكل الصدأ حوافيها ، وتخللها ، تغطى معظم مساحة الجدار . وفى الجدار المقابل صورة فوتوغرافية كبيرة للكعبة الشريفة . وتدلت من السقف نجفة من الزجاج الملون المقلد للكريستال . وثمة صرصار ـ فى الزاوية ـ انقلب على ظهره ، بدا من توالى حركة أقدامه أنه حى ..
اختارت الجلوس فى زاوية الكنبة . فتش ـ فى ملامحها ـ عن الصورة القديمة التى أحبها . كأنه يودعها ذاكرته ، يختزن ما بدده توالى الأعوام .
لم تتبدل الملامح كثيراً ، وإن ران على التصرفات ما أثار إشفاقه . كلماتها لا تزيد عن الهمس ، وتتجه بنظراتها إلى الأرض . أضافت الأعوام شعيرات بيضاء تسللت إلى الرأس ، ودوائر من التجاعيد الخفيفة حول العينين والفم . أهملت الزغب الأصفر الخفيف فوق شفتيها . ترتدى جلباباً واسعاً أشبه بجلابيب الرجال ..
داخلته عاطفة حقيقية ، لعلها غابت منذ سنوات طويلة . شعر أنها قريبة منه ، أنها تنتمى إليه ، وينتمى إليها ..
لماذا لم يفعل ـ من قبل ـ ما يريد أن يفعله الآن ؟ لماذا تأخر عن زيارتها ؟ ما الذى شغله عن الزيارة ؟
لم يستطع ـ بينه وبين نفسه ـ أن يصل إلى إجابة . كرر إرجاءه للأمر ، حتى أهمله تماماً ..
لاحظ نظرتها المتأملة ..
هل ما تزال على عادتها القديمة فى محاولة قراءة مشاعره ؟ هل يبدو ارتباكه ، وعجزه فى البحث عن الكلمات المناسبة ؟
أومأت برأسها ناحية الزوج الجالس فى الزاوية المقابلة :
ـ أنت لم تلتق بزكي من أعوام ..
ران على قامته ذبول ، وبدا أقصر مما كان . هل هو تقدم السن ؟
غاب الجسد المتماسك ، والضحكة المقهقهة ، والصوت العالى . مالت كلماته المرحبة إلى البطء ، ووضحت الثاء بدلاً من السين فى النطق . خمن أنه ركب طقما للأسنان . ترهل جفناه ، ومال بياض عينيه إلى الصفرة . مشط شعره الخفيف بامتداد الرأس ليدارى صلعته ، وتناثرت فى وجهه بقع من الشعر المختلط السواد بالبياض . أكثر من لعق شفتيه بلسانه ، فأدرك أنه يعانى السكر . ارتدى جلباباً من الكشمير ، وترك قدماه حافيتين ..
حل صمت مفاجئ . عانى ارتباكاً لم يدرك بواعثه . بدا أنها تعانى الشعور نفسه ، وإن لم يفسره على نحو محدد . هل لمفاجأة الزيارة ، أم أنه استدعى ما كانت قد أهملت تذكره ؟
نادى على الولد الواقف خلف الباب الموارب . تلقاه بذراعين مفتوحتين . تعلق الولد بعنقه ، وأسلم له خديه يقبلهما ..
قالت ضحى فى لهجة محايدة :
ـ هذا مرتضى .. لم تره منذ ولادته ..
وأومأت إلى مرتضى :
ـ قبل خالك .
أضافت لنظرة الولد المتسائلة :
ـ هذا خالك .
أجلس الولد الأصغر على ركبته . قبل خده ، ومسح بيده على شعره ..
قالت ضحى بلهجتها المحايدة :
ـ محيى .. انقطعت زياراتك قبل ولادته ..
لاحظ أنها تضع فى معصمها ساعة أبيه ، وتدير أصابع يدها على المسبحة التى ظل أبوه ممسكاً بها حتى وفاته .
وضع انفعاله فى تقبيل الولد :
ـ شاطر فى المدرسة ؟
اكتفى محيى ـ دلالة التأكيد ـ بإيماءة من رأسه ..
ماذا ورث الولد منه ؟
أخفق ـ حين أعاد تأمله ـ فى التعرف على الملامح المشابهة ، وإن حدس أنه ورث عن أمه امتلاء الوجه ، والعينين المسحوبتين ..
لو أنه تزوج !.. ربما أنجب أبناء يماثلون الولدين فى العمر ، وربما كانا أكبر منهما ..
وهو ينزل الولد من تحت إبطيه إلى الأرض :
ـ هل تزورين محرم ؟
قالت :
ـ إن زرته .. لابد أن أحمل معى هدية ..
وهو يدارى انفعاله :
ـ أتكفل بدفع مصاريف الدار ..
ـ لن أذهب بيد ورا ويد قدام ..
ـ ربما زرته غداً ..
رمقته بنظرة مستنكرة :
ـ ألم تزره حتى الآن ؟ ألم تزره منذ وفاة أبينا ؟
غلبه الصمت والارتباك . هل تلمح ضحى بأنه هو السبب فيما يعانيه محرم ؟ هل هو المسئول ؟
قالت وهى تربت فخذه :
ـ أنت الآن أخونا الكبير .. وأبونا ..
تمنى لو أنها تخلت عن كلماتها الملمحة . لو أنها أظهرت غضبها ، ولامته على غيابه الطويل .
يدرك أن الإجابة لن تقنعها . حين أدار الكلمات فى ذهنه ، لم يقتنع هو نفسه .
المشاغل !.. كلمة بلا معنى فى توالى السنين .
قال أسامة فى لهجته المتباطئة :
ـ أبوك كان ينعى همنا ..
وسكت .
ومضت القامة الطويلة ، والكتفان العريضتان ، والبشرة السمراء ، والعينان اللتان تحتويان من يحدثه.
استعاد ما روى عقب وفاته . هل مات ميتة ربه ؟ أو دس له السم فى الطعام ؟ أو قتل فى ظروف رفضت الشرطة أن تخبرهم بها ؟
قتله الإحساس باليتم ، وإن عانى توالى المشكلات ـ فيما بعد ـ وانفضاض أقاربه وأصدقاء أبيه . باعد العجز بينه وبين ضحى ومحرم . قلت زياراته ، ثم انتهت ..
شعر ـ وهو يهبط السلم ـ بنظراتها تتبعه من وراء ظهره . لما وصل إلى البسطة ، استدار ، ورفع رأسه . كانت تستند بصدرها على الدرابزين . لوحت بيدها وهى تقول :
ـ لا إله إلا الله .
قال :
ـ محمد رسول الله .
أشفق على محرم مما يعانيه ، كأنه يمضى إلى دنيا غير الدنيا .
بدا أمام خيارين : إما أن يفعل شيئاً ، يدفع نقوداً زائدة ، أو يهدد ، أو يتوسل حتى ، لتصير معاملة الدار لأخيه على ما هى عليه ، أو أن يصحبه إلى البيت ، وهو ما لن يستطيع تدبره ، ولا يعرف كيف يتولى رعايته بمفرده .
أزمع ألا ينصرف حتى يطلب محرم الطعام . يعيد قطعة الجبن والبيضة وحبات الزيتون . يصر على الخضار واللحمة والأرز . يجلس معه حتى يفرغ من تناول الطعام . يصحبه إلى حجرة نومه . يفرد الغطاء فوقه . يطمئن إلى نومه ..
مضى داخل الحجرة وراءه ..
التفت محرم ناحيته مستغرباً . ثم تجاهله . اتجه بالكلام إلى ما لا يتبينه . لا تتصل جملتان بمعنى محدد ، فالكلمات غامضة ، مختلطة ، لا يفهم ماذا يعنى محرم ، ولا إلى أين يتجه بكلماته . تمنى ـ بينه وبين نفسه ـ أن يتبادل مع أخيه حواراً كالذى يتبادله الأخوة ، كالذى يتبادله الناس . يسأل ويجيب ، يأخذ ويعطى ، يفض عما بنفسه ..
أطال إليه النظر ..
تملكته الحيرة فلم يدر كيف يتصرف . هو يريد أن يفعل شيئاً ، لكن ما يراه يبدو أقسى من أى تصرف . كان يحرك ذراعيه ، ويهز رأسه ، ويوجه حديثه إلى من لا يراه .
ظلت الكلمات غير مترابطة ولا مفهومة ، مجرد كلمات متقطعة ، متناثرة ، لا تعبر عن معنى محدد ..
لو أنه استطاع أن يستعيد أخاه ، ينتزعه مما هو فيه ..
واجهه محرم بنظرة مؤنبة ، وهو يشير إلى الفراغ :
ـ هذا أبونا .. لماذا لا تكلمه ؟!