القصة تكتب نفسها
...........................

" إن الفنان الحقيقى يهب نفسه كلها للفن "
بوشكين
" للفنان عالم خاص يملك مفتاحه هو وحده "
أندريه جيد
إن الفن يزلزلنى ، عبارة لفلوبير ، أتذكرها كلما أنهيت عملاً ما . كانت الكتابة ـ فى تقدير فورستر ـ أمراً مريحاً ، وأعلن دهشته لعبارة " آلام الخلق " . وأكد مورافيا أنه يكتب ليسلى نفسه . والكتابة ـ عند الكثيرين ـ هى مجرد تسلية . يغيظنى قول أحدهم ، رداً على اعتذارى عن موعد بأنى مشغول : يعنى مشغول فى ايه ؟. والكتابة : أليست مشغولية ؟ أليست هما يجب حشد النفس له ؟. أذكر عجب جون برين من افتراض الناس أن الكتابة لا تعدو ضرباً من السحر ، وأنها تخلو من الجدية . عذر الفتاة مقبول إذا تحدثت عن انشغالها بغسل شعرها ، أما عذر الانشغال بالكتابة فهو غير مقبول . وحين سئل وليم ستايرن : هل يستمتع بالكتابة ؟. أجاب : كلا بالقطع !. نعم ، إنى أشعر شعوراً طيباً عندما أجيد ، لكن ذلك الشعور يتخللهالألم الذى أعانيه كلما شرعت ـ كل يوم ـ فى الكتابة . بصراحة ، إن الكتابة جحيم !
اللغة تقول إن الإبداع هو " إحداث شيء على غير مثال سابق " . وإذا كان أندريه جيد قد كتب إبداعاته على أمل أن يجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة عليه ، فإن ناتالى ساروت تعلن " يجب ألا نكتب إلا إذا أحسسنا بشيء لم يسبق أن أحس به ، أو عبر عنه ، كتاب آخرون " . ويقول سيزان : " إننى أريد أن أرسم ، وكأن رساماً واحداً من قبلى لم يقم بهذه المهمة " . ولعلى أوافق فلوبير بأن مهمة الرواية الأهم هى أن تبين دائماً عن الجديد . الخطأ الأكبر الذى يقع فيه الروائى هو أن يكون سلفياً ، فيكرر ما اكتشفه ـ من قبله ـ الآخرون . القول بانه لا جديد تحت الشمس يحتاج إلى مراجعة . ثمة الجديد دائماً تحت الشمس ، وكل يوم هو إضافة ـ سلبية أو إيجابية ـ فى حياة الفرد والجماعة ، وفى حياة الكون جميعاً ، وإلا فماذا تعنى آلاف المنجزات التى تقدمها البشرية ، فى توالى الأيام : الكتب والاختراعات والاكتشافات وطرائق التربية والإبداعات الفنية وغيرها ؟. يعجبنى قول جارثيا ماركيث " الكاتب الذى لا يعرف ماذا يعمل ، يسعى دائماً ألا يكون شبيهاً بالآخرين ، لكنه يصبح فى الحال غير متجاهل للكتاب الذين يحبهم ، أفضل من هجرهم نهائياً " . ودلالة قول هيراقليطس " أنت لا تستطيع أن تستحم فى مياه النهر مرتين " واضحة ، فمياه النهر فى جريان دائم ، بحيث يغتسل المرء دائماً فى مياه جديدة .
والحق أنى لا أذكر متى كان تعرفى إلى الإبداع السردى ، كقارئ فى البداية ، ثم كواحد من الذين يطمحون لتقديم إضافة فى هذا المجال . كانت أيام طه حسين هى أول ما أذكره من قراءات مؤثرة ، قرأتها فى حوالى الثامنة من عمرى ، أحببت لغتها فى القراءة الأولى ، ثم ألممت بضمونها فى القراءة الثالثة ، وأفدت ـ بعد ذلك ـ كثيراً من مكتبة أبى . كانت تضم عدداً هائلاً من المؤلفات التى تعنى بألوان المعرفة الإنسانية ، والقصة والرواية ـ بالطبع ـ من بينها . وحين جرى القلم بالمحاولات الأولى ، فإنها لم تكن أكثر من تقليد ساذج لكتابات المنفلوطى والمازنى وهيكل وحقى وعبد الحليم عبد الله ومكاوى وغيرهم من أدباء جيل الرواد ، وجيل الوسط الذين أتاحت لى مكتبة أبى قراءة مؤلفاتهم [ تعرفت إلى نجيب محفوظ فى مرحلة تالية ] . وقد أقدمت فى سن باكرة على إصدار كتابين [ التسمية لا تخلو من تجاوز ] يتبدى فيهما ذلك التأثر بصورة مؤكدة ، وهما الملاك وظلال الغروب . أنت تجد فى كل فقرة ، وكل تعبير ، إفادة من كتابات هؤلاء الكبار . كنت أنفذ ـ دون أن أدرى ! ـ نصيحة د . جونسون " انقل كتابات أدبائك المفضلين حتى تستطيع ـ ذات يوم ـ أن تكتب مثلهم " . كنت فى مرحلة الصبا ، لم أستقر على أسلوب ، وإن تعجلت ـ فى الوقت نفسه ـ أن أكون كاتباً . كانت " الملاك " أشبه بمقال رثائى لأمى التى اختطفها الموت قبل سنوات . أما ظلال الغروب فقد عرضت لقصة حب بين شاب وفتاة . وبالطبع ، فإنى أعتبر هذين النصين من ذكريات الصبا ، بل إنى أتردد كثيراً فى وضعهما تحت تصرف الدارسين ، حتى لا يصدموا فى سذاجات البداية . أما قصة البداية التى أعترف بها ، فهى يا سلام من مجموعة تلك اللحظة . كنت أسير فى شارع شريف ، بالقرب من ميدان محطة الإسكندرية ، عندما استمعت إلى شيخ يبيع الكيزان الصفيح ، يخاطب نفسه بأنه يريد النوم فى أى مكان . ولأن مصر ـ أيامها ـ كانت تواجه عدوان 1956 ، فقد تناولت مأساة الرجل باعتباره ضحية للحرب . ثم كتبت العديد من القصص القصيرة ، قرأها أستاذى أحمد عباس صالح ، فنصحنى بأن أمزق معظمها ، وأنشر أقلها ، وبعضها لم أنشره فى مجموعتى الأولى .
***
يقول نورمان بوردور فى سيرته الذاتية : " الكتابة من أشد الأنشطة الإنسانية غموضاً ، ولا أحد ، حتى المحللين النفسيين ، يعرف القوانين التى تحكم حركتها أو توقفها . فالقصيدة والقصة والرواية والمسرحية والمقالة ، وحتى الدراسة النقدية ، هى هناك ، حتى قبل أن يخط الكاتب كلمة واحدة على الورق . وفعل الكتابة أشبه بالمفتاح السحرى الذى يفتح الباب المغلق ، فيبدأ الإبداع فى التدفق " . وبالنسبة لى فإنى أخشى العمل الفنى قبل أن أبدأ فى كتابته ، يشغلنى ، ويلح على . أقرر ـ مرات كثيرة ـ أن أخلو إليه لأكتبه ، لكننى أتذرع بحجة ما ، فأتشاغل عنه ، وإن ظل يشغلنى إلى حد بعيد . ثم أبدأ فى الكتابة عندما أشعر أن هناك إلحاحاً داخلياً يدفعنى إلى ذلك . ربما انشغلت ، أو تشاغلت ، فتفلت اللحظة الماسبة . وحين أتوهم ثانية أنها قد عادت ، تأتى الكلمات باهتة ، باردة ، كالوجبة التى لم تقدم وهى ساخنة . وفى معظم الأحيان ، فإن البدء والختام فى قصة قصيرة ـ أحرص أن يكون ذلك فى جلسة واحدة ـ تأتى أقرب إلى المفاجأة . ربما تطاردنى الفكرة شهوراً ، فأتناساها وأهملها ، وأنصرف عنها إلى قراءات وكتابات أخرى ، ثم يجرى القلم على الورق دون تعمد . ولعلى أتذكر ملاحظة صامويل باتلر عن أعماله الروائية " إننى لا أضعها أبداً ، إنما هى تنمو ، فهى تقبل على ملحة فى أن أكتبها ، ولولا أننى أحببت موضوعاتها لحزنت ، وما كان لشيء أن يحملنى على كتابتها إطلاقاً . أما وقد أحببت هذه الموضوعات فعلاً ، وأما وقد جاءت الكتابة قائلة إنها تريدنى أن أكتبها ، فقد تململت قليلاً ، ثم كتبتها " ( ت نبيل راغب ) . ويعرّف جورج مور الرواية بأنها " تتابع منظم للحوادث فى أسلوب إيقاعى منظم للعبارات " . ولعلى أعترف أنى أبدأ فى كتابة العمل ، وأواصل الكتابة ، وقد أهملت كل ما قرأته وتعلمته عن الشخصية والحدث والبيئة والصراع والعقدة والذروة والحل ، وغير ذلك من التعريفات التى أعتبرها مخزوناً معرفياً ، أفيد منه بالضرورة ، ودون تعمد ، شأنه شأن الذكريات والتجارب والخبرات والقراءات إلخ ، عفوية الإبداع لا تلغى ثقافة المبدع ، بل إن الثقافة لازمة للمبدع إطلاقاً .
أحياناً ، أهم بكتابة رسالة أو مقال صحفى ، فيتحول ـ منذ البداية ـ إلى القصة التى كانت تشغلنى وتشاغلنى . وعندما أنتهى من كتابة القصة ، فإنى أعيد النظر فيها بين حين وآخر ، حتى أطمئن ـ فى النهاية ـ إلى إمكانية نشرها . فإذا نشرت ، لم يعد لى بها بعد ذلك صلة . ولأن الفكرة حين تختار لحظة تسجيلها تكون أشبه بالمولود الذى لابد أن يغادر بأكمله رحم أمه ، فإنى أكتب بسرعة ، دون توقف . ما يشغلنى هو التدوين فحسب . ربما أتوقف أمام كلمة ، أو جملة ، أو موقف كامله ، فأتجاوز ذلك كله ، وأترك السطور مكانه خالية وأواصل الكتابة ، على أن أعود إلى السطور الخالية بعد ذلك ، فأحاول أن أسود بياضها . بعض أعمالى واتتنى [ هل ، على سبيل المثال ] وأنا فى حلم يقظة ، وحين قرأتها ، لم أضف إليها ـ ولا حذفت ـ حرفاً ، نقلتها على الآلة الكاتبة بصورة الكتابة الأولى [ لم أكن قد تعرفت إلى الكومبيوتر بإمكاناته المذهلة ! ] . كنت أتردد فى البوح بذلك الأمر ، حتى عرفت أنه يحدث للكثير من الأدباء . أذكر قول همنجواى " يحدث لى أحيانا أن أحلم بالسطور نفسها ، وفى هذه الحالة ، فإنى أستيقظ وأكتبها ، وإلا ربما نسيت الحلم تماماً " . كانت كوليت تقضى الصباح كله فى كتابة جملة واحدة . وأنا أفضل أن أترك لهذه الجملة موضعها فى السياق ، ثم أتأملها ، أضعها فى بالى ، أحاول صياغتها فى حياتى العادية : فى البيت ، فى المكتب ، فى الطريق ، حتى إن تشكلت على النحو الذى أطمئن إليه ، ملأت بها الموضع الخالى من السياق . تعمد وصل الجمل بالمعانى الغائبة يضر بالعمل الإبداعى ، فأنت قد تقبل ـ لتكامل النص ـ كتابة ما ، قد يكون فى وعيك أفضل منها . أنا أكتب القصة القصيرة ، أو الفصل فى رواية ، فى جلسة واحدة . لا أترك القلم والورق قبل أن أنهى ما بيدى ، يملى النص ما يحمله . ربما اتجهت الأحداث إلى عكس ما كنت أفكر فيه قبل البدء فى الكتابة ، وربما أبانت الشخصيات عن نقيض ما كنت أتصوره فيها . لا أحاول التدخل ، إنما أترك المسألة برمتها إلى موروثات وقراءات وتأملات ورؤى وخبرات وتجارب . وعلى حد تعبير همنجواى ، فإن همى الأول ـ وأنا أبدأ فى كتابة الرواية ـ هو أن أنجزها . إذا صادفت قلقاً فى بعض المواقف أو التعبيرات ، أو حتى الكلمات التى تهب المعنى ، فإنى أتجاوزها ليظل الخيط متصلاً إلى نقطة الختام ، ثم أبدأ فى رتق [ وأعتذر لردءاة التشبيه ! ] ما أهملته من قبل ، أو يبدو لى غير منسجم مع النص . لا أترك القلم ، أعتبر النص منتهياً إلاّ إذا بدا النص جسماً مكتمل الملامح والقسمات والتكوين ، لوحة فنية متكاملة الأبعاد والألوان والظلال ، قطعة نسيج خلت من العيوب التى تقلل من قيمتها . لا أقصد من ذلك أنى أكتفى بمجرد وضع السواد على البياض ، أو على حد تعبير موباسان " اكتب أى هراء ، ولا يهمنى ماذا يكون ، ثم أنظر فيه بعد حين " . أنا أكتب بالفعل ، أحاول أن أعبر بقدر ما تواتينى الموهبة ، وحضور اللغة ، فإذا استعصى التعبير تركت الجملة ، أو الفقرة ، حتى لا أفقد المواصلة ، ثم أعود إلى النص ، أطيل قراءته ، أعاودها ، أتأمل وأفكر وأضيف وأحذف وأبدل ، حتى أطمئن إلى أنى لم أخطئ فى صياغة جملة ، ولا إلى موضع كلمة ولا حرف . وربما أقدمت على تمزيق النص ، لأن صورة المولود شوهاء ، فلن تجدى إعادة نظر . عموماً ، فإنه يجب أن تكون أمام الفنان فترات للتأمل ، وهذه الفترات عندى حين أقود سيارتى ، أو عند ركوبى المواصلات العامة ، أو لحظات القراءة . تثيرنى معلومة ، فأسرح فيها ، وربما بعيداً عن المعلومة نفسها . قد تأتى لحظات التأمل تحت " الدوش " ، أو فى دورة المياه ، أو حتى أثناء تناول الطعام . إنها تأتى فى اللحظات التى أنعزل فيها ـ دون وعى دائماً ـ عن الآخرين ، أذهب إلى جزر قريبة ، وبعيدة ، أتنقل بين عوالم واضحة وضبابية وهلامية ، فى هذه اللحظات ، تواتينى فكرة الرواية ، أو القصة ، أستكمل الجملة الناقصة ، أحذف الكلمة الزائدة ، وربما الحرف الزائد . قرأت لفيلكس ألكرن إن قلمه كان يجرى على الورق بقدر ما تواتيه السرعة ، فهو يجعل بعض الكلمات إشارات وخطوطاً ، ويملأ الصفحات بما يصعب قراءته . ربما كان خط ألكرن جيداً ، فهو يكتب ـ بسرعة ـ كلمات وجملاً واضحة . أما خطى فهو سيء فى الكتابة العادية ، ويصعب على قراءته ـ أحياناً ـ بعد أن أكتب بسرعة ، ولولا أن عمل زوجتى بالتدريس لأعوام طويلة ، فخبرتها فى الخطوط طيبة ، ولولا أنى أفلح فى القراءة بالتذكر ، فلعلى كنت سأتخلص من الكثير الذى قرأته ، يأساً من قراءته .
***
يعرف بعض الأدباء " الإلهام " بأنه القدرة على أن يخلق المرء فى نفسه أنسب الحالات للعمل . ويقول أوستروفسكى : إننى مقتنع بشيء واحد ، هو أن الإلهام يأتى أثناء العمل ، والكاتب يجب أن يكون كالبناء فى هذا البلد ، أى أن يعمل فى جميع الأجواء ، سواء كانت سيئة أم حسنة " . أنا أتفق مع هذا الرأى تماماً ، فالقضية ليست فى " أنسب الحالات للعمل " ، ولكن فى مدى قدرتناعلى إيجاد تلك الحالة فى النفس . كذلك فإنى أتفق مع الرأى بأنه ينبغى على الكاتب ألا ينتظر حتى يأتيه الإلهام ـ وقد لا يأتيه ! ـ وإنما عليه أن يذهب فيحصل عليه . من الخطأ ـ على حد تعبير جون برين ـ أن ننتظر الوحى قبل الكتابة ، لا لأن الوحى لا وجود له ، بل إنه لا يأتى إلا مع الكتابة . يكفى أن تكون لديك الصورة ، ليس من الحتم أن تكون عالماً بأصل الصورة ، المهم أن تكون لديك الصورة ، وهى لن تكون موجودة ، ومتبلورة إلى حد ما ، ما لم تكن قد اتخذت قراراً بكتابة القصة ـ أو الرواية ـ وهممت بكتابتها . ولعلى أشير إلى قول همنجواى : " فى روايتى العجوز والبحر كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله ، لكن لم أعرف القصة ، كما لم أكن أعرف على وجه الدقة ما سيقع من أحداث فى لمن تدق الأجراس ، أو وداعاً للسلاح .
والحق أنى حين أبدأ فى كتابة عمل ما ، فإن صورته فى ذهنى لا تكون واضحة تماماً . إنى أكتفى بالفكرة دون تفصيلات ، وإن توضحت بعض التفصيلات الصغيرة ، لكننى أفضل أن يكتب العمل نفسه ، بمعنى أنى أرفض التحديد الصارم لصورة العمل منذ بداية الكتابة ، حتى لحظة ترك القلم ، ذلك تعسف لا أتصور أنى أقدم عليه . وكما قلت ، فإنى أبدأ الكتابة وصورة العمل غير واضحة الملامح ، فتتوضح معالمها أثناء الكتابة ، لأنها هى التى تهب تلك الملامح ، بإسهام من المخزون الذى أمتلكه من الخبرات والتجارب والرؤى والتصورات . عندما أبدأ الكتابة ، فإنى أعتمد كثيراً على الخبرات ـ خبراتى وخبرات الآخرين ـ الكامنة والمترسبة فى أعماقى . لا أجهد نفسى فى البحث ، ولا أحاول انتزاعها ، إنما أترك للعملية الإبداعية سبيل استدعائها على الورق ، تظهر فى الوقت الذى تريده ، وعلى النحو الذى تريده ، دون تعمد ولا قسر من ناحيتى . وربما تكون الشخصية ، أو الحادثة ، غائبة تماماً ، فلا أتذكرها إلا أثناء عملية الكتابة .
***
(يتبع)