(7)
*يا عينـي عـلى العاشـقين*
.........................................

(1)
.. ولأنه يقيم مع والده في مدينة السنبلاوين، ويدرس الطب في كلية الطب بمدينة المنصورة، كان عليه أن يركب القطار مرتين يومياً.
في محطة السكة الحديد بالمنصورة تعرف على "صفاء"، تسافر معه من السنبلاوين إلى المنصورة يوميا: بيضاء، ناعمة الشعر، لها خصلة شعر تتمايل على جبينها. أهم ما يميزها غمازتان في خديها، يتألقان حينما تضحك ـ من قلبها مُقهقهةً ـ أو تبتسم.
لم يبدأ الحب بينهما بالطريقة التقليدية: نظرة، فابتسامة، فموعد، فلقاء!. بل بدأ بعد نزولهما ـ من القطار ـ ذات صباحٍ مشمس، تتردّد فيه ـ من قاعة التشهيلات بالمحطة ـ أغنية أم كلثوم المُتحدِّية: "الحب كده".
ونما الحب، وترعرع داخل قطار الصباح الذي يغادر السنبلاوين إلى المنصورة في السابعة إلا عشر دقائق.
(2)
قالت له: أحبَّك، ونفسي أعيش معك .. بعيد .. عن الدنيا.. عن كل العيون، على رأي حليم!.
قال في صوت خفيض، حتى لا تسمع زميلتها البدينة، ذات الشعر الأشقر التي تتلصص عليهما منذ اكتشفت حرارة الأحاديث بينهما، وكانت قد حاولت أن تُنشئ علاقة مع طالب الطب ففشلت:
ـ قريباً يا صفاء .. بعد سنتين أو ثلاثة .. نتزوج، ونعيش في تبات ونبات .. ويكون لنا صبيان وبنات كما تقول حكاية الشاطر حسن!.
غضبت صفاء، وحينما تغضب صفاء فإن الشموس تهجر مداراتها، والعصافيرَ تُغادر أعشاشها، والبيوت تسقط على أرؤس ساكنيها. قالت:
ـ أنت تخدعني .. ولا تحبني.
وفكّت يدها من ذراعه، ولما أبصرت الشماتة في عيني زميلتها ذات الشعر الأشقر أعادت يديها الاثنتين إلى قبضة هشام، وظلت ـ رغم أنوف كل المتربصين والمتربصات ـ تغني لهشام أغنيات أم كلثوم، وعبد الحليم، وليلى مراد!
لكنه كان يحب أن يسمع منها أغنيات فيروز!.
(3)
لاحظ أبو هشام أن ابنه أصبح يتأخر عن مواعيده التي درج عليها في السنوات الأربع الماضية، ولاحظ أنه يسرح دائماً، ولأن طالب الطب ينجح طوال حياته بامتياز، فقد لفتَ أبوه نظره إلى أنه يجب عليه أن يذاكر، وأنه باقٍ على الامتحان شهران .. خصوصاً أنه أصبح ينام مبكراً كل ليلة، ويقرأ روايات ألبرتو مورافيا، وإحسان عبد القدوس، وخليل حنا تادرس، كما وجد عنده بعض أعداد من مجلة "الشبكة" التي لا يحبها أبوه، مدير الوعظ .. ولفت نظره إلى أنه يجب عليه أن يخلع صور الشياطين ألفيس بريسلي .. ونجوى فؤاد .. وسعاد حسني التي أصبحت تملأ حجرته، ولا تليق بابن الواعظ الذي تعوَّد أن يُصلي الفجر مع أبيه، وهو في السابعة.
(4)
5 مارس 1970 ليلة الجمعة:
أم كلثوم تُغني أغنيتها الجديدة "ودارت الأيام"، الولد مع البنت يستمعان إلى الأغنية في بيت البنت التي تشجعها أمها على الحب، لتجربة مريرة خاضتها في حب مُحامٍ من جيرانها لم تُكلل بالظفر، بل آبت بالزواج من المرحوم أبي صفاء الذي كان يعمل أميناً للشونة في قرية صغيرة، ويقترب عمره ـ رحمه الله وأحسن في الجنة مثواه ـ من ثلاثة أضعاف عمرها!
هشام وصفاء يستمعان في حجرة عتيقة إلى الأغنية التي جاءت على وجيعتهما برداً وسلاماً، يتشنجان وأم كلثوم تُردِّد: عيني .. يا عيني .. يا عيني!..
وبعد أن انتهت الوصلة قالت له إن هناك من أتى لطلب يدها، ولكنها ترفض لأنها مرتبطة بحبيب الروح هشام، الذي سيكون طبيباً قد الدنيا، وإن عليك إن كنت تحبني حقا يا هشام أن تُحضر أباك الواعظ ليتقدّم إلى أُمي لطلب يدي، وأنت تعرف أن أمي تحبك، وتُبارك هذا الحب، وسترحّب بقدوم أبيك!
(5)
ويعود الابن، حيث يسأله الأب: أين كنت حتى هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ولكنه لم يُجب، ويدخل إلى حجرته، وتدخل أمه وراءه، وتقول له:
ـ يا بني أبوك يلومني كثيراً بسببك ..يقول لي: أنت السبب .. أنت اللي دلّعت هشام .. وفتّحت عينيه، وكنت تقولين له دائماً تتجوز بنت خالك علي أم بنت عمك عبد المقصود؟
ولكن الابن لا يرد. وتعود الأم في ضراعة:
ـ يا ابني .. مستقبلك يا حبيبي!
ويظل صامتاً.
(6)
في اليوم التالي (6 مارس)، وكان يوم جمعة، وفيه ساعة إجابة، قال الولد لأبيه في خجل شديد إنه يريد أن يتزوج، قال له والده كيف تتزوج قبل أُختيك اللتين تخرجتا من كلية الآداب، وأخيك المُهندس؟ قال هشام ـ وهو لا يكاد يرفع وجهه عن الأرض ـ على الأقل أخطب!
قال أبوه في غضب:
ـ ماذا تقول؟
ـ أقول أخطبها بس .. يعني أحجزها.
قال أبوه غاضباً:
ـ إنك مراهق، لا تعرف مستقبلك!
قال هشام، وكأنه يصرخ بكل ما اُوتي من قوة: إنها مستقبلي. فرد أبوه بعنف:
ـ لست ابني .. الله يعوِّض عليّ فيك.
ولم يكتف بهذا بل بصق ـ وهو يدير وجهه ـ بصقة كبيرة، وخلع فردة حذائه اليسرى وهوى بها في عنف ـ مرات كثيرة ـ فوق وجه زوجته التي لم تُحسن تربية هشام!!
أخذ الولد يبكي، وبعد قليلٍ غادر الولد الشقة ـ التي غادرتها بعد قليل أمه، وهي تسدل طرحةً كثيفةً سوداء على وجهها ـ وأمام بيت صفاء التقت عينا هشام الدامعتان، بعيني أمه المقرحتين، وارتفعت من خلف الباب زغرودة آملة .. مستبشرة.

المساء ـ 13/4/1970