المحور الثالث :
أهم القضايا الأدبية والنقدية التي أثارها د / محمد بن سعد بن حسين وقدمها في كتاب " الأدب الحديث في نجد "
- تتعدد مناهج النقد الحديث ، وتتعـدد تياراته ، مثلما تعددت مدارس الأدب ومذاهبه ، ومناهج البحث الأدبي هي : الطرق التي يدرس بها الأدب أو الأديب بحيث تستظهر خصائصه ، وما يتصل بنتاجه من بواعث ومظاهر وجوانب مختلفة تكشف عن حقيقة الشيء الذي يبحث فيه كشفا واعيا .
- ومناهج البحث .. ومذاهب النقد لم تعد محصورة في الاتجاهات والمناهج المألوفة .. المتمثلة في المنهج التاريخي ، والفني ، والنفسي ، والاجتماعي ، والمنهج المتكامل كما عبر عنه " ستانلي هايمن " في كتابه " النقد الأدبي ومدارسه الحديثة " .
وقفزت إلى الساحة عدة مناهج تمثل اتجاهات النقاد في تحليل الأعمال الأدبية ومنها : النقد التكويني ، والنقد الموضوعاتي ، والنقد التحليلي النفسي ، ونقد النص . (17)
- ويقدم " ستانلي هايمن " في كتابه النقد الأدبي ومدارسه الحديثة عدة اتجاهات للنقد الأدبي تمثل في رأيه مدارس ، ولا يلغي بعضها البعض الآخر ، ومنها : النقد الاتباعي ، والنقد المعتمد على السيرة ، والنقد القائم على الموروث الشـعبي ، والنقد النوعي ، والنقد بالتفسير ، والنقد المتصل بالعمل الرمزي ، " والمذهب النقدي المتكامل " .
- وتوالت موجات النقد الحداثي من البنيوية إلى التفكيك ، ولها روادها .. في العالم الغربي ولها أنصارها في العالم العربي ، ولها أيضا خصومها والذي قوموها ، ويعبر د / عبد العزيز حمودة عن موقفه من أصحاب هذا المنهج حين يقول : إنهم أحالوا النص المنقود إلى غابة متشابكة من البيانات والجداول الإحصائية ، والرسومات المعقدة من الدوائر والمثلثات والخطوط المتوازية والمتقاطعة والساقطة .
ويقول " ليتش " في دراسته عن التفكيك " إن التفكيكية المعاصرة باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل تخرب كل شيء في التقاليد تقريبا ، وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلامة ، واللغة ، والسياق ، والمؤلف ، والقارئ ، ودور التاريخ ، وعملية التفسير ، والأشكال الكتابية ، النقدية ، ومن قبل التفكيكية فشلت البنيوية ، وقد أقر بذلك بعض نقاد الغرب وعدد من المفكرين الفرنسيين . (1
و د / محمد بن حسين .. لم يحدد المنهج الذي اتبعه في رصده لمعالم الأدب الحديث في نجد ، وذلك لأنه تعامل مع عدة أجيال تباينت توجهاتها ، وتعددت مشاربها ، فمنهم " التقليديون " ومنهم " الإحيائيون " الذين يستشرفون معالم التجديد في حذر ، ومنهم الرومانسيون المتفتحون على آفاق التجديد ، ومنهم كذلك " الخطباء " وكتاب المقالة ، وكتاب القصة .
وقد تعامل د / محمد بن حسين مع نصوص المبدعين تعاملا فنيا نابعا من المنهج الذوقي التأثري .. وهو في كل محاضرات الكتاب وفي جميع القضايا مزج بين المنهجين : التاريخي والفني .. وهذا النهج لم يتعمده الناقد ، ولم يحدد معالمه في مقدمة الكتاب ـ ولكنه قال : [ هذه مجموعة محاضرات ألقيتها في مواسم مختلفة ، وفي سنوات متعددة يجمعها موضوع واحد هو : " الأدب الحديث في نجد " أقدمها لك أيها القارئ كما هي دون تبديل أو تعديل ، وإن كانت النفس تنازع إلى إضافة أشياء وأشياء ] .
وأهم القضايا الأدبية والنقدية التي أثارها ابن حسين .. هي :
1- قضية إهمال الرواة والعلماء لأدب نجد منذ بداية القرن الثالث للهجرة حتى قيام الدعوة الإصلاحية في القرن الثاني عشر الهجري ، وظاهرة ضياع المخطوطات والمكتبات التي توضح بجلاء معالم هذه الحقبة ، وهذه القضية يجب أن يتنبه لها الباحثون ، وأن يجدّوا في البحث عن معالم هذه الفترة الضائعة ، لأنها امتدت حوالي " ثمانية قرون تقريبا " ويصور ذلك " ابن حسين " ويشاركه كثير من الكتاب والمفكرين هذا الرأي ، حيث يقول : " هناك فترة من تاريخ نجد – ليست بالقصيرة – أحاطها الغموض ، واكتنفها الظلام من كل جانب ، حتى بدا منبت الفصحى ، وكأنه من المجاهل التي لم يعمرها الإنسان . وهذه الفترة هي الواقعة ما بين العصر الأول من الحكم العباسي ، وقيام المصلح الكبير الإمام محمد ابن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر .
ويرى " د / محمد بن حسين " أن التسليم بهذه الحقيقة أمر مرفوض ، وواقع لا يجب الإقرار به ، ويستدل على هذا بأن الشعراء في كل العصور أشادوا بنجد ومعالمها ، وقد جمع بعض الباحثين ما قيل عن نجد من قبل الشعراء في كل مراحل التاريخ العربي .
وينبه المؤلف كذلك إلى أن طلاب ورواد المعرفة كانوا يؤمون تلك البقعة من نجد ليحصلوا منها على الكتب والمخطوطات النفيسة ؛ ويؤيد موقفه هذا حينما يذكر أن المستشرق " عبد الله فلبي " في كتابه " تاريخ نجد " أشار إلى هذه القضية حينما قال : " ومن الغريب أن لدينا عن سدير تفاصيل تاريخية واسعة لأن معظم المؤرخين والفقهاء في تاريخ السعودية كانوا من سدير نفسها ، أو من البلاد المجاورة لها " .
ويتساءل " د / محمد بن حسين " في دهشة مستنكرا ، ومستثيرا همة الباحثين والآثاريين " فأين هي تلك المخطوطات الضخمة الكمية التي ذكرها فلْبي ، إن لم تكن يد السرقة والإهمال قد عبثت بها ، ثم يقـدم المؤلف هذه النتيجة التي تلقي على كاهل الباحثين عبء المسؤولية ، وضرورة الجد في البحث والتنقيب عن آثار هذه الحقبة المجهولة ، حيث يؤكد المؤلف أن نجداً لم تكن مقفرة من الأدب ، خالية من الشعر في تلك الفترة التي أهملها فيها التاريخ ، لكن رواة الخبر ومسجِّلي الأثر هم الذين أغفلوا ذكر نجد ، حتى بدت وكأنها من مجاهل إفريقية التي لم يكن لها في التاريخ نصيب [ ( ص 20 ) الأدب الحديث في نجد ]
2- إهمال العلماء للشعراء ، والعداوة بينهم أحيانا :
وهذه القضية عرض " د / محمد بن حسين " أسبابها .. وحلل بواعثها .. ولكن العداوة لم تدم لأن الشعراء اضطروا بعد ذلك لنظم الشعر في الرد على خصوم الدعوة الإصلاحية ، وبعضهم أجاد ، وبعضهم أخفق .. ولم ينظم إلا معلومات ومعارف لا صلة لها بالشعر .
وبالكشف عن بواعث هذه الخصومة بين العلماء والشعراء .. يرى المؤلف أن تعريض القرآن بالشعر ، وبعض الأحاديث الواردة في ذم الشعر أدت إلى هذا الموقف الرافض لفن الشعر ؛ وأرى أن الأمر ليس بهذه السهولة . فللعلماء الثقات آراؤهم حول الشعر المقبول والشعر المرفوض ، وقد جمع القرطبي في تفسيره أقوال المفسرين الأوائل واللغويين في تفسير قول الله تبارك وتعالى : " وما علَّمناه الشعر وما ينبغي له . إن هو إلا ذكر وقرءان مبين " وقالوا : " وإنما الذي نفاه الله عن نبيه عليه السلام فهو العلم بالشعر وأصنافه وأعاريضه ، وقوافيه والاتصاف بقوله ، ولم يكن موصوفا بذلك بالاتفاق .
ومن الذين استشهد بهم القرطبي الشيخ أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتابه " الزينة " ، وأبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في كتابه " الصاحبي : في فقه اللغة " ، والسيوطي في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " شارك في هذه القضية وقدّم رأيا فنيا صائبا ، والقاضي : أبو بكر الباقلافي فصّل القول في هذه القضية ، ونصّب نفسه للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويقدم " ابن حسين " مخرجا لموقف العلماء من الشعراء .. وهو مخرج مقنع وغير مبالغ فيه : فيقول " إن كثيرا ممن طرقوا سبيل الشعر ، وامتهنوا القول فيه كانوا من المتطرفين المتساهلين في جانب الخلق والدين كأبي نواس وبشار بن برد ، وحماد عجرد وأترابهم . (1
ومما يؤكد إهمال العلماء للشعراء عنايتهم بالخطابة والكتابة في الطور الأول من أطوار الدعوة الإصلاحية .. ، وهذه العناية كانت بعد عصور من الجدْب والجفاف في ميدان الخطابة والكتابة .. ، ونَجْد – كما يقول د / ابن حسين – التي رزئت في شعرها وفصاحة لسانها ، رزئت كذلك في خطابتها .. لكن متى ؟ وكيف كان ذلك ؟ .. لا أحد يعلم . فنجْد في فصول تاريخ عصور الإسلام الوسطى كبلاد الأساطير .. ماضٍ عامر ، وحاضر مجهول ، غير أنه لابد من أن تكون قد أصاب خطابتها ، ما أصاب خطابة أقاليم العربية الأخرى ، من إجداب في المعنى وإمحال ، مع تكلف وتصنع في المقال ، وركون إلى المدونات بعد العجز من البديهة والارتجال . [ الأدب الحديث في نجد ص 193 – 194 ] .
3- معالم النهضة الأدبية في نجد والتأثر بالاتجاهات الجديدة :
وهذه المعالم يتصدرها تأثر الشعراء في نجد وفي المملكة بصفة عامة بالمدارس والمذاهب الأدبية الجديدة في الثلث الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ، وهذه المدارس هي : [ الديوان ، والمهجر ، وأبولو ] والاتجاه الرومانسي عند خليل مطران .
ويسوق الناقد ابن حسين عدة أحكام " استطرادية " لا يؤيدها الواقع .. في موقفه من بعض الاتجاهات أو المدارس ، ومنها مدرسة الديوان .. فيقول منتصرا للاتجاه المحافظ عند شوقي ونظرائه ، حيث يقول عن مصير مدرسة الديوان :
" غير أن تلك المدرسة لم تعمِّر طويلا ، فقد خربت بأيدي أهلها ، وعاد بعضها يأكل بعضا ، بعد أن أجهدت نفسها في النيل من عمالقة المدرسة التقليدية فعجزت عن تحقيق النصر ، لأن هدف الحملة كان مشبوها ، وذلك أمر غير معروف !!!
ولا أدري سرَّ الحملة التي قادها العقاد وزملاؤه ضد شوقي وأنصاره ، وهي تكمن في الاختلاف الثقافي والفني ، وفي إدراك وظيفة الشعر ودوره بين الفريقين ، وكلا الفريقين على صواب .. لأن النتاج الشعري يصور رؤية الشاعر وموقفه من الحياة ، ويرسي " ابن حسين " قاعدة تمثل منهجه ورؤيته لتطور الظواهر الأدبية ، ومازال يتبنى هذا الموقف وهو أن التقليد هو الطريق إلى التجديد في كافة مجالات الحياة لدى كل أمة من الأمم ، ويدلل الناقد على رأيه بما يؤكد أنه يتبنى المنهج التاريخي ، مع الإشارة إلى التاريخ الطبيعي الذي يربط بعض ظواهر تطور الفنون الأدبية بمثل تطور الكائنات النباتية والكائنات الحية عموما حيث يقول " يشبه العلماء العلوم والفنون بالكائنات الحية ، في كونها تبدأ حياتها ضعيفة هزيلة ، ثم تأخذ في صعودها سلّم التدرج الطوري حتى تبلغ الذروة بعد أن تتم فيها الضروريات ، وتأخذ بنصيبها من الاكتمال ، عندئذ يجد البحث فيها عن التجديد ، حتى إذا ما استنزفت أدوات الترف والكماليات في حياتها صارت إلى المخالفات لكل ما هو مألوف .
وإنما يكون ذلك على يد هواة التجديد والشهرة .. ممن ليسوا من أهل ذلك ، ويقدم " ابن حسين " تحليلا فنيا ورصداً نقديا لعدة شعراء مجددين ومنهم [ سعد البواردي ، وحمد الحجي ، والأمير عبد الله الفيصل ] .
ومن الشعراء المحافظين التقليديين الذين أشاد بهم [ حمد الجاسر ، وخالد الفرج ، وعبد الله بن خميس ، وعبد الكريم الجهيمان ، ومحمد المسيطير ] .
ويرصد المؤلف الرؤى الموضوعية التي أنتجتها قرائح الشعراء في هذه الحقبة المائجة بالأحداث ومن هذه الرؤى المواكبة لإيقاع العصر .. وأحداثه :
1) الحنين إلى الوطن : ولا يكتفي الناقد بتجارب الشعراء الجدد ، ولكنه يستطرد ويورد أشعارا من الشعر القديم ، في الحنين إلى نجد ، وكذلك من الشعر المعاصر آنئذٍ .
2) الشعر الوجداني : ويورد نماذج شعرية مع التعليقات الفنية الراصدة لأسرار التجارب في هذا المضمار ، واحتفى بتجربة الأمير الشاعر عبد الله الفيصل ، وناقش كثيرا من القضايا في هذا السياق .
3) القضايا الوطنية : ويفسر المؤلف ظاهرة خلو تجارب الشعراء من الشعر السياسي ، ويعلل ذلك تعليلا صحيحا حيث يشير إلى سلامة البلاد وطهارتها من رجس الاستعمار الأجنبي ، إذ لم يكن للأمم الاستعمارية فيه أدنى نفوذ .
4) القضايا العربية :
وشارك الشعراء في قضية فلسطين ، وثورة الجزائر ، والاعتداء الثلاثي على مصر ، وقضية عمان ، وقضية السلام ... إلخ
4- قضية الشعر الحر ، والشعر المنثور .. وموقف " ابن حسين " من هذين اللونين :