ـ 8 ـ

لم ينم هذه الليلة. إن غفلت عيناه، حلت عليه كوابيس أنهضته من نومه في حالة من الفزع لم يعهد لها مثيلا. أتاه حلم مرعب لعمال غير محددة الوجوه، يحفرون مقبرة بعمق لا نهاية له، وهو مستكين ينتظر حتفه في هذا الجب العميق. ولما حان أجله، أحس بقوة تحاول دفعه للسقوط، فصرخ صراخا عاليا، لكن الصراخ لا صوت له، تردد صدى الصراخ في المقبرة التي لا قرار لها.
ينهض فزعا. يرفع طرف الغطاء الذي انحسر أغلبه من فوقه. ينهض من فراشه، يضيء مصباح الكيروسين المعلق على جدار في ركن من الطرقة الضيقة المفضية إلى دورة المياه. الكل نيام. وهو قلق فزع. حين أفاق، عاد إليه الهدوء وشملته السكينة. ما أقلق نومه رد فعل مباشر للحادث المشئوم، والضحايا من الشباب. ليلة لم تنم فيها إمبابة، ولا العجوزة، ولا المنطقة المحيطة بهما. أغلب الضحايا من طلبة وطالبات المدارس. حاول النوم فخاصمه. أعد قدح شاي لعله يعيد إليه الهدوء. فكر في الذهاب إلى حميدة، لكن الليل انتصف.
فتح باب الشقة التي لا تتعدى كونها غرفة نوم وصالة ضيقة تفضي إلى مطبخ وحمام. كانت في الأصل عشا مبنيا بالتبن والطين، حوّلها إلى بناء بالطوب الآجر، وغطى السقف بكتل الخشب الضخمة، وألواح الاسبستوس. سكنه المتواضع ملاصق لنفق المنيرة، عند المدخل المؤدي إلى شارع البصراوي الضيق الممتد حتى تلتحم نهايته يمينا ببشتيل حيث المزارع الخضراء. شارع ترابي آخر مواز للسكة الحديدية، والترعة تمتد بامتداده، يؤدي في نهايته إلى مطار إمبابة للطيران المدني الذي أنشئ في نهاية الأربعينيات، ومعهد الطيران الشراعي ومعهد التدريب على الطيران، وسمي لهذا "شارع المطار". سكن حمزة بهذا الموقع المميز، الذي يقع في مفترق طرق، منذ كان شابا في العشرينيات، كأنه حارس على نفق المنيرة، الذي تعبر من فوقه قطارات الصعيد من وإلى محطة مصر. يحس بكل رجة في أرضية الشقة، بحركة القطار، وصفارته المدوية أشبه بصراخ متواصل ينوح على الذين ماتوا وفارقونا..
انشرح صدره بسماع صوت المؤذن. قام ليتوضأ. فتح النافذة الضيقة فنفذ منها هواء رطب مشبع ببرودة. اتسع صدره للهواء الطازج، وطردت طواعية أشباح الليل وعالمه الخرافي. صلى وسبح وحمد الله وكبّر، ثم دعا ربه أن يصلح الأحوال ويحقق الآمال. كانت آماله محدودة متواضعة، لا تتعدى أن يعينه على مواجهة ما تأتي به الأيام، وأن يحقق لحميدة أملها في ولد تفرح به..
في الوقت الذي دعا ربه أن تنجب ابنته، كانت هي تتقلب في الفراش، تفكر في حال أبيها، الرجل العظيم، الذي أجهد نفسه يوم ارتمى التروللي في أحضان النيل، غير عابئ بمن يحمل. أخذ والدها يعين الناس على تحمل ما فاجأهم به القدر. حمل بطاطين وأغطية كثيرة من فاعلي خير، وقاد حملة للتبرع بالدم، فتجمهر خلق كثيرون في صف منتظم، وأعان رجال الإنقاذ قدر استطاعته. وفي المساء لم يترك سرادق عزاء إلا دخله. أشياء كثيرة قام بها، منها ما تعرفه ابنته، ومنها ما لا تعرف. حميدة بأبيها معجبة. هل زوجها صاحب مروءة مثل أبيها ؟ هي لم تكتشف بعد خصال المروءة والنخوة عنده. إنها لا تريد أن تتسرع، فزواجهما لا يتعدى سنتين. هي تعذر جابر المشغول بالخلفة. يحلم بولد تنجبه له، تصاعدت آهة الحزن تنهيدة كبيرة من صدرها، تكاد تبكي حظها. تتمنى أن يرزقها الله بولد أو بنت، فكل عطايا الرحمن حلوة..
تود أن تنجب طفلا تضمه إلى صدرها، تتحسس شفتاه حلمة ثديها، يتغذى من لبنها، تغمره بحنان جارف.. بتلقائية تناولت وسادة صغيرة وضمتها إلى صدرها، وأخذت تحلم بالولد أو البنت. تنهدت وقالت في سرها : يا رب.. كررت النداء، لكنها لم تنجح في حبس صوتها هذه المرة. تنبه زوجها، ففتح عينيه نصف فتحة..
ـ صحوتِ يا حميدة..
تحللت من الوسادة، إلا أنه لاحظ حالها ولم يشأ أن يظهر اهتمامه، استطرد:
ـ الفجر أذّنْ ؟
ـ مِن بدري..
بدأت تشعل موقد الكيروسين وتضع قدر الماء للتوضؤ.. ولما فرغا من الصلاة، ارتدى كل منهما جلباب الخروج، قاصدين سوق الجملة بروض الفرج. جهزا العربة "الكارو"، وتريثا إلى حين ينتهي الحمار من تناول أعواد البرسيم وشرب الماء، ولما أطلق نهيقه أدركا أنه شبع. وفي طريقهما مرا على حمزة، فقامت بترتيب فراشه، وكنس الغرفة والصالة.. ثم واصلا رحلتهما اليومية إلى سوق الجملة ليبتاعا ما يسوقانه في سوق إمبابة.. كان الطريق خاليا إلا من قلائل. نادرا ما يلتقيان بأحد. نباح الكلاب التي استيقظت متكاسلة، يتناهى إلى سمعهما من حين لآخر. عبرا نفق المنيرة واتجها يسارا إلى شارع المحطة في اتجاه النيل، مرورا بسيدي إسماعيل الإمبابي. توقفا بالعربة " الكارو " أمام قبة الضريح الخضراء. شخصا إلى نافذة ذات قضبان حديدية طولية. رفعا أيديهما وقرءا الفاتحة. أكثرت حميدة من الدعاء إلى الله أن يهيئ لها من أمرها يسرا. لم تكتف بذلك، أصرت على النزول والاقتراب من المقام. كلما اقتربت، استجاب الله لدعائها ؟ ترى أن الدعاء عند المقام يلقى القبول.
انتظرها جالسا على عربته، والحمار يقف مستكينا لا يلوي على شيء. كأن هناك لغة ما فهمها الحمار، بأن صاحبيه سيتوقفان قليلا. قرأت الفاتحة والصمدية والمعوذتين، ولهج لسانها بدعاء كثير، بكلمات عفوية.. تدعو الله أن يرزقها بولد، حتى لا يفكر زوجها في تطليقها، وتنعم بأمومة كسائر النساء.
المقام للولي الصالح الشيخ إسماعيل بن يوسف الإمبابي الذي يرجع نسبه إلى سعد بن عبادة سيد قبيلة الخزرج بالمدينة المنورة، أيام هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها. يقام له سنويا مولد من أكبر وأشهر موالد الجمهورية ويعرف باسم مولد إسماعيل الإمبابي.
واصلا الرحلة إلى السوق. في نهاية الشارع، مرا على قسم شرطة إمبابة. اتجها يسارا إلى كوبري إمبابة، فعبراه، وقد استطابت نفساهما بهواء الصباح النقي.. في السوق، قصدا مزادا صغيرا لشراء طماطم وكوسة. ورضيا بشروة ملوخية تملأ قفة كبيرة. حملا ما اشترياه على العربة. أعطيا الحمار فسحة من الوقت يأكل من "غلق" التبن، ويشرب الماء من سبيل الماشية القريب.
حين بدءا رحلة العودة، التقيا بعجوز مسنة فأعطتها حميدة ثلاث قطع من الطماطم. قصدا كوبري إمبابة، عند مدخله عربة البلح الأبريمي، ابتاعت منها قرطاسا صغيرا بقرش صاغ. كان البلح بداية فطورهما وقد لفحت وجهيهما نسمات الصباح المنعشة. حفزت النسمات الحمار على السير الحثيث، غير عابئ بثقل ما يحمل.