( 9 )

لم أذهل مما كان يحدث كما فى المرة الأولى التى اعتقلت فيها وقت أن كنت أطلب القانون فى كلية الحقوق . نعم .. لم أذهل نعم التقدم الملحوظ فى وسائل التعذيب والتنكيل بالمعتقلين ، فالفكر الذى يحرك الإنسان عندنا لم يتغير بعد ، ولا أظنه سيتغير .. ربما استمر الحال هكذا آلاف السنين . كل شىء هنا يدعو لليأس . فى المرة الأولى خرجت بيقين ثابت بأن القانون وُضع للصغار .. للحشرات القذرة من أمثالى . ما أشبهه بإله العجوة ذلك الذى كان يصنعه كفار قريش ثم يأكلونه وقت الحاجة ، ورغم ذلك يلزمون عبيدهم بعبادته والسجود له . نعم . خرجت بهذا اليقين من معتقلى الأول . ولم أعمل فى المحاماة أو أى عمل يمت بنسب إلى القانون . وعندما أُعلن عن وظيفة تطلب حملة الثانوية العامة أو ما يعادلها تقدمت بطلب ونجحت ، وسرت فى الحياة سيرة حمار يُضرب ويلعن ويُسب وهو يمخر فى الهواء دون أن يبالى بشيء ... ماضٍ وددت لو أنساه كله .. لكن هيهات ! ، فالقرائن كلها ضدك . عباس المصرى والشيخ .. الشيخ عبد السلام النمل ! . ترى من يكون هذا الشيخ ؟.. تراها كتبه القابعة هناك تحت السرير ؟ . وكنت أحسبها ذات ثقافة .. المودودى ، وحوى ، وقطب ، ودراز ، وعودة ، والقاعود ، وهلم جرا من أسماء تدين حملة أفكارهم . جريمة رأى ! .. آ .. ه . ثم محاولة قلب النظام ! عبث فى عبث ولا أمل .. بل لا جدوى فى التعلق بأمل ما حتى ولو كان الأمل فى الموت نفسه . ياله من مأزق لن تخرج منه إلا بمعجزة .. وابتسمت . ربما كانت هذه أول مرة أبتسم فيها منذ .. منذ متى ؟ .. لست أدرى . ولأول مرة _ كذلك _ ألاحظ وجود ثلاثة أشباح حولى .. فى الزنزانة .. يالله ! . كأنهم تماثيل ! .. لكن .. أين ذهب ؟ .. قلت :
- أين رأفت .. رأفت منصور ؟
هز أحدهم رأسه ، وتمتم :
- ذبحوه ..
- مات ؟
- بل استشهد ..
- الكلاب .
نطقتها بلا وعى ، وعندما شعرت بها ، تعلقت عيناى بباب الزنزانة وقلت لنفسى أزجرها : " لا شأن لك بشىء .. نعم لا شأن لك بشىء " . وارتعش جسدى ، و عادودتنى صورة المعذبين فى غرفة الإنعاش وفى القاعة الجهنمية الحمراء .. وقلت :
- كيف علمت بهذا الخبر ؟
- كنت معه .. رأيته وهو يلفظ أنفاسه تحت وقع السياط ؟ كان معلقاً من قدميه فى السقف ، وأصابه نزيف .. ظل ينزف من فمه حتى مات . نعم .. رأيته وكان ينظر لى نظرة ذات مغزى وكأنما يقول لى : سجل كل هذا الذى تراه علَّ جيلا يفيق .. وكان رغم الآلام متفائلاً حتى آخر لحظة . نعم .. حتى وهو يئن تحت وقع السياط .. نظراته نؤكد هذا .
وقلت:
- نعم إنه متفائل بالفعل .
- أو تعرفه ؟
- استقبلنى هنا وحدثنى عنكم .. لم يقل شيئا غير أنه ذكر لى أن منكم الأديب والعالم والمفكر الحر هو قال هذا ، وكان يبتسم مع شحوب وجهه وضعفه ..
وغرقت فى الصمت . صمت كئيب ثقيل . وانخرطت فى بكاء حار .. لمْ أدر بالضبط لِم أبكى . وتراءت لى أمى وهى تحت الأقدام ، ورأيتنى وأنا راكع أمامهم أنبح كما ينبح الكلب . اقترب منى أحدهم وربت على كتفى .. وتمتم هامساً :
- صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة .
- الجنة !
قلتها دهشاً . لم يلحظ أحدهم دهشتى تلك ، ولعلهم لم يتصوروها ولم يخطر ببالهم أنى فى الدهشة غارق .. وقال محدثى أيضا :
- أنا محمود .. محمود سعيد . طالب فى الدراسات العليا .. كلية الزراعة ..
وأردف بعد لحظة صمت لم تطل :
- ماجاء بك إلى هنا ؟ .. وشاية ؟ .. أم تراك فكرت فى استخدام عقلك يوما ًما ؟
وقبل أن أنبس تدخل آخر فى الحديث قائلاً :
- فى غيبة القانون لا تسل عن التهمة .
- هذا حق .
قلتها وأنا أهز رأسى ، وكأنما نطقت بها كل ذرة من ذرات جسدى ، بينما أردف هو يقول :
- محدثك مدحت شكرى ، معيد بكلية الحقوق .. وهذا القابع هناك فى ركن الزنزانة ، عادل النمل .. كاتب قصة مغمور ، وابن خالة رأفت منصور الذى رأيته أنت .. قتلوه الكلاب .
- بل استشهد ..
قالها عادل النمل دون أن يرفع رأسه وقد كانت بين ركبتيه . وردد خاطرى اسمه مرات ومرات .. أهناك صلة قربى بينهما ؟ .. وقلت :
- هل هناك صلة قربى بينك وبين الشيخ عبد السلام ؟
أخرج بوزه من بين ركبتيه ،ونظر إلىّ ملياً وتمتم :
- إنه معلمى ..
- أقصد ..
- سلمان منا آل البيت .
- أقصد ..
- نعم ..
وعاد إلى وضعه الأول دافناً وجهه بين ركبتيه . كان عادل النمل طويلاً نحيفا ، كث الشعر ، غامق السمرة ، وفى عينيه حور .. وفيهما إرهاق . إرهاق الشارد أبداً بحثاً عن شىء ما .. عن شىء ما يكاد يضع يده عليه إلا ويفر من بين أصابعه ولما أعدت إليه عينى ، قال مدحت شكرى :
- كانت صلته قوية بالمرحوم رأفت ، وقد رآه وهو يلفظ أنفاسه دون أن يكون فى وسعه صنع شىء له .. الإحساس بالعجز إحساس قاتل بالفعل ..
ورفع يديه إلى السماء وهمهم بكلمات لم أتبينها ، غير أنى تبينت فى يده ما أذهل لبى ، وأصابنى برجفة هى بالزلزال أشبه .. وتمتمت مشدوهاً :
- أنت .. أنت ..
اقترب منىحين وجد الدهشة عقدت لسانى ، وربت على كتفى قائلاً :
- لا تعجب .. نعم أنا مسيحى كما رأيت . نحن فى قارب واحد ، والحرية مطلب الجميع . لقد رحب أجدادنا بفتح الإسلام لمصر ،لأنهم أدركوا معنى الإسلام ورحابة سمائه وقوة نظامه .. أدركوا جيداً أنه ما جاء إلا ليحرر الناس من الناس ، وفهموا هذا فهماً جيداً حتى أن القبطى حين وجد من ابن العاص أمير مصر ساعتئذ ميلاً عن المعنى الذى فهمه من الإسلام ، طار لفوره إلى أمير المؤمنين فى المدينة ، ليقوم اعوجاج الفهم لدى عامله على مصر .. الإسلام يا صاحبى نظام عظيم يحارب من أجله كل صاحب دين , لأنه الضمان الأوحد لكل صاحب دين على دينه ,.
قلت :
- لحيتك .. ربما كانت السبب فيما جرى لك ..
رد قائلا :
- ليست لحيتى ، إنما هو الظلم الذى عشش فى أرضنا وباض وأفرخ .. والشعور بالمسئولية اتجاه كل إنسان وإن اختلف معى فى العقيدة .
- لِمَ لَمْ تخبرهم !
- من ؟
- الذين ...
قاطعنى قائلا :
- التحقيق لم يزل مستمراَ ..
ثم أردف بعد لحظة وهو يضرب كفاً بكف :
- يحسبون أنها خدعة !
- ياله من مأزق !
كان مدحت متين البنيان , كبير الرأس , جاحظ العينين .. ويرقد فوق شاربه الكث أتف ضخم يميل لونه إلى الرماد ولولا اللحية التى ملأت وجهه لبدا التباين واضحاَ بين الوجه والأنف . ابتسم مدحت عن أسنان عريضة مائلة للصفرة , وقال :
- هذه بلدنا .. وما يحدث هنا لم يكن ليتصوره عاقل . إنه أشبه بما كان يحدث من اضطهاد الرومان للمسيحيين القدماء .. وهذا دليل واضح على صحة الفكرة ثم هو لم يمنعها بحال وإنما يزيد من ظهورها وإلا فماذا فعل الرومان واليهود وقد صلبوا السيد المسيح ؟ .. لقد انتشرت المسيحية فى أرجاء الدنيا وتنصرت روما وماذا فعل كفار قريش وهم يعذبون أنصار محمد ؟ .. لقد انتصر محمد يوم دفعوه إلى ترك وطنه هرباً من بطشهم وظلمهم . الإنسان فى الحياة يحسب نفسه شيئاً إذا ملكه الله سلطاناً أو مالاً فيروح يعذب أبناء الله .. لكنه مخلوق ضعيف لا

يعرف ولا يدرك أى شىء .. أى شىء ..
قلت شارداً :
- نعم .. هذا حق .. الإنسان مخلوق ضعيف .. ضعيف جداً .
وقال محمود سعيد :
- لكى لا تنبت البذرة فلابد من دفنها .. إن ذلك طريقها الوحيد إلى الإنبات ومن ثم الإثمار . والدعوات إن لم يقاس أصحابها ويلاقوا من الصعاب والشدائد ما يقوى من عودهم ، فلا استمرار لها . الشدة تصنع الرجال وتنفى الصغار عن الطريق .
قلت :
- نعم .. هذا حق .. البذرة لكى تنمو ، لا بد لها من أن تدفن فى الأرض .
وقرأ محمود سعيد قول الحق :
- " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ، ألا إن نصر الله قريب " .
كان محمود سعيد ربعة ، رائق العينين وسيماً مع هم ظاهر أورث وجهه هيبة . وعجبت كيف تأتى للجند أن يعذبوا مثل هذا الوجه.