( 8 )
لا أدرى كم من الزمن مر علىَّ وأنا معلق فى سقف الحجرة الجهنمية .. ولا أدرى أية خواطر خطرت لى ساعتها ، أكنت أصرخ ؟ .. تلك منطقة مظلمة فى عمرى . كل ما أذكره أننى وجدتنى ثانية أمام المحقق نفسه . كان يفرك يديه ، وتلمع عيناه بمعنى غريب لم استطع أن أتبينه . كما أنى لاحظت تطاير أظافرى ، وتساقط جلدى .. ياللهول ! . "إن شيئاً فظيعاً حدث لى" .. هذا ما أكدته لنفسى وأنا أتمايل يمنة ويسرة فقد كانت قدماى منتفختين حتى أننى كدت أسقط لولا وجود جندى ورائى يحمل سوطاً يضربنى به كلما مِلت ، فأعتدل رغماً عنى .. وقال المحقق :
- أنت متهم بالانضمام إلى جماعة محظورة ، والقيام بأعمال من شأنها أن تثير الفوضى فى البلاد ، وتهدد الأمن العام ، وذلك تمهيداً لقلب نظام الحكم ، ومتهـ ..
قاطعته دون وعى :
- أنا !
- لا تقاطعنى يابن اللئيمة ، ولا تتكلم إلا إذا أذنت لك .
وأردف بعد صمت لم يطل :
- يبدو أن ذاكرتك لم تنعش بعد ..
- بل أنعشت بما فيه الكفاية .
قلتها وأنا أمد يدى أمامى وكأنما أدفع عنى خطراً أعرفه .. ورد
ساخطاً :
- لا ألعب معك .
- سوف أعترف بما تريده يا سيدى ..
- ليس قبل أن تقلـ ....
قاطعته متوسلاً :
- سيدى .. سيدى .. سيد .. دى ..
لم أدر ما يقول . غير أن ذهنى شرد لحظة وأنا أردد لفظ " سيدى "
حين وقعت عيناى على عينيه ، ولمحت ذلك الطرب الذى أحدثته هذه الكلمة فيه ، وبان لى الحق جليا : نحن بالفعل سادة وعبيد .نعم .. عبيد لا نملك أى شىء .. لا نملك إنسانيتنا . حاولت أن أطرد هذه الفكرة من رأسى ، وكان من السهل علىَّ ذلك خاصة والمحقق قد أكمل ما قطعته أنا من حديثه ، فهزنى بعنف حيث قال :
- ليس قبل أن تقلد نباح الكلاب .
- سيدى ..
- دعنا نتسلى قليلا ، فقد أجهدتنى .. هيا اركع وانبح كما تنبح الكلاب .
وأشار إلى الجندى الذى يقف خلفى ، فضربنى بقبضته على ظهرى ، ووجدتنى على الأرض ، ووضع حذاءه فوق رقبتى قائلاً :
- نفذ الأوامر ..
وقلدت الكلب وهم يضحكون ، وصرخ الجندى :
- ارفع صوتك ، ليسمعك الباشا جيداً ..
وانخرطت فى بكاء لم أستطع أن أمنع نفسى منه . لم أكن أريد أن أبكى . ولعنت الدنيا وتذكرت قولها لى بأنها حامل ، فلعنتها هى الأخرى . وحين نهضت تراءى لى رأفت منصور ، وبريق الطرب فى عين الباشا المحقق ، فبصقت على رأفت ، وتناثر اللعاب على وجه الباشا مما زاد من هياجه ، ولكمنى الجندى بعنف فتناثر الدم من فمى وأنا أسقط ، وقمت مسرعاً نحو الباشا ، لأمسح الرذاذ الذى أصاب وجهه ، لكنى لم أصل إليه لأن الجندى عاجلنى بلكمة أخرى ، وتراجع الباشا إلى الوراء .. وقال ساخطاً :
- خذوه إلى جهنم ..
- لقد قلدت نباح الكلاب ياسيدى .
- لم تصن النعمة !
- لم أكن أقصدك أنت يا سيدى..
وجرنى الجندى إلى قاعة حمراء . أرضها عبارة عن قرص يدور بسرعة رهيبة ، ومن فوقه جثث ملقاة تئن .. كانت منتفخة . رمانى الجندى فوق القرص ، وضغط على زر فى الحائط ، فارتفع القرص حتى السقف ، وهبط بسرعة وعاد إلى الارتفاع فالهبوط ، والجثث تصطدم بالسقف ، فتشق تأوهاتها الواهنة المختلطة بالدم والهم أعتاب الأكاذيب المدعاة ، لتدين الدنيا بأسرها .. هنا لا زمن ولا حياة .لا أدرى كم من الوقت مر ونحن نصطدم بالسقف ونتهاوى إلى القاع ، فقدت الوعى .. الوعى بكل شىء ، غير أن أمى كانت تبدو لى بين الحين والآخر . كانت محتقنة الوجه ، والدم يسيل غزيراً من فمها . وبدا لى بطن زوجتى وقد انتفخ ، وتدلت منه رأس طفل .. وكان الدم يسيل غزيراً من فمه هو الآخر . وانتفضت فجأة فوجدتنى فى حوض ماء شديد البرودة ، وعلى حافته يقف عدد من الجنود بأيديهم سياط وعصى ، وكلما اقتربت من حافة الحوض ، ضربنى جندى بسوط أو عصا . لم أكن وحدى فى الحوض .. وبعد حين لا أستطيع تحديده جرنى جندى إلى حيث يجلس الباشا خلف المكتب البيضاوى ، وسألنى :
أنت الآن مستعد للتحقيق أم ....
- تمتمت لا هثاً :
- مستعد يا سيدى..
- أنت لست مثلهم ولكن القرائن كلها ضدك .. نعم .. إنهم يفاخرون بانتمائهم لله وإلى تلك الجماعة التى....
- لكنك لست منهم .
- نعم .. نعم ياسيدى لستُ منهم .. لست منهم .. لم أكن يوماً منهم ..
- لكن .. ما الحيلة ؟ .. أنت رجل طيب ووديع .. نعم ..
- نعم .. نعم ..
وأشار إلى الكاتب .. وقال :
- وبمواجهة المتهم اعترف بما هو منسوب إليه من جرائم ، وبما اقترفه فى حق الوطن و .. كنت أنتبه على بعض الكلمات التى ينطقها المحقق ثم أغيب عنه . وعادت كلمة " الطريق " تدب فى أحشائى، ورأفت منصور يهز كتفى ووجهه الباهت يقطر ضعفاً ويقول : " لأنت بثباتك أشد عليهم من سياطهم على جسدك " .. وبصقت ثانية ، فهاج المحقق ، وأخذنى الهلع ، وقال :
- يابن الزانية .. أنت متهم بمحاولة قلب نظام الحكم ..
- نعم .. نعم .. نعم ..
والتفت إلى كاتبه قائلاً :
- إلى أين وصلنا ؟
- بقى أن يوقع المتهم ..
ووقعت أسفل الورقة ثم وجدتنى فى الزنزانة من جديد