أستاذية محمد مندور

بقلم: محمد جبريل
............................

في مطالع الستينيات. كانت رابطة الأدب الحديث مدرسة ثقافية حقيقية. أساتذتها يحيي حقي وعبدالقادر القط وكمال نشأت وعبداللطيف النشار وعبداللطيف السحرتي وتوفيق حنا وغيرهم. إلي جانب إبداعات صلاح عبدالصبور ومحيي الدين فارس وجيلي عبدالرحمن وكمال نشأت وفاروق منيب والعديد من الأسماء التي تخلق منها المشهد الإبداعي لجيل الستينيات.
كان محمد مندور من أهم الأساتذة الذين أفدت منهم شخصيا. قيمة الأستاذ ليست في مجرد ما يعرضه من قراءات. ولا مناقشاته لأفكار الآخرين. ولا حتي فهمه المستوعب للاتجاهات المختلفة. لكن القيمة الحقيقية في الاضافة التي يثري بها وجدان تلامذته. والتأثيرات التي قد تبدل ثوابت في الممارسة الفنية.
بالإضافة إلي دوره التنويري المهم - وهو دور أدخله السجن - فلعل أهم الدروس التي تعلمتها من خلال كلمات مندور في ندوات الرابطة. قيمتان مهمتان أضاءتا لي ما بدا شاحبا أو قاتما.
أما القيمة الأولي فهي أن تكون للقصة فلسفتها. فهي تجاوز مجرد الحكي والبوح والفض عن النفس. إلي محاولة تشكيل وجهة النظر الشاملة. بما يمكن تسميته فلسفة الحياة. ليس بمعني الميتافيزيقا. إنما هي تشمل علم الجمال والسياسة والاجتماع والتاريخ وكل ما يهم الإنسان في هذا العالم.
أزعم أن كلمات محمد مندور بدلت نظرتي إلي العملية الإبداعية تماما. عدت إلي تأمل ما قرأت. وبحثت عن الدلالات في قراءات تالية. ووجدت في أعمال نجيب محفوظ تعبيراً شبه متفرد عن فلسفة الحياة بالمعني الذي أشار إليه مندور. لخصت فلسفة محفوظ في الدين والعلم والعدالة الاجتماعية. بينما تناثرت في إبداعات الآخرين مواقف ورؤي غير مستقرة. حتي أن أستاذنا الحكيم عبر في إبداعه عما يمكن تسميته بفلسفة الزمن. فلما حاول التنظير لهذا الإبداع طلع علينا بما سماه التعادلية!
أما القيمة الثانية فهي ما سماه مندور بالهمس في الشعر. أو الشعر المهموس. بمعني أن الشعر الحقيقي يرفض الزعيق والجهارة والمباشرة. ذلك ما تتطلبه - ربما - خطبة وعظية أو تحريضية. أما الشعر فهو قد يتناول أخطر القضايا في لغة شفيفة هامسة. هي لغة الفن وليست لغة الخطابة التي ما تلبث أن تزول من نفس المتلقي. وعلي حد تعبير مندور فإن الصورة تفضل التعبير المباشر والقصد إلي الإيحاء أشد فنية من الإبانة والإفصاح.
أستاذية محمد مندور في التأثيرات العميقة التي أحدثها في وعي تلاميذه. حتي هؤلاء الذين لم يتتلمذوا عليه بصورة مباشرة. لقد وجدوا في كتاباته مغايرة. فهي تنبههم إلي المعاني التي يجب أن يعنوا بها. لا يجترون اجتهادات السلف. ولا يكتفون بالتقليد والمحاكاة. لكنهم يصدرون في إبداعاتهم عن خصوصية في التجربة. وتفرد في الصوت. من خلال تفهم لطبيعة الفن. بداية من جمالية التعبير إلي المفردة اللغوية.
.....................................
*المساء ـ في 2/6/2007م.