أحمد محمّد محمود*
أورد ( خير الدين الزركلي ) في موسوعته "الأعلام" عن الرحـــالة ما يلي: محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي، وزير، رحالة، من الكتاب البلغاء من أهل مكناسة، استخدمه السلطان سيدي محمد بن عبد الله في بعض الأعمال، ثم استوزره وانتدبه لكثير من المهمات وعقد المعاهدات، وكان سفيره في إسبانيا، ومالطة، ونابولي، والآستانة، وإلى إمبراطور النمسا، توفي بمراكش، من كتبه: الإكسير، البدر السافر، رحلة إلى مالطة، وهذه الرحلة التي أطلق عليها (إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والرسول الحبيب)، توفي عام 1213هـ - 1798م.
حقق رحلته وقدم لها بدراسة قيمة ضافية "محمد بوكبوط" ووصف الرحالة الذي انتهت رحلته في آخر يوم من شعبان عام 1202هـ "بأنه من عيار كبار رجال الدولة الذين ساهموا بفعالية في صنع أحداث النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي" ووصف الرحلة "بأنها تقدم مشاهدات على طول طريق الحج العثماني، بحيث ينفرد الرحالة بذلك، نظراً لكون جل الرحلات المغربية إلى الحج، كانت تسلك عبر طريق مصر الذي ظل ركب الحج المغربي يتخذها، كما تساهم الرحلة في تصحيح كثير من المقولات التي علقت بتاريخ العثمانيين، من جراء الاعتماد شبه المطلق على كتابات وتقارير الأوروبيين، وبالإضافة إلى ما يراه من إحاطتها بوصف دقيق لطريق الحج، أتى الرحالة على مواضيع ثقافية وإسلامية ومعلومات واسعة، فكانت رحلته: حجازية، سياحية، اكتشافية، سفارية، زيارية، علمية."
ولما لهذه الرحلة من قيمة علمية، وتاريخية وأدبية، ودبلوماسية، نستعرضها في عددين - إن شاء الله -، ونبدأ بمنطلق الرحلة حتى انتهاء زيارته الدبلوماسية لعاصمة الدولة العثمانية ومشاهداته فيها وملاحظاته عليها، ووصوله إلى دمشق في طريقه لأداء الحج.
ويقدم الرحالة المكناسي لكتابه بالحديث عن فوائد الرحلة والاغتراب، "فإن التنقل في البلاد والتأمل في مخــلوقات الله من العباد، تذكرة للقلوب، وتبصرة على أن الاغتراب وحده يحدث في القلب خشوعاً، وإلى الله رجوعاً، وعن غيره نزوعاً، ولو لم يكن في الاغتراب إلا هذه الفائدة لكفاه فضلاً، وأحـــــرز في السبق إلى الفضل خصل."
وجاء الرحالة على مناسبة تعيينه في مهمة دبلوماسية إلى القسطنطينية العظمى "حتى نتلاقى مع سلطانها "السلطان عبد الحميد خان" 1725 ـ 1789م، ومن هناك نستعد للسرى إلى أم القرى، لقضاء مناسك الحج، ونفرق هديته على أهل الحرمين الشريفين، وأن نرسم له ما تتفق رؤيته في هذا السفر، في البدو والحضر."
انطلاق الرحلة
بدأ الرحالة أول عام 1200هـ - 1785م، منطلقاً من الرباط، إلى تطوان، ومنها تعذر سفره بحراً بسبب اضطراب البحر في فصل الشتاء، فأمضى أربعة أشهر ونصف في انتظار الفرصة المواتية للإبحار، وبقي في تطوان "لا نستطيع من كثرة الأمطار والطين خروجاً" ثم توجه إلى طنجة، ومنها عشية ثاني رجب من عام السفر، "ركبنا البحر في مركب بعثه عظيم الإصبنيول، ملك إسبانيا كارلوس الثالث<، فتوجه إلى قرطاجنة الإسبانية فوصلها في ثلاثة أيام، ومنها أبحر في مركب كبير "فبقينا نتردد في البحر لأن الريح غير مواتية شهراً ويومين، حتى تغير الماء وتأذى الناس من شربه فوصل إلى (سرقوزه) على الطرف الجنوبي الشرقي لجزيرة صقلية، ومن هذه المدينة كان دخول المسلمين على عهد بني أمية حتى تملكوها وبقيت تحت حكمهم نحواً من 300 سنة."
وقد فرح سكان صقلية بدخول المركب وطلبوا من ركابه النزول في الجزيرة، "ولما رأوا امتناعنا جاؤوا ذات ليلة إلى المركب بقضهم وقضيضهم، ومعهم المنشدون، واستعد قبطان السفينة بتزيينها، بما يناسب عوائدهم، وبعد غروب الشمس أتى أهل البلد، وبدأ حفل السمر متبوعاً بتوزيع الحلويات، ثم شرعوا في الغناء."
وفي رابع رمضان، غادر المركب صقلية، وكانت الريح مواتية، فوصلوا إلى جزائر بحر إيجة والتي سماها الرحالة "جزر بر الترك" "وتحرك علينا ريح غير موافق، وبقينا نساعفه باستعمال السير أمامه يميناً وشمالاً، إلى أن قربنا إلى بغاز (البوسفور- القسطنطينية)، وفي هذه النواحي توفي عضو من أعضاء الرحلة، وكان البر بعيداً، فألقيناه في البحر، رحمة الله عليه<، ووصف الرحالة عادات المراكب البحرية إذا أرادت دخول الموانيء العثمانية: "يخرج المركب مدفعاً إعلاماً به ويتمادى في سيره، فتخرج سلطات الميناء مدافع كثيرة يباعدونها عنه حتى لا تصيبه، إظهاراً للقوة" ، فوصل إلى ميناء القسطنطينية رابع شوال من عام السفر، فأرسلت السلطات زوارق تسأل قبطانه عن خبره - كما هي العادة - "ولما علم السلطان بخبر السفارة والسفير بعث إلينا ونحن في المركب على سبيل الإهداء والإكرام، أواني كثيرة من الزجاج، مملوءة بأنواع الحلوى والتحف الكاملة الظرف، مع فواكه الموسم، ومن الغد أتى أعيان الدولة بزوارق فركبناها وتوجهنا إلى العاصمة."
وقد أنزل رجال التشريفات الوفد المغربي في دار كبيرة وواسعة، فخيمة الفرش تطل على البحر في منظر عجيب، "وأقمنا خمسة أيام بعد نزولنا، واستدعانا الوزير "الصدر الأعظم" يوسف باشا خوجا إلى ملاقاته، فمن عاداتهم ذلك، وسرنا في موكب فخم، يضم جماعة من الأعيان، فركبنا الخيول وتقدمت خيلهم أمامنا ورجالهم حافون بنا، ومررنا بطرقات المدينة حتى وصلنا دار الوزير المعدة لجلوسه، واستفهم منا الوزير عن حال السفر والتعب وما يناسب المقام، ثم أُتي بالقهوة فشربنا وتلك عندهم عادة لازمة، ثم البخور والطيب، وبعد أن كسانا بقفاطين، وقدم للوزير رسالة سلطان المغرب للسلطان العثماني على ما جرت به عوائدهم، ترجمت إلى التركية قبل تقديمها للسلطان، ثم طلب إلينا التوجه إلى مكتب (الكاهية) ففعل معنا مثل ما فعل الوزير، ثم توجهوا بنا إلى "الدفتردار" الذي بيده أموال السلطان، فأكرمنا على نحو سابقيْه."
مع السلطان العثماني
وفي يوم 72 من شهر الوصول، حدد الصدر الأعظم للسفير ورفاقه موعداً لملاقاة السلطان العثماني وتحركت البعثة الدبلوماسية من مكان نزولها قبل الفجر "فقدموا لنا خيلاً مكلفة السروج، فركبناها وتقدمت خيلهم موكبنا وحفت رجالهم بنا، وانتهينا إلى مسجد صلينا فيه الفجر، ثم توجهوا بنا إلى ممر قبالة دار الوزير وأوقفونا صفاً، وانضممنا إلى موكب الوزير عند تحركه بعد طلوع الشمس حتى وصلنا باب دار السلطان فنزلنا، وجلسنا على مساطب مهيأة للراحة، فأخذونا إلى حيث يجلس الوزير فأجلسونا إلى يساره، وشاهدنا جانباً من أسلوب إدارة الدولة حيث تعرض على الوزير القضايا والشكاوى فيرد عليها، ونودي على كل من له شكاية أن يتقدم، والسلطان يراقب ذلك من نافذة مجاورة، وبعد انتهاء النظر في القضايا، أُحضر الطعام، فأخذوا في وضع أواني الطعام، إناء في إثر إناء، فنصيب من كل إناء أكلة ويُرفع، ثم قمنا إلى مكان جلوسنا، فطافوا علينا بأباريق الماء والصابون لغسل الأيدي، ثم بالطيب والبخور، ثم توجهوا بنا إلى موضع آخر، وخلعوا على جميع من حضر، فلبسنا الخلع، ثم أخذونا إلى مكان تمهيداً لملاقاة السلطان العثماني."
ويصف الرحالة مراسم استقبال السلطان له ولمرافقيه: "ووجدنا أقواماً معينين للدخول معنا على السلطان، فأمسك بثوب كل واحد منا رجلان منهم عن يمين وشمال، فدخلنا عليه في قبة فوجدناه جالساً على مرتبة والوزير قائم عن يمينه، فشرح الوزير للسلطان وضعنا ومهمتنا، ومن أين أتينا، فقدّمتُ له هدايا سلطان المغرب، ووقفنا أمامه مقدار وقت قليل ثم خرجنا من عنده< وشرح الرحالة كيف أن استقبال السلطان العثماني لهم بهذه السرعة، وبالبروتكول الاحتفالي الذي شاهده "لم يتفق لأحد من قبل، كما أخبرنا بذلك أهل الديوان، وإنما يقابل السلطان البعثات والوفود في مناسبات الأعياد، أو عرض العسكر لقبض الراتب."
ويعطي الرحالة (المكناسي) نبذة عن سيرة السلطان العثماني، وموجزاً لتاريخ الدولة العثمانية، ووصفاً للعاصمة "القسطنطينية": "وما رأيت ما يؤدي وصفها ومعناها وما اشتمل عليه أقصاها وأدناها، إلا ما أجابني به بعض أحبار النصارى ممن استوطنوها، يقال إنها مدينة هذه الدنيا، ففيها من الأمور الدنيوية ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فلا يمكن أن تسأل عن شيء غريب إلا تجد له سوقاً، حتى الحشرات لها سوق يرتاده أهل الطب."
"فهي محشر الأمم، ومحط الرحال، وبحر العمران، وغاية القصاد والمورد العذب للوراد، إلا أن بردها عاصف، وقرها لا يصفه واصف، ولا يرده دثار، ولا موقد نار، فهي إناء للثلج المصبوب، فتنبو عن المضاجع من قرها الجُنوب."
وكفاها فخراً أن ضمت قبر الصحابي (أبي أيوب الأنصاري)، وكونها موطن جهاد وقراع للعدو وجلاد، وما بهــا من الخيرات تفصــــيلاً فشيء لا تفي به عبارة، ومن أغرب الغرائب ثبات أسعار الحاجيات فيها على كثرة سكانها، وترسو في مينائها من السفن في وقت واحد 80,000، والسفن ترد إليها كأنها القوافل.
ويعطي وصفاً لأعظم مساجدها، وفي مقدمة ذلك أيا صوفيا، ومسجد السلطان أحمد، ومسجد السليمانية، الذي بناه السلطان سليمان القانوني- 1520 - 1566م، ومسجد العثمانية، ومسجد السلطان محمد الفاتح، وبه 16 مدرسة يتلقى طلابها جراية شهرية، ويصف مكتباتها- التي لا يوجد مثلها في سائر البلاد-"ويســـهر على أمــــــن الـمدينـــة 40,000 شخص يتناوبون الحراسة ليلاً ونهاراً وهي مشحونة بالسلع والأمتعة ولا يضيع منها شيء، ولا تجد فيها على كبرها جلبة ولا غوغاء، ويعاقب من يقوم بشيء من ذلك."
ويصف الرحالة حفل زفاف أميرة عثمانية، وما فيه من الفخامة والبذخ، ويأخذ عليهم بعض الممارسات "ومنها أنهم في الاحتفالات إذا أكلوا وشربوا وتطيبوا كسروا الأواني جميع."
وبعد أن أدى السفير ـ المكناسي ـ مهمته في بلاط السلطان العثماني، جاء وقت سفره من العاصمة التي أعجبته كثيراً: "وفي يوم الثاني والعشرين من الشهر استدعانا الوزير بقصد الملاقاة والوداع، وتم ترتيب موكب على نحو موكب الاستقبال يوم وصولنا، وفي مجلس الوزير تدارس مع السفير المغربي علاقات الدولة العثمانية بأوروبا، ثم خلع الوزير خِِلعاً على المكناسي ورفاقه "وكان السلطان العثماني قد عين الخيام والبهائم لحمل أثاثنا وأثقالنا والمحامل لركوبنا، فتأهبنا للسفر، وقطعنا البحر إلى البر الآخر يوم الجمعة 23 من رجب، مبتدئين الرحلة إلى الحجاز عبر طريق الحج العثماني."
الرحلة إلى الحجاز
ويحــــدد المكناسي خمس مراحل بين القســـطنطينية والشام، يقطعها ركب الحجيــــج العثماني، بحيث يستريح بعد نهاية كل مرحلة، ويريــــح الدواب، ويســــتكمل الركب تأمــــين وشــــراء وكراء ما يحــــتاج من مـــؤن لبقية مراحل الرحلة.
وكان منطلق الرحلة بعد عبور البوسفور من أسكدار، مروراً على التوالي بـ: قرطل، كبزة، ديل سقال سي، خارسك كوي، "ثم رحلنا فســــرنا بين جبــــال يتخللها وادي يقال له "كاور كو" أي قرية الكفــــار، وتمادينا في المسير في الوادي يعترضنا في دورانه بينها، فقد عبرناه نحو 12 مرة حتى وصلنا للقرية السابقة، وأهلها كلهم نصارى تحت رعـاية السلطان عبد الحميد، وعليـــها بساتين كثيرة وجلها شجر التوت الذي يعلف بورقه دود الحرير، ومنها وصلنا إلى "جنزنك" أي مدينة الرخام، ولها سور من أعظم الأسوار وأمنعها وأعظمها حجارة إلا أن به خراباً، ومنها إلى "لفك" التي أخذت اســـمها من نهر تقع عليه، ومنها إلى "خان الوزير" الذي ابتـــناه ســنان باشا بقصد أن ينزل به ركب الحجاج زمن الشتاء والثلج والوحل."
"ومنذ أن غادرنا العاصمة ونحن نمر ببلاد ليست سهلة ولا صعبة بل هي وسط بين ذلك، ماؤها كثير، وأثرها كبير، وظلها من كثرة الأغصان ظليل، ونسيمها عليل، ولا تمر بساقية فضلاً عن واد إلا على قنطرة، ولا بمكان ذي وحل إلا على جسر بحجارة مرصفة منصوبة."
ومنها إلى مدينة السكوت، فمدينة أسكي شهر، وهنا تنتهي المرحلة الأولي من مراحل قوافل الحج، "فأقمنا بها يومين، بقصد الاستراحة وإراحة الدواب، وفيها يأتي في العادة جميع الخدمَة من سقائين وطباخين وفراشين وأصحاب المحامل ودواب الحمل وغير ذلك يطلبون من مخدوميهم إكراماً زيادة على الأجرة المعلومة، وصار ذلك عادة لازمة ويسمون ذلك "البقشيش" بلغتهم، وبها حمام مبني على ماء يخرج من الأرض في غاية الحرارة، وجعلوا له حوضاً كبيراً عمقه أقل من القامة فهو مثل المغطس يصب فيه الماء ويخرج منه، والناس يغتسلون فيه، وعليه من يخدم الزبائن مقابل أجر يعطى على الفوطة، وقد اغتسلت فيه ولم أستطع المكوث فيه كثيراً لحرارة الماء."
ومنها مر الرحالة على "سيدي الغازي" وهي مؤسسة على ربوة من الأرض أسفلها نهر عذب وعليه كان نزولنا، وهي شديدة البرد كالبلاد التي مررنا عليها من قبل، وبعد عدة قرى في الطريق مررنا على "بياض كوي" فوجدناها خالية من أهلها، لأن أهلها يرحلون في طلب الكلأ لماشيتهم، لأن بلادهم باردة، وربيعهم متأخر.
وبعد قرى بلودم، تاي ـ سقلي، "سافرنا في بلاد منفسحة وفجاج ومياه وطيور وأزهار على أنواع متعددة، ما رأيت مثل هذه الأرض مياهاً عذبة، حتى وصلنا "أق شهر" ويقول أهل البلد إنها مدينة "جحا" صاحب الحكايات المعروفة، وأرونا قبره، ومررنا على "اللاذق شمال قونية" وأهلها يصنعون الزرابي الكثيرة، وجاء أهلها إلينا يعرضون بيعها، ومنها إلى "قنية" الشهيرة بين عمورية وأنطاكية، وقبل وصولنا إليها مررنا بفجاج وصحارى كثيرة الغبار والعجاج قليلة النبات، وقُنية هي بداية المرحلة الثانية من مراحل قافلة الحج العثمانية إلى الشام، وأقمــنا فيــها يومين للراحة، وفيـها شــــيخ من عــــادة العثــمانيين أن يذهب للســلطان الجديد ليبايعه ويأخذ عليه العهد في أن يسير بالمسلمين بالعدل، ويقلــــده الســــيف علامة على تمام البيعة والانقياد لحكمه وأمره ونهـيه، وبعده يبايع السلطان الجديد الأعيان والناس."
ومر الرحالة في المرحلة الثالثة من مراحل الطريق بقرى منها "قربنار" "لم يستقر لنا فيها مقــام ولا اســــــتراحة ولا منام، لرياحها الشديدة وعجاجها، وتصنع في هذه القرية الجوارب التي تجعل في الأرجل من الصوف ومنها تصدر للبلاد."
ووصـــلنا لقرية "كُجُك شام" وهي ذات بســـاتين وأزهار وجداول وأنهار وأغصان وأطيار، والجداول تتلوى في القــــرية كالثعبان، ومعنى اسمها بالتركية "الشــــام الصغير" لكثرة مياهها وأنهارها.
"ووصلنا إلى قرية "ألن قشلة" وبها خان "فندق" عظيم ومسجد شيد بقصد نزول الحجاج إذا صادفوا فصل الشتاء لشدة البرد، وكان بردها شديداً عندما مررنا بها في شهر مايو، ومنها إلى "الصندقلي" وفيها نزلنا من المحامل وركبنا الخيل لصعوبة أرضها، وكان بردها شديداً وبها رعود، ونزلت صاعقة قتلت واحداً من مرافقينا، فدفناه في مكانه، ولم يصب بجرح ولا كسر وإنما مات من قوة الصيحة."
وسار موكب الحجاج في طريق صعبة وخطرة "فمررنا بطريق محفور في حاشية الجبل، والوادي أسفله، مع توالي صب البرد والأمطار حتى وصلنا إلى "أوابل" وفي هذا الطريق عدد من الفــــنادق يأوي إليها الحجاج والمسافرون إذا أعاقهم المطر والثلج، حتى وصــلنا إلى أدنة، وهي بداية المرحلة الرابعة من المراحل الخمس إلى الشام، بحيث يستريح فيها المسافرون ودوابهم، ويشترون ما يحتاجون للمرحلة التالية."
"وأدنة" هذه فيها ما يدل على أنها كانت من أعظم المدن، ومن بديع ما رأيت بها القنطرة المقامة على نهرها، تتكون من 16 قوساً في غاية الكبر، بين كل قوسين منفذ للماء، ومن غريب ما رأيت بالوادي: بيوت كبار كلها من الخشب على متن الوادي مربوطة بسلاسل في القنطرة، وفي داخلها مطاحن للقمح تدور بدواليب مربوطة فيها يديرها الماء، فإذا كثر الماء في موسم الأمطار وخشي عليها ترخى السلاسل ويؤتى بها إلى شاطئ الوادي، ومنها توجه موكب الحجاج إلى "المصيصة" قرب أنطاكية، "وهي كثيرة القطن ولأهلها اعتناء به فنزلنا بأرض يقال لها "قرطقراط" تلقّانا عند قنطرتها رجل ثائر في شرذمة من خيله، له شيء معين يأخذه من الركب كل سنة، ويمر مع الركب حتى يخرجه من بلاده في مسيرة يومين، وأكرمه كبير الركب وخلعوا عليه، وأخذ من الركب ما شاء من الخيام وما أشبه ذلك مقابل الخفارة في أرضه، وسار أمام القافلة حتى بلغ بها قلعته "بيّاس" وهي كثيرة البساتين إلا أنها مهدمة خربة، وبعدما خرجنا من أرضه مررنا بجماعات من أصحابه متفرقين يهنئون الركب بالسلامة ويقولون لهم: هاتوا حق السلامة، فيعطونهم."
في الشام
ومرّ موكب الحجاج بقرية الإسكندرونة، ويقال لها "مرسى حلب"، "وأهل الجبال التي مررنا بها لم تنلهم الأحكام، فقد تعرضوا للركب يأخذون منه لا على وجه الطلب، ولكن بالقوة، وربما يمدون يدهم إلى بعض البهائم الحاملة حتى يستنقذها أصحابها بما يطلبونه منهم، وإسكندرونة بنيت بين جبال وعرة ذات أنهار وعيون ثرة، طرقاتها في غاية الصعوبة، مررنا بها ليلاً بالمشاعل على خطر، وربما سقط بعض الإبل من بعض جرفاتها فما أمكن استنقاذها< ومر الركب بأنطاكية المشهورة "وهي مدينة كبيرة وأرضها أرض حراثة وفلاحة، على وادي العاصي، وقد جرى على لسان العامة خرافة أنه من النيل، ولا أصل لذلك، وهي اليوم ليست بالحال الذي يناسب شهرتها، فقد غيرها توالي القحط والوباء، وقد وجدنا بقيته، وصلناها في الصيف والزرع في سنبله لم يحصد لقلة الناس، فقد أبادهم الوباء، ودخلت حماماً بها فأخبرني واحد من عماله أنهم كانوا قبل ذلك 60 شخصاً، وهم اليوم اثنان فقط، وزاد من سوء حالها ظلم حكامها، الذين يأكلون اللحم ويمتشون العظم، جبر الله حال المسلمين."
ويقال إن بها قبر الرجل الصالح "حبيب النجار" الذي وردت قصته في القرآن الكريم في سورة يس، وهي من وقفات الراحة في مراحل الطريق الخمس إلى الشام.
ومع انطلاق الركب في المرحلة الأخيرة قبل الوصول إلى الشام، "مر ركب الحجاج بأرض الزنبق على وادي العاصي، ومنها إلى جسر الشغر، وبها بساتين كثيرة وزيتون، ومنها إلى قلعة المضيق وهي أقرب إلى أغادير بالمغرب قائمة على جبيل تحتها فندق كبير لنزول الحجاج، ومنها توجه الركب إلى "حماة" وهي مدينة كبيرة مؤسسة على نهر العاصي يشقها، وعليه دواليب كثيرة لاستخراج الماء في غاية الكبر، ويزرع بها القطن، وينسج على ألوان وأشكال، ولما حططنا الرحال بظاهرها، خرج أهل البلد بجميع الأشياء للبيع، والفواكه الموجودة في الوقت لاسيما المشمش الحموي فهو في غاية الحلاوة، وكذا الأردية والأُزر التي يحرم بها الحجاج فهي تشترى من هذه المدينة، فاشترينا منها كما فعل الناس<. ومنها توجه الركب إلى "حمص" وكانت فيما تقدم من الزمان "محفوفة بالمياه الجارية في السواقي، والغدران، فكأنها جزيرة في بحر، أو قلادة في نحر، فوجدنا فيها قبور المشاهير: سيف الله خالد بن الوليد، عبد الله بن عمر بن الخطاب - على حسب ما يزعم أهل حمص-، والصحيح أنه رضي الله عنه توفي ودفن بمكة، وكعب الأحبار من التابعين، وجعفر الطيار أخي الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وعكاشة بن محصن، والصحيح أنه استشهد في حروب الردة في اليمامة، وعمرو بن أمية الضمري، والصحيح أنه دفن بالمدينة، وسعد بن أبي وقاص، والصحيح أنه دفن بالبقيع بالمدينة، وأبو موسي الأشعري ويقال إنه دفن بالكوفة، ودحية الكلبي والراجح أنه مدفون في دمشق بقرية المزة، وعبد الله بن مسعود والصحيح أنه دفن بالمدينة، وغيرهم من الصحابة ممن يقال إنهم دفنوا في حمص."
ويصـــف المكناسي مدينة حمص فيقول: لها سور من أعظم الأسوار، وأزقتها وأســــواقها مرصوفة بالحجــــارة من عمل الروم، ولها القلعة الحصينة، ويقال إن بها المصحف العثماني يخـــرجونه للناس يوم الجمعة، ولم نصـــادف بها جمـــعة حتي نراه.
ومن حمص توجه الركب إلى دمشق "فنزل الركب خارجها، ثم تقدم إلى البلدة فوجدنا أهلها جميعاً خرجوا لملاقاة ركب الحجاج بالفرح والإجلال، والطبول والمزامير، والخيول في مهرجان عظيم، فأنزلونا داراً فيها مياه كثيرة في عدة مواضع، لكون أرض الشام من أكثر البلاد مياهاً، إذ يشقها سبعة أنهر، وأجروا علينا من المؤن والعلوفات ما هو فوق الكفاية في إكرام عظيم، ووجدنا فيها قبوراً للمشاهير مثل قبر نبي اللّه يحيى بن زكرياء، وتبركنا بمصحف الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، فقد أخرجه لنا القيّم من خزانته."، وبها قبر بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد بن عقيل بن أبي طالب، أسماء بنت أبي بكر الصديق، عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، أبو الدرداء عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي وزوجته أم الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، وأويس بن أويس الثقفي، محمد بن مالك الجياني النحوي صاحب الألفية، وغيرهم كثير.
وينهي المكناسي رحلة ركب الحج من العاصمة العثمانية إلى الشام بوصف مقتضب لدمشق: هي مدينة عظيمة بما أضيف إليها، فعدد حماماتها نحو 60 ، ومناسج الحرير تزيد على 15000، عامرة الأسواق، قريبة من جبل قاسيون، كثيرة المياه والبساتين، وكلها على السقي.
----------------------------------
* كاتب سعودي
المرجع:
1- رحلة المكناسي ـ إحراز المعلي والرقيب في حج بيت الله الحرام، حققها وقدم لها: محمد بوكبوط ـ الناشر: دار السويدي للنشر والتوزيع ـ أبو ظبي ـ الإمارات العربية المتحدة ـ والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت لبنان ـ ط أولى عام 3002 م.
2- الأعلام ـ خير الدين الزركلي.



د. أبو شامة المغربي