الموروث الشعبى فى كتاباتى الروائية

بقلم: محمد جبريل

****

نشأت فى بيئة تحض على عشق الموروث الشعبى . حى بحرى شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية . إلى اليمين الميناء الشرقى ، أو المينا الشرقية فى تسمية السكندريين . وإلى اليسار الميناء الغربى ، أو المينا الغربية ، وفى المواجهة خليج الأنفوشى ، ما بين انحناءة الطريق من نقطة الأنفوشى إلى سراى رأس التين ..
هذه البيئة تتميز بخصوصية مؤكدة ، فالبنية السكانية تتألف من العاملين فى مهنة الصيد وما يتصل بها ، ومن العاملين فى الميناء وصغار الموظفين وأعداد من الحرفيين والمترددين على الجوامع والزوايا والأضرحة ، فضلاً عن الآلاف من طلبة المعهد الدينى بالمسافرخانة ..
وإذا كان لبيئة البحر وما يتصل بها ، انعكاسها فى العديد من أعمالى الإبداعية ، فإن البيئة الروحية لها انعكاسها كذلك فى تلك الأعمال ..
ثمة جوامع أبو العباس وياقوت العرش والبوصيرى ونصر الدين وعبد الرحمن بن هرمز وعلى تمراز ، وثمة أضرحة كظمان والسيدة رقية وكشك وعشرات غيرها من جوامع أولياء الله الصالحين ومساجدهم وزواياهم وأضرحتهم . وثمة الموالد وليالى الذكر والأهازيج والأسحار والتواشيح ، وليالى رمضان وتياترو فوزى منيب وسرادق أحمد المسيرى وتلاوة القرآن عقب صلاة التراويح فى سراى رأس التين والتواحيش ، واحتفالات الأعياد : سوق العيد وما يشتمل عليه من المراجيح وصندوق الدنيا والأراجوز والساحر والمرأة الكهربائية وألعاب النشان والقوة وركوب البنز والحنطور من ميدان المنشية إلى مدرسة إبراهيم الأول ، وتلاقى الأذان من المآذن المتقاربة ، والبخور والمجاذيب والمساليب ، والباحثين عن النصفة والبرء من العلل والمدد ، بالإضافة إلى المعتقدات والعادات والتقاليد التى تمثل ـ فى مجموعها ـ موروثاً يحفل بالخصوصية والتميز ..
حين أراجع أعمالى الإبداعية بدءاً من قصتى القصيرة الأولى [ إلى الآن حوالى 90 قصة قصيرة و18 رواية ] فإن تأثير ذلك كله يبين فى العديد من المواقف والشخصيات ، وفى تنامى الأحداث ..
***
رباعية بحرى ، عمل روائى من أربعة أجزاء : أبو العباس ، ياقوت العرش ، البوصيرى ، على تمراز . تعرض للحياة فى بحرى ، منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلى مطالع ثورة يوليو 1952 . لوحات منفصلة من حيث تكامل اللحظة القصصية ، ومتصلة من حيث اتصال الأحداث ، وتناغم المواقف ، وتكرار الشخصيات ..
أنسية التى طالعتنا فى بداية الجزء الأول من الرباعية ، هى أنسية التى انتهت بها أحداث الجزء الرابع والأخير . وما بين البداية والنهاية نتعرف إلى دورة الحياة من ميلاد وطفولة وختان وخطبة وزواج وإنجاب وشيخوخة ووفاة ، فضلاَ عن الحياة فى المعهد الدينى بالمسافرخانة ، وحلقة السمك ، وحياة الفتوات ، والعوالم ، وما يتسم به ذلك كله من اختلاف وتميز ، بقدر اختلاف البيئة وتميزها ..
على سبيل المثال ، فإن الحياة فى البحر ، وصلة البحر واليابسة ، والمؤمنين بطهارة الماء ، وقدرة البحر على أعمال السحر ، والحكايات والمعتقدات عن عرائس البحر والعوالم الغريبة وكنوز الأعماق ، والخرافة ، والأسطورة ، والزى التقليدى ، والمواويل ، والأغنيات ، والأمثال ، والحكايات ، وخاتم سليمان ، والمهن المتصلة بمهنة الصيد كالصيد بالسنارة والطراحة والجرافة ، وأسرار الغوص فى أعماق البحر ، وغزل الشباك ، وصناعة البلانسات والفلايك والدناجل وغيرها ، وركوب البحر ، وبيع الجملة فى حلقة السمك ، وبائعى الشروات .. ذلك كله يتوضح فى الشخصيات التى كانت الحياة فى البحر مورد الرزق الأهم ـ أو الوحيد ـ لها ..
أما الروحية التى تمثل بعداً مهما فى حى بحرى ، فهى تبين عن ملامحها فى كثرة الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة ، ورفع أولياء الله عن الغلابة والمنكسرين ما يحيق بهم من ظلم ، وكرامات الأولياء من اطلاع على الكائنات ، وطى الأرض ، والسير على الماء ، والطيران فى الهواء ، وإتيان بالثمار فى غير أوانها ، وتحويل ماء البحر إلى ماء عذب ، وتواصل الكرامات حتى بعد أن يرحل الولى ، والمكاشفة التى تحققت على يد أبى الدرداء حين أنقذ الإسكندرية من طوربيد ألمانى فى غارات الحرب العالمية الثانية ، والخضر الذى يظهر للمراكب حين يهددها خطر النوات ، فينقذها ، وتجليات الصوفية فى الإشارات والأسرار والرموز ، وارتقاء الدرجات من المريد إلى المقدم فالنقيب فالخليفة خاتمة الدرجات الروحية ، ودروس المغرب ، وتصورات مشاهد الجنة والنار ، والخوف من الجن والمردة والعفاريت ، وإيقاد الشموع على أضرحة الأولياء ، وتقديم النذور ، وكنس النساء للأرض بالملاءات ، أو التمرغ عليها ، يطلبن الخلفة والمصلحة والشفاعة والمدد ، والوصفات الشعبية ، وأعمال السحر ، والتربيط ، والأعمال السفلية ، والوسائل التى بلا حصر لعلاج الإجهاض ، أى سقوط الجنين قبل أن يكتمل نموه : وَصْفات غريبة ، وقاسية ، وتجارب لابد أن تخوضها المرأة الحامل لتحتفظ بالجنين ، ودلالات ظواهر الطبيعة من شمس وقمر ونجوم وكواكب ورياح وعواصف ونوات ومناطق وفرة ـ وجدب ـ السمك . الشمس تجاوز صفتها الظاهرة ، فتتحول إلى صديق للجد السخاوى ، يعرض عليها مشكلاته ، ويأخذ منها ويعطى ، وحين يحس بدنو الأجل فإنه يتطلع إليها ويخاطبها بما لم يتبينه أحد ..
***
روايتى القصيرة الصهبة تتناول طقساً شعبياً ، تغلب عليه الأسطورة . المرأة المنقبة التى تخضع لمزاد وهمى ، من يرسو عليه ، يرفع عن وجهها النقاب ، فيتجدد أملها فى الإنجاب . ويختلط الواقع بالحلم فى أحداث الرواية ، فتغيب الملامح . لا يدرى إن زارته فى الصحو أو فى المنام ، ولا يبين ناس الصهبة عن هويتهم حتى يهمس صوت الأم وهى ترى ابنها ينزل درجات البيت إلى حيث يتجمعون : هل انجذب ؟!
***
أما روايتى زهرة الصباح فهى محاولة لتوظيف حكايات ألف ليلة وليلة فى عمل أدبى حديث . زهرة الصباح هى الفتاة التى تلى شهرزاد فى قائمة الفتيات اللائى ينتظرهن سيف " مسرور " . كانت تحيا فى ظل الخوف من أن يمل شهريار ، أو تخفق شهرزاد فى الحكى ، فيحل دورها . وحاول أبوها ـ وهو من المقربين إلى شهريار ـ أن يفيد من تلك الفترة فى رواية الكثير من الحكايات والطرائف والنوادر والأخبار والعبر والنوادر والسير والمواويل ، تنصت إليها زهرة الصباح ، وتحفظها . تحيلها مخزوناً حكائياً ليعينها على مواصلة الحكى ..
كانت قدرة شهرزاد على استدعاء الحكايات ، أو اختراعها ، وروايتها ، هى وسيلتها للإبقاء على حياتها ، فهى إما أن تصل الحكايات ، كل حكاية بأخرى ، أو تموت . فإذا نفد ما بحوزتها من الحكايات ، أو فقدت القدرة على الإدهاش ، وفقد شهريار بالتالى فعل المتابعة والدهشة ، واصل السياف مسرور حلقات سلسلة الإعدام .. ذلك كله كان يعلمه عبد النبى المتبولى ، فشغل معظم وقته بتحويل ذاكرة زهرة الصباح إلى خزانة تستوعب كل ما استطاع حفظه فيها من الحكايات والحواديت والعظات والعبر ..
تضمن السرد الروائى الكثير من جوانب الموروث الإبداعى العربى . ضُفّر فى نسيج العمل الروائى ، لا لانتساب الرواية إلى عالم ألف ليلة وليلة باعتبارها تراثاً إبداعياً فحسب ، وإنما لأن أحداث الرواية تدور فى أجواء شعبية ، ففيما عدا الشخصيات الرئيسة القليلة ، فإن غالبية الشخصيات من الطبقات الأدنى والمهمشين ..
***
ونحن نستطيع التعرف إلى البدايات الأولى للموروث الشعبى فى حياتنا الآنية ، من خلال توالى الإجابة عن الأسئلة الاثنين والأربعين التى أعادت تقديم سيرة حياة المواطن زاو مخو فى صورتها الصحيحة ، فى روايتى اعترافات سيد القرية . الإيمان بالخلود ، تقديم النذور والقرابين ، الأدعية والرقى والتعاويذ ، العلاقات الأسرية ، السيرة ، الأسطورة ، الخرافة ، الحكاية الشعبية ، الخطابة ، الطرفة ، الطب التقليدى ، التيقن من القدرات العلاجية لشجرة الجميز ، الصفات الشعبية التى تشعل الشبق فى جسد الرجل ، وتسرى بالخصوبة فى جسد المرأة ، الموسيقا الوطنية ، إلخ ..
***
روايتى بوح الأسرار تحاول ـ من خلال معالجة فنية ـ أن تجيب عن السؤال : لماذا اختار الوجدان الشعبى هذه الشخصية أو تلك ، ليضفى عليها من هالات القداسة والعظمة ما يجعل منها أحد أبطاله الشعبيين ؟
حاولت أن أجيب عن هذا السؤال ـ بصورة مطولة ، تقترب من العلمية ما أمكن ـ فى كتاب لى صدر مؤخراً بعنوان " البطل فى الوجدان الشعبى المصرى ، ناقشت فيه جوانب البطولة فى عدد من الشخصيات التى وضعها الوجدان الشعبى فى ذلك الإطار : لماذا اختار عنترة من بين مئات الشعراء فى الجاهلية ؟ ولماذا اختار الظاهر بيبرس من بين حكام المماليك ؟ ولماذا اختار السيد البدوى من بين الكثير من أولياء الصوفية الذين نسبت إليهم مساجد وأضرحة ؟ ولماذا اختار على الزيبق وابن عروس وياسين ومتولى وأدهم الشرقاوى وغيرهم ؟..
التقيت بالمجرم محمد أبو عبده ، أو ابن بمبة فى قرية السمارة الواقعة على حدود الشرقية والدقهلية . بدا فى أحاديث الجميع شخصية أسطورية . كان أبناء القرية يتحدثون عنه بتوقير وحب ، فى حين حذرنى مأمور مركز السنبلاوين وعمدة القرية من محاولة التعرف إلى الرجل ، وأظهروا خشيتهم من أن يرفض لقائى ، أو لا يحسن استقبالى . لكن الرجل استقبلنى بحميمية مصرية ، ودعانى إلى تناول الغداء . وتأملت توسطه لحل مشكلات أبناء القرية ، ومساعدته لهم فى كل ما يطرأ على حياتهم . حتى الحريق الذى أشعلته شرارة حطب ظهر يوم الصيف الذى تصادف أنى زرته فيه ، أذهلنى تصدّيه لإطفائه رغم أعوام عمره المتقدمة ..
بدا لى الرجل وأنا أغادر القرية ، تجسيداً للبطل فى الوجدان الشعبى ـ فى بالى الكثير مما استمعت إليه من الحكايات فى أعوام النشأة ـ : كيف يكتسب صفاته ، فيصبح ـ فى توالى الروايات والحكايات والمواويل والسير ـ ذلك البطل الذى تنسب إليه الأفعال الخارقة والمعجزات [ روى الصديق رفعت السعيد فى ذكرياته ـ فيما بعد ـ عن تعرفه إلى ابن بمبة فى رحلة الاعتقال والسجن . بدا معجباً بالرجل ، وأشار إلى أنه ـ الرجل ـ قتل تسعة أشخاص ، لكن الرجل أكد لى أنه لم يجاوز التخويف ، ولم يقتل أحداً ] . تصورت ابن بمبة ذلك البطل فى عملية التحول داخل الوجدان الشعبى . ولجأت إلى تقنية تعدد الأصوات التى اختلفت رواياتها فى تصاعد درامى ، تتحول فيه شخصية فرج عبده زهران ، أو ابن شفيقة ، من شاب يحترف الإجرام إلى ولى له بركاته وكراماته ومكاشفاته ، وضريحه الذى يقصده الناس لالتماس المدد ، والمولد السنوى ، وحفلات الذكر .. ما بواعث التحول ؟ وكيف ؟ وما نتائجه ؟..
تباينت الروايات فى طفولة ابن شفيقة ، ونشأته ، والظروف التى أفضت إلى تحوله إلى بطل شعبى . بالتحديد إلى ولى صوفى . لكن الروايات لم تختلف فى أن فرج خليل قد أصبح له ضريح ومقام وخليفة وتلامذة ومريدون ، يؤمنون بكراماته ، ويذكرون الله تعالى ..
وكما يقول الصديق الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجى فى دراسته لبوح الأسرار ، إنه إذا كانت أسطورة فرج قد مرت بمراحل ثلاث : مرحلة المظلوم ، ومرحلة الدافع للظلم الواقع على الناس ، إلى مرحلة المقدس ، فإنه ـ فى المراحل الثلاث ـ كان مطارداً . مطارداً من عمدة ظالم ، ثم من قوة الإدارة المتحكمة فى الجماعة ، ثم محاولة هذه القوة مطاردة أسطورته ، وحتى بعد موته ، فإن استخدام تعدد الأصوات جعل الأصوات المطاردة خافتة ، لترتفع الأصوات الواقفة مع فرج ساعة تكوّن أسطورته . إن الأسطورة هنا تمثل الواقع الاجتماعى للجماعة " .
***
وفى قصصى القصار ، تتناثر لمحات من الموروث الشعبى ، متمثلة فى العديد من سلوكيات الحياة ، والمفردات ، والتعبيرات ، وغيرها مما يعبّر عن التميز الذى تتسم به منطقة بحرى فى حدودها الجغرافية ، المحددة ، والمحدودة : الزى الوطنى ، الطب الشعبى ، ألعاب الأطفال وأغنياتهم ، نداءات الباعة ، الكناية ، النكتة ، المعايرة ، القَسَم ، الطرفة ، المثل ، الحلم ، وغيرها ..
***
والحق أنى حين أراجع إبداعاتى التى وظفت ـ أو استلهمت ـ الموروث الشعبى ، أجد أنها وليدة العفوية ومحاولة التعبير عن الواقع . هذا هو ما أفرزته تجربة الحياة والمشاهدة والقراءة والتعرف إلى الخبرات . لم أتعمد الإفادة من الموروث الشعبى ، بل هو الذى فرض معطياته فى مجموع ما كتبت .