(5)

مال من شارع نصوح الهندي الي شارع السلطان سليم..
كانت الكنيسة تلقي ظلها علي الشارع، يمتد الي الناحية المقابلة، حتي بداية الطريق الي محطة الزيتون.
تجاوز باب الكنيسة الحديدي المفتوح، وواصل السير في السلطان سليم، الف قداس الاحد: المجامر والتراتيل والصنوج والارغن والترانيم والشموع وتضوع البخور ذي الرائحة المميزة والماء المصلي عليه وصلصلة الجرس والايقونات وتراتيل الشمامسة والدكك الخشبية والصلاة وتناول النبيذ وقضم الخبز السماوي.
الاب يرتدي لباسه الكهنوتي، وثمة صليب خشبي يهزه في يده، يعظ، وينصح، ويتحدث عن المسيح والعذراء مريم، وعن فعل الخير والخطيئة والحياة الآخرة والثواب والعقاب والجنة والنار، يتأمل الوجوه من حوله، يعرف بعضها وتغيب عن معرفة الآخرين.
كان يجد في قداس الاحد مناسبة للالتقاء بالاصدقاء، وبالذات من يقطنون بعيداً عن الزيتون، يطيلون الوقفة - بعد انتهاء القداس - في الساحة الصغيرة امام الكنيسة، وعلي الرصيف، تلتقي الخيوط في اسئلة واجوبة ومناقشات ويتناقصون حتي يعود الهدوء الي الكنيسة، وما حولها.
كره عظات الاب ونصائحه وتحذيراته، احاديثه عن الله والتوبة والجنة وعذاب الآخرة، مشكلة الاب ام يقدم علي مائدة كلماته طعاما وحيدا لايبدله، مهمابدا الطعام لذيذا، ومستساغا، فان توالي تقديمه قد يصيب النفس بالصدود: لا تفعل.. لا تفعل.. لا تفعل، الناس - خارج الكنيسة - يتصرفون بعكس ذلك، لن تبني الاخلاق الطيبة حياته.
تأملت دومينيك جسده النحيل، ووجهه الابيض، المسحوب، الملئ بالنمس، وحاجبيه الملتصقين في منتصف الجبهة، وعينيه البنيتين سريعتي الحركة، وابتسامته الدائمة كأنها جزء من ملامحه، وحرصه ان يرتدي ثيابا زاهية الالوان:
- جان.. هل تؤمن بالله؟
واجه نظرتها المتوجسة بابتسامة متوددة:
- هل تشكين؟
ضربت الارض بقدميها:
- لاترد علي سؤالي بسؤال، هل أنت مؤمن بالله؟
- طبعاً، وان كان لي ملاحظاتي حول تصرفات القسيس..
ووشي صوته بعصبية واضحة:
- انه يفرض الوصاية علي حياتنا.
رمقه انطوان بنظرة مرتابة..
قال:
- أنا أؤمن بالله، ولست في حاجة الي قسيس لتأكيد هذا الايمان..
وعبر الصمت الذي حل فجأة:
- في رأيي ان الكنيسة مجرد وسيلة لجباية الاموال!
حين رشم علامة الصليب علي وجهه وصدره، قال لنظرة انطوان المتسائلة:
- أنا ادعو ابانا الذي في السموات..
ورحلت نظراته الي بعيد:
- ثم اتبع دعائي بدعاء آخر.. ان يظل فيها.
داري انطوان قلقه بابتسامة فاترة:
- من هو؟ ومن هي؟
وهو يطرح قبضته:
- اله السموات.. أدعوه ان يظل فيها..
قال انطوان:
- أنت قليل الادب.
اعتادت الفيلا مشاجراتهما الصغيرة، تعلو الاصوات، تتكور قبضات الايدي، تتقلص الملامح، لكن الهدوء ما يلبث ان يحيط باللحظة المتوترة، فيودعها الصمت.
قال جان:
- انا اقول رأيي.
ورسم علي شفتيه ابتسامة باردة:
- للمسيح عالمه.. ونحن لنا عالمنا.
وشوح بظهره يده:
-ليأخذ الله شموعنا وصلواتنا، وليترك لنا حياتنا نعيشها.
ثم وهو ينهي المناقشة:
- هل اذكرك بقول المسيح: مملكتي ليست من هذا العالم!
اعتاد التردد علي الكنيسة، يحضر القداس، يتلقي القربان المقدس، يؤدي الصلوات، ويرسم علامة الصليب، يشارك في حفلات عقد القران، ربما شارك في اداء الترانيم، او قرع الجرس، او جال بالمبخرة في زوايا الكنيسة، يسيطر عليه شعور بأنه يفتعل ما يؤديه، لا يمارس شيئا حقيقيا، هو يردد اقوالا، ويقلد حركات لا يفهمها، او لا يثق بجدواها، وان انسجمت مشاعره مع الحان الارغن.
عاب علي معظم المترددين علي الكنيسة ان عباءتهم تقتصر علي التمتة بالالفاظ:
- أنا اذهب الي الكنيسة، اصلي، واردد الادعية والاناشيد، دون ان اعرف لماذا افعل ذلك؟!
وقلب شفته السفلي:
- الله يعرف ما اريده، فهو لا يحتاج الي صلواتي وادعيتي!
قال لأبيه وهو صغير:
- هل نحن اقباط؟
- لا.. نحن كاثوليك..
- ما الفارق؟
- الاقباط مسيحيون مثلنا.. لكننا نختلف في المذهب..
- ماذا يعني المذهب؟
- طريقة تدينهم تختلف عن طريقة تديننا..
كان يشارك في اداء القداس دون اعتقاد، ولا ايمان حقيقي، لم تكن الصلوات تعني له شيئا، اي شيء، انما هي مجرد كلمات مكررة، وادعية، ترددها الالسنة - بآلية - وراء الاب يوحنا، يسلم نفسه الي الشرود، يبدو عليه الضيق والتململ، يكثر من التلفت وتأمل سقف الكنيسة، وزواياها والنوافذ الزجاجية الملونة، الضوء الشفيف يفترش مساحات امام المذبح، وثمة تمثال ليسوع شبه العاري، مصلوبا، علي رأسه اكليل الشوك، وفي جنبه الطعنة الدامية، المرتلون يؤدون الصلوات، ويتلون المزامير والادعية.
يستعيد - وهو يصلي - عبارات كان يرددها وراء الاب في الكنيسة، او استمع الي امه وهي تقولها تحت صورة العذراء.
يري ان الكنيسة تبسط ظلها علي البيت.
جعلت امه في البيت فرعاً لكنيسة اللاتين، تحولت الي قس يرعي، وينصح، ويوجه، ويحذر من العقاب، تحاول ان تؤدي الدور نفسه الذي يؤديه قس الكنيسة.
لا يعبأ بالتحذيرات التي تواجهها له الام، في سلوكياته داخل الكنيسة، يبدي الملاحظات، ويتحدث، ويعلو صوته، ربما رنت نظراته الي فتاة بين المصلين.
هو يتردد علي الكنيسة، يعترف، يحضر الصلوات، لكن الصديق يغيب عن مشاعره، تصرفاته لا تصدر عنه، يصلي دون ان يعطي الكلمات انتباهه، مجرد كلمات يرددها دون ان يعي معانيها.
يميل - بالعادة - الي حجرة الاب في يسار الواجهة، الصليب يعلو الجدار، وتمثال العذراء تحمل المسيح، يقبل يده، ويستمع الي كلماته المتكررة عن مهمة الكنيسة، واللاهوت، وحثه له علي حضور اجتماعت الصلاة وحفلات القداس..
قالت السيدة كاترين:
- اذا كنت تنكر الله، فاحتفظ بعدم ايمانك في نفسك!
يؤمن بالمسيحية، بالأب والابن والروح القدس، لكنه لايؤمن بالكنيسة، تعاليم الكنيسة التي لا تنتهي تجعل قبولها صعباً، حتي من يرضخون، يدفعهم الي القبول تدين يهمل الوصايا والتنبيهات والمحاذير.
ماذا يريد الله منا؟ هل نعبده؟ وما حاجته الي عبادتنا؟ أليس هو الذي خلق الكون، ويتصرف بالحياة والموت؟ واذا كنا - كما يقول الاب يوحنا - أبناء الله، فهل يؤذي الاب ابناءه الخاطئين؟ وما الخير؟ وما الشر؟ ولماذا لاتقضي ارادة الله بمحو الشر؟
ألقي نظرة علي الكرسي الذي يجلس وراءه الاب لسماع اعترافات المترددين علي الكنيسة، استعاد امنية قديمة ان يجلس موضع الاب، ينصت الي عشرات الحكايات التي تلهب خياله.
قال الاب يوحنا:
- ذكر في الكتاب المقدس: من لطمك علي خدك الايمن، فحول له الايسر.
قال جان:
- هذا ما يقوله الانجيل..
أردف من بين اسنانه:
- اما أنا.. من يخدشني اسيح دمه!